الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البناء النحوي في شعر الدكتور مانع سعيد العتيبة ودوره الدلالي

البناء النحوي في شعر الدكتور مانع سعيد العتيبة ودوره الدلالي
24 سبتمبر 2008 23:36
توصلت قبل أيام بنسخة من الأطروحة التي تقدمت بها الباحثة حنان أحمد عبدالله الفياض للحصول على درجة الدكتوراه من كلية دار العلوم جامعة القاهرة في التاسع عشر من يوليو عام ·2008 وبعد مناقشة ساخنة للجنة التي تكونت من كل من: الدكتور شعبان صلاح حسين أستاذ النحو والصرف والعروض ووكيل كلية دار العلوم لشؤون الدراسات العليا والبحوث مشرفاً، والدكتور عبدالكريم جبل أستاذ الآداب بجامعة طنطا مناقشاً، والدكتور أحمد عبدالعزيز كشك أستاذ ورئيس قسم النحو والصرف والعروض بكلية دار العلوم جامعة القاهرة مناقشاً، تم منح الباحثة حنان الفياض درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف في اللغة العربية مع التوصية بطبع الرسالة وتداولها بين الجامعات العربية· موضوع الأطروحة كان مفاجئاً لي، لا لأنه يتناول شعر الدكتور مانع سعيد العتيبة، بل لأنه يدخل الى موضوع اللغة الشعرية لديه· عنوان الأطروحة هو ''البناء النحوي في شعر مانع سعيد العتيبة ودوره الدلالي''· توقعت على عادة كثير من الباحثين الذين درسوا شعر الدكتور مانع العتيبة أن تتطرق الباحثة الى الموضوعات الشعرية والاتجاهات الإنسانية لذلك الشعر، ولكن لم أتوقع أن يكون موضوع الدراسة هو اللغة الشعرية لمانع العتيبة·· وقد أثار بي هذا الاستغراب فضولاً جعلني أقلب صفحات الأطروحة بنهم وسرعة لأتمكن من الإحاطة بالموضوع·· وعدت بعد ساعة من هذا الاستعراض السريع الى الرسالة لأقرأها بروية وأستمتع بالاكتشافات الدلالية التي توصلت إليها الباحثة والتي جعللت لشعر مانع سعيد العتيبة تلك النكهة الخاصة· في مقدمة البحث تبين الدكتورة حنان الفياض أن علماء اللغة العربية الأوائل والذين وضعوا قواعد هذه اللغة ودرسوا نحوها أمثال سيبويه وابن جني وعبدالقاهر الجرجاني، لم يفصلوا أثناء وضعهم لقواعد اللغة العربية بين النحو والمعنى بحيث يكون الفهم الصحيح للنحو هو الفهم الصحيح للأساس الدلالي الذي يقوم عليه النص· لقد أدرك النحاة العرب أن هناك ارتباطاً قوياً بين ما يسمى بالتراكيب وما يسمى بالمعاني والأفكار أو بين الفكر واللغة· فالمعنى وثراؤه مرجع النحو وأحكامه· ولقد حاولت الباحثة إثبات الأثر النحوي في الثراء الدلالي في شعر الدكتور مانع العتيبة· جاء في المقدمة قول الباحثة حنان الفياض: وللشاعر الذي تناولته الدراسة دور بارز في إضفاء الأهمية على هذا الموضوع وذلك من عدة جوانب: الأول: يرتبط بالعتيبة بوصفه شاعراً مجيداً استطاع أن يتمكن من اللغة العربية الفصيحة ويسير على نهج الشعراء القدامى فيها، فقد جاءت جل قصائده على ما يسمى (القصيدة العمودية)· الثاني: يرتبط بالروافد التي غذت شعر العتيبة ومنها ما هو أصيل كالقرآن الكريم وحفظه له في سن مبكرة، ومنها ما هو متجدد كأسفاره وكثرة تنقله وكثرة علاقاته وصداقاته، مما كان له أكبر الأثر في ثقافته ومن ثم في إنتاج قصائده· الثالث: غزارة إنتاجه الشعري وضخامته، وهو لاشك قد أثر في ثراء هذه الدراسة وتنوع الدلالات المستنبطة من أسلوبه النحوي تنوعاً يحاكي القضايا التي طرحها· وقد اعتمدت الباحثة في دراستها على اثنين وثلاثين ديواناً للشاعر وافتقدت ديواناً واحداً هو ''شمس الخلود'' الذي نفدت جميع نسخه من المكتبات ودور النشر· بعد تلك المقدمة المثيرة للإعجاب والتعجب جاء التمهيد الذي تتحدث فيه الباحثة عن مانع سعيد العتيبة وتقدم سيرة ذاتية مختصرة للشاعر وتتناول فيه شاعريته وروافدها وأهم المؤثرات على ثقافتيه العامة والشعرية· توالت بعد ذلك فصول الدراسة الأربعة والتي قرأتها باستمتاع وتعرفت من خلالها على الجهد العلمي الكبير الذي قامت به الباحثة لتقدم من خلال اكتشاف مكامن الإبداع في شعر العتيبة دروساً لجميع المتعاملين مع هذه اللغة الجميلة سواء كانوا شعراء أو روائيين أو قراء عاديين· أتناول في هذا العرض أهم ما جاء في الفصل الأول والذي كان بعنوان: الحذف· أولاً: الحذف ودوره الدلالي: عرفت الباحثة الحذف بأنه ظاهرة لغوية شديدة الأثر في المعنى انتبه إليها واضعو قواعد اللغة العربية الأوائل أمثال سيبويه الذي يرى أن من دلالات حذف النون والتنوين طلب الخفة حيث يقول: واعلم أن العرب يستخفون فيحذفون التنوين والنون ولا يتغير من المعنى شيء·· ويرى كذلك أن طلب الخفة وراء حذف حروف القسم· ثانياً: قرائن الحذف: تم ضبط ظاهرة الحذف بقاعدة عامة تندرج تحتها قواعد فرعية مرتبطة بها، وقاعدتها العامة هي: لا حذف دون دليل·· فقد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة·· ولكن لا يجوز الحذف إلا بوجود دليل عليه وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته، وقد انقسمت الأدلة والقرائن الى قسمين رئيسيين: 1 - دليل الحال 2 - دليل المقال مثال دليل الحال قول البحتري: شجوُ حسادِه وغَيظُ عداهُ أن ترى مبصر ويسمع واع أي أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره وأوصافه· ثالثاً: أنماط الحذف في شعر العتيبة ودورها الدلالي: 1 - حذف المسند إليه· يطلق المسندد إليه على الفاعل الذي يجب ذكره ظاهراً أو مستتراً كما يطلق المسند إليه على المبتدأ· وفي حذف المبتدأ زيادة الاهتمام بالخبر وإيقاع المعنى عليه وعدم الرغبة في الانشغال بالمبتدأ لأن الانشغال بذكره يفضي الى تفويت المهم· وقد ظهرت دلالة الاهتمام بالخبر وانشغال النفس به واضحة جلية في قول العتيبة: ما مر مختزن في خاطري لا تختفي ذكراه من حياتي مدرسة، رفاق صفٍ، صحبةٌ وغاية من أشـــــرف الغــايات (خماسيات الى سيدة المحبة/ 16) حذف الشاعر في هذه الأبيات المسند إليه (هو) والذي دلنا عليه قوله (ما مر بي) إذ التقدير ما مر بي من ذكريات (هو) أو يحتمل أن يكون أيضاً بناء على السياق (ذكرياتي) ومهما كان تقديره فهو لم يكن محط اهتمام الشاعر وغايته إذ نلاحظ أن سرور الذكريات هو الأمر الذي انشغل به الشاعر ورغب في إبرازه فأخبر عنها مباشرة دون أن يقدم لها، فذكر المسند إليه هنا لا يتناسب مع نفسه المشحونة بالذكريات· فبدأ بحذف المسند إليه ثم حذف حرف العطف بين مدرسة ورفاق صف وصحبة وهو ما دل على أن هذا الجزء من الذكريات هو عبارة عن كل متكامل، فالمدرسة ورفاق الصف والصحبة كلها عبارة عن شيء واحد والدليل هو حذف حرف العطف· ومن ذلك قوله مخاطباً ابنته: سفرُ حياتي لست أنكر يا ابنتي ما دمت محكوماً ولست بحاكم سفرُ، رحيل دائم لا ينتهي إن التغرب صاحبي وملازمي (بشاير/ 97) تضافرت في هذين البيتين الأساليب النحوية لتعبر كلها عن حالة شعورية واحدة هي الاغتراب، الذي كان السفر أهم أسبابه، فنجد الشاعر يستخدم التقديم والتأخير في البيت الأول فيقدم الخبر (سفرُ) على المبتدأ (حياتي) ويؤكد هذه الدلالة بأسلوب نحوي آخر وهو الحذف فيحذف المبتدأ (حياتي) في مطلع البيت الثاني لدلالة المبتدأ المذكور في البيت الأول عليه، فالقرينة هنا لفظية، ويؤكد اهتمامه بهذا التعبير (سفر حياتي) تكراره الجملة وهو توكيد لفظي يتضافر مع الأساليب النحوية السابقة ليؤكد حقيقة واحدة هي أن حياته سفر· ولتنكير كلمة (سفر) دورها في تأكيد حالة الاغتراب وتثبيتها، فهو سفر ليس غير، لا الى مكان محدد ولا الى وقت معلوم· ثم يأتي الخبر الثاني مؤكداً حقيقة الاغتراب يأتي بصيغة التنكير أيضاً (رحيل) ويختار الشاعر حذف العاطف لزيادة التثبيت وتوكيد كون الرحيل نتيجة للسفر وسبباً منه وليس شيئاً آخر منفصلاً عنه· ومن أقوى الدلالات التي يؤديها حذف المسند إليه تنشيط الخيال وإثارة الانتباه، ليقع السامع على مراد الكلام ويستنبط معناه من القرائن والأحوال· وقد أدى حذف المسند إليه عند العتيبة في كثير من الأدبيات الى الوصول لتلك الدلالة ومن ذلك قوله: مبادئ حر ليس يمحو حروفها يراع الزمان المر في كف كاتب وعلى هذا السياق الجميل تقدم الباحثة أمثلة من شعر الدكتور العتيبة تبين كيف أدت ظاهرة الحذف النحوي دوراً في التعبير عن أغراض معينة، إذ تبرز في مقامات المدح لأنها تساعد في مثل هذا الغرض على تأدية دلالات قد لا يؤديها الذكر، وقد تنبه الى ذلك النحاة وعلماء البلاغة فقالوا: (لكل مقام مقال)· فالمبدع يختار من بين الظواهر اللغوية ما يتناسب مع السياق، وإذا كانت الدلالات المستنبطة من ظاهرة الحذف تخدم سياقات المدح فهي أشد ظهوراً ووضوحاً في سياقات الضجر، ويظهر ذلك في قول العتيبة: قالوا لزمت الصمت قلت: صحيح فالقول يتعب والسكون يريحُ كما يظهر من تضجره من حال الزعماء العرب في قوله: فهنا زعيم صارخ وصراخه ما فيه للقوم الجياع غذاءُ وهنا زعيم وزعت أبواقه خبز الكلام ليشبع الفقراءُ خطبٌ وتصفيق ومجدٌ زائفٌ هل غير هذا قدم الزعماء يبدو واضحاً من خلال هذه الأبيات الثلاثة أن الشاعر في حالة تضجر وضيق بالغين، وهذه الحالة النفسية سيطرت على لغته في هذه الأبيات ولكنه استخدم فيها الذكر والحذف والتنكير والاستفهام الاستنكاري (هل غير هذا قدم الزعماء)· 2 - حذف المسند (الخبر - الفعل) أ - حذف الخبر الخبر هو العنصر الإسنادي الثاني الذي تتم به فائدة الجملة ويتضح معناها، فلا يغني المبتدأ عن الخبر ولا يغني الخبر عن المبتدأ، وهذا التلازم الواقع بينهما يعد قرينة من القرائن اللفظية الدالة على المحذوف وخبر المبتدأ هو الجزء المستفاد منه لدى السامع وتصير مع المبتدأ كلاماً تاماً· ولكن الخبر قد يرد محذوفاً إذا توفر الدليل عليه وقد لجأ مانع العتيبة الى حذف الخبر لإبراز دلالات معينة وقد وقع هذا الحذف في منطقة الجواز كما وقع في منطقة الوجوب، وقد ظهر الحذف الواجب للخبر عند العتيبة في صورتين هما: 1 - حذف الخبر بعد لولا الامتناعية· 2 - حذف الخبر إذا كان المبتدأ نصاً صريحاً في القسم· مثال قوله: لولا اجتماع صفوفنا للضغط لم نتحمل (خواطر وذكريات/ 65) وقوله: لولاك هل عرفت من أنا ومن أنا سيدتي لولاك؟ (خماسيات 17) وقوله: لولاك ما ابتسمت شفاه رمالنا من بعد طول مشقة وثبور فالخبر محذوف وجوباً في جميع الأبيات السابقة والشاعر غير مضطر لحذف الخبر وجوباً إذا كان باقتداره أن يختار الخبر كوناً مقيداً لا مطلقاً·· (فاجتماع الصفوف) موجود على كل حال وفي كل وقت·· فهو ثابت ويدل على هذا المعنى الجواب (لم نتحمل) فكون اجتماع الصفوف ثابتاً فهو الذي ساعد على التحمل·· فحذف الخبر هنا أدي الى مثل هذه الدلالة· كذلك يقال في قوله (لولاك أنت) أي لولا وجودها لما تحقق الجواب وهو معرفته هويته· أما الشكل الثاني من أشكال حذف الخبر وجوباً هو كون المبتدأ نصاً صريحاً في القسم، وقد تمثل هذا النوع في قول العتيبة: سقاك الله يا بغداد غيثاً وأزهر في الحواضر والبوادي بجسرك والمها قوم تغنوا ومثلهمُ لعمري جئت شادي (خواطر وذكريات/ 30) وقوله في حوار مع البحر: وإذا صمت فإنني أشدو وقلبك يسمع نتبادل الشدو الشجي وذا لعمــــري ممتــــــــع الخبر في كل هذه الأبيات محذوف وجوباً تقديره (قسمي) ودلالة هذا الحذف الواجب يمكن أن تستنبطه من اختيار الشاعر لهذا التعبير (العمري) من أجل القسم· ومن حذف الخبر جوازاً قول الشاعر: ماذا لديك لكي تذيبي ثلجي بهمس من لهيب حبٌّ؟ نعم أشعلتِهِ لما اتصلت ولم تجيبي حذف الشاعر الخبر في البيت الثاني مرتين، الأولى حذفه مع أداة الاستفهام (الهمزة) ويكون التقدير (أحب لديك؟) والثانية حذفه بعد حرف الجواب (نعم) التقدير (نعم لديك حب)· وقد ساعد حذف الخبر في البيت على استيعاب الحوار الشعري، فالدلائل على المحذوف ظاهرة من سياق الأبيات والاختصار لاستيعاب أسلوب الحوار في بيت شعري أصبح ضرورة يقتضيها السياق وليس لمجرد الاختصار لوضوح القرينة مثلاً أو للاحتراز من العبث بناء على الظاهر· وبناء على ذلك يصبح الحذف أقوى الأساليب اللغوية المؤدية للاختصار، وقد ساعد حذف الخبر على تصدير البيت لكلمة (حب) التي عليها بني المعنى، مما يؤدي الى لفت الانتباه لهذا المحور وجذب المستمع إليه من خلال تجريده من كل الأركان النحوية الأخرى حتى وإن كانت هذه الأركان هي أحد العناصر الإسنادية، وكأن الشاعر قد قام بعملية تركيز للمعنى في كلمة واحدة، وقد كانت هذه الكلمة (بيت القصيد) ولذلك ناسبها أن تجرد من الأدوات والأركان النحوية الأخرى التي قد يزدحم بها البيت الشعري دون الحاجة إليها· ب - حذف الفعل يشكل الفعل والفاعل عنصري الإسناد في الجملة الفعلية وهما كالمبتدأ والخبر لا يستغني أحدهما عن الآخر فلابد للفعل من الاسم·· ومع كون الفعل أحد عنصري التركيب الإسنادي في الجملة الفعلية إلا أنه قد يحذف لوجود الدليل عليه، بل إن حذفه قد يجب في حالات بعينها وقد تنوعت حالات حذف الفعل عند مانع العتيبة فوقع الحذف في منطقة الجواز كذلك، ولكنه قد كثر في الوجوب، وهذه الكثرة تشير الى أن استعمال الشاعر للجملة الفعلية محذوفاً فعلها أمر قد تقصد به دلالات معينة كانت أوضح وأظهر في مثل هذا الشكل من الاستخدام، وفي هذا الجانب نستمتع بتحليل الأمثلة الكثيرة التي استشهدت بها الباحثة لتبين الدلالة البلاغية الكبيرة التي ظهرت في شعر مانع العتيبة من خلال هذا الحذف الذي كان له دلالته العميقة والذي ساهم في جعل الخطاب الشعري لدى مانع العتيبة مبدعاً ومثيراً لخيال وفكر المتلقي· وإذا كان المناقشون لهذه الرسالة قد أوصوا بطباعة هذه الأطروحة وتبادلها مع الجامعات العربية فإنني أرجو أن يتسع نطاق الاستفادة منها ليشمل جميع كتابنا وشعرائنا وأدبائنا·· لأنها بالفعل درراسة شيقة وموضوعية وفي صميم لغتنا العربية الجميلة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©