الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بَشَرٌ سِبَاع

بَشَرٌ سِبَاع
24 سبتمبر 2008 23:41
ثمة في المتخيّل العربي خوف من الكلام وفتنته· ثمة إلحاح على أن الصمت والعزلة هما ما يضمن للمرء النجاة من التهلكة· الصمت إبطالٌ للكلام والعزلة تباعدٌ عن الناس وتعطيل للتواصل معهم· يفتتح الجاحظ كتابه ''البيان والتبيين'' قائلاً: ''اللهم نعوذ بك من فتنة الكلام''· ويحذّر التوحيدي من مخاطر الكلام فيعدّه العتبة المؤدّية إلى الهاوية ويجزم بأن: ''الكلام صلفٌ تيّاهٌ''· فحيثما وُجدَ كلامٌ وُجد باثٌّ ورسالةٌ ومتقبّلٌ أي حدث تواصلٌ وإبلاغٌ وعلاقة مفترَضَة بين مُنتِج الرسالة ومتلقّيها· والراجح أن هذا الخوف من الكلام إنما يترجم هلعاً من الناس أجمعين، ورعباً من الصنو والشبيه والصديق· الراجح أيضاً أن الخطابي البستي حين كتب كتابه الشهير ''كتاب العزلة'' إنما انطلق من وعيه الدرامي بأن الجحيم ملتحف على نفسه في قاع النفس البشرية، فلا جحيم أخطر على المرء من آخره وصنوه وشبيهه· لذلك كتب جازماً: ''ما في الأرض آدميٌّ إلا وفيه شبهٌ من شبه البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي لها الطعام الطيّب عافته فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه''· وهو ينصح قارئه المفترض قائلاً: ''فاعلم -يا أخي- أنك إنما تعاشر البهائم والسباع؛ فليكن حذرك منهم ومباعدتك إيّاهم على حسب ذلك''· ويعلّل موقفه ذاك بأنه يعيش في زمن هو زمن الذئاب ''فمن لم يكن فيه ذئباً أو كلباً أُكِلَ''· على هذا اليأس من بني البشر جريان أغلب كتابات أبي حيان التوحيدي· لم يكن التوحيدي يدري أنه لا يكتب محنته مع ناس زمانه بقدر ما كان يسطّر بالدم والدموع منزلة الكائن أمام رعب الوجود· لذلك كفّت الكتابة في أغلب مؤلفاته عن كونها مجرّد كلام في شكوى الحال وطفحت بالندب والنوح على المنزلة البشرية· كثيراً ما يفتتح التوحيدي كلامه بالحديث عن رقّة حاله وكلب زمانه وإيمانه بأن الموت هو وحده بوّابة الخلاص فيكتب: ''أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، يائساً من جميع من ترى، متوقّعاً لما لابدّ من حلوله، فشمس العمر على شفا، ونجم العيش إلى أفول''· يلحّ التوحيدي على أنه لم يختر عزلته بل أُكرِه عليها إكراهاً ليأسه من الخاصة والعامة· الملوك مدانون لأن ''أمورهم جارية على القدر والقهر·'' وكذا حال الكتاب وأهل العلم فهم لا يخلون من ''التنافس والتحاسد والتماري''· ويصب التوحيدي جام سخطه وغضبه على التجار والأغنياء لأن ''بينهم وبين كل مروءة سدّاً وحاجزاً''· ثم يتلفّت إلى عامة الناس فتصبح الكتابة سجلّاً مخازياً؛ فهم في نظره ''همجٌ ورعاعٌ وأوباشٌ وأوناشٌ ولفيفٌ وزعانف وداصّة وسقّاطٌ وأنذالٌ وغوغاء''· فما أشبه اليوم بالبارحة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©