الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العولمة.. ألســـنَتُها المتعدّدة

العولمة.. ألســـنَتُها المتعدّدة
25 أغسطس 2016 15:44
أصبح عالمنا واحدا في ظل العولمة الكونية التي وصلت كل أطراف الأرض بعضها بالبعض الآخر، عن طريق الإنترنت والفضائيات ووسائل المعلوماتية الحديثة. نعم نحن أصبحنا نعيش في عالم واحد شئنا أم أبينا وقد آن الأوان لكي نتعرف على بعضنا البعض بجد. آن الأوان للصيني الكونفشيوسي او للبوذي الياباني أن يعرف من هو المسلم والعكس صحيح أيضا. ناهيك عن الهندوسي والمسيحي واليهودي، إلخ.. فالصين لم تعد بعيدة في آخر العالم ولا كذلك السند والهند. فالجميع أصبحوا يعيشون في بوتقة واحدة. وقد ترسل الرسائل الإلكترونية يوميا إلى زوايا العالم الأربع إذا كنت تشتغل في الكتابة والطباعة والنشر والأعمال وبقية الفعاليات بطرفة عين أو بنقرة صغيرة تصل رسائلك إلى العالم العربي أو الأفريقي أو الأميركي والأسترالي وشتى أطراف الأرض. لم تعد رسائلنا تنتظر أياما أو أسابيع لكي تصل إلى الجهة المقصودة. يا لها من تسهيلات عجيبة ما كنا نحلم بها حتى في منامنا.. هنا تكمن معجزة الثورة المعلوماتية التي غيرت وجه الأرض والعلاقات بين البشر. ولكن لحسن الحظ فان هذا العالم الواحد من حيث التواصلية المعلوماتية واستخدام نفس الأدوات التكنولوجية لن يكون واحدا من الناحية الثقافية. ولا يستحسن ذلك أصلا. لماذا؟ لأن ذلك يعني سيادة النمطية المملة التي تقضي على ثراء العالم وتنوعه وجماله. انه يعني تحول العالم إلى نمط واحد وفكر واحد ولون واحد. والبعض يخشى أن يحصل ذلك وان تعمم العولمة الأميركية نفسها على كل أنحاء العالم. الفرنسيون مثلا يحاولون الدفاع عن لغتهم وثقافتهم وصناعتهم السينمائية أمام زحف اللغة الانجليزية والسينما الأميركية. وهذا من حقهم ومن حق العرب والصينيين والروس والهنود وجميع الشعوب أن يفعلوا الشيء ذاته. ولذا نقول: لا تخافوا اطمئنوا: سوف تظل هناك لغات شتى في العالم وثقافات متعددة حتى في عصر العولمة الكونية والثورة المعلوماتية. ولن تستطيع الانجليزية السيطرة على العالم كله مهما زاد انتشارها واتسع نفوذها واستخدامها. ستظل هناك لغات أخرى كالعربية والفرنسية والألمانية والصينية والروسية والإسبانية.. الخ. العالم سيظل تعدديا لغويا وثقافيا حتى في ظل الهيمنة الأميركية أو الانغلوساكسونية. لا مكان للهيمنة ينبغي العلم أنه في العصر الذهبي المجيد كانت اللغة المهيمنة عالميا هي العربية. كانت لغة العلم والفلسفة والدين والحضارة من حدود الهند والسند الى حدود إسبانيا. ثم انهارت حضارتنا الكلاسيكية ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة. وعندئذ أصبحت الإسبانية هي لغة العالم في القرن السادس عشر. وفي القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الكبير، أصبحت الفرنسية هي اللغة المهيمنة على كل اوروبا بما فيها روسيا. واذا كنت تكتب بلغة أخرى غيرها فان مؤلفاتك لم تكن تحظى بالذيوع والانتشار. حتى ملك بروسيا أو ألمانيا كان يفتخر بأنه يعرفها وكان يتحدث بها في بلاطه ويناقش العلماء والفلاسفة بلغة موليير أو لغة صديقه فولتير الذي كان يحضر مجالسه.. وأود بهذه المناسبة ان أنتهز الفرصة للدفاع عن لغتنا العربية. فلكي تستطيع ان تسترد أمجادها السابقة، لكي تستطيع ان تقاوم رياح العولمة الزاحفة عليها من كل الجهات فإنها بحاجة إلى شيئين اثنين: أولا تسهيل نحوها وصرفها وتقريبها من لغة الحياة اليومية دون أن تسقط في العامية أو اللهجات المحلية غير المفهومة من قبل جميع العرب. نحن بحاجة الى لغة وسطى لا عامية ولافصحى.حذار من الفصحى المتقعرة! هنا يكمن مقتل العربية. إنها أخطر عليها من اللهجات والعاميات. حذار من الجمود او التعلق بالماضي اكثر مما يجب: ومن الحب ما قتل! الشيء الثاني الذي ينبغي أن نزود العربية به لكي تستطيع مقاومة زحف العولمة وهجمة اللغات الأجنبية عليها وبخاصة الفرنسية والانجليزية هو نقل كل المعرفة الحديثة إلى لغة الضاد وتغذيتها بآلاف وآلاف المصطلحات الجديدة وكذلك عشرات الآلاف من التراكيب اللغوية المبتكرة.وهذا ما حاولت أن أفعله من خلال عملي كمترجم محترف على مدار ثلاثين سنة متواصلة. كل النظريات العلمية والفلسفية ينبغي أن تُهضم بالعربية. عندئذ يمكنها ان تقاوم هجمة الانجليزية والفرنسية على مشرق العالم العربي ومغربه. نعم نحن نعيش في عالم واحد، أو حتى في قرية كونية واحدة كما قال الفيلسوف وعالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان (1911-1980). ولكن هذا العالم ليس نسيجا واحدا وإنما هو متعدد الثقافات واللغات والمناظر الطبيعية الخلابة والعادات والتقاليد، الخ.. وينبغي ان يظل كذلك لكيلا نمل منه ونضجر. ما معنى ان تختفي عادات الكرم والضيافة من العالم العربي بحجة الحداثة والتحديث والعولمة التكنولوجية المفرغة من كل عاطفة إنسانية؟ هل سيغفر لنا ذلك جدنا حاتم الطائي الذي ولد في الجزيرة العربية وفي «حائل» بالذات؟ سنظل عرباً وهذا من حقنا مثلما أن من حق الآخرين أن يظلوا اميركان او فرنسيين، هنودا أو صينيين. ما معنى ان نسافر من بلد الى بلد ومن قارة الى قارة دون أن نشعر (ما ان تحط بنا الطائرة) بأي اختلاف في المناخ، أو في المشهد العام؟ ودون أن نشعر بأي فرق في المنظر والجو وسحنة الوجه؟ ما معنى عالم امتثالي يشبه بعضه بعضا من أوله الى آخره؟ هذا استنساخ تكراري، هذا ليس عالما حيا. نعم للعولمة والتواصل بين جميع البلدان والقارات والحضارات والشعوب. ولكن لا، والف لا، للنمطية الامتثالية المتكررة وكأنها نسخة طبق الاصل عن بعضها البعض. التنوع هو اساس الجمال والارتياح والدهشة والمفاجأة والفرح بأشياء جديدة تمتعنا كلما سافرنا وتنقلنا. الخصوصية ليست مضادة للكونية كما يتوهم بعض السطحيين. بل لا توجد كونية الا وهي مغروسة في تاريخ ما، في خصوصية ما، في تربة ما. الجنرال والخصوصية الفرنسية لكن ما هي الخصوصية؟ للإجابة عن هذا السؤال تحضرني عبارة جميلة جدا للجنرال ديغول. وقد صدرت عنه في مؤتمره الصحفي الذي عقده في قصر الاليزيه بتاريخ 15 مايو 1962. فقد توجه إلى الصحفيين بهذه الكلمات الهامة وهو يتحدث عن تشكيل الاتحاد الأوروبي. كان يتساءل او يرد على التساؤل التالي: هل سيكون الاتحاد الأوروبي اتحادا بين أمم مستقلة ذات خصوصيات ولغات مختلفة ام انصهارا بين هذه الأمم في بوتقة واحدة الى حد انها قد تفقد خصوصياتها القومية كليا وتذوب. لنستمع اليه يطرح مشكلة العلاقة بين الخصوصية والكونية بطريقة مدهشة في جدتها ولباقتها: «لا أعتقد ان اوروبا ستكون لها حقيقة حية ان لم تكن تشمل فرنسا مع الفرنسيين، والمانيا مع الألمان، وإيطاليا مع الإيطاليين، الخ..دانتي، غوته، شاتوبريان، هم مُلك لكل أوروبا ضمن مقياس انهم كانوا إيطاليين أو ألمان او فرنسيين. وما كانوا قد خدموا أوروبا كثيرا لو انهم كتبوا بلغة الاسبيرانتو التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة..ما كانوا سيخدمون أوروبا لو أنهم تخلوا عن لغاتهم الأصلية وخصوصياتهم القومية». كلام عظيم لرجل تاريخي. كلام يطرح المشكلة بكل أبعادها. البعض أصبحوا مهووسين بالكونية والعالمية إلى درجة أنهم يخجلون بهويتهم التاريخية! لحسن الحظ فان نجيب محفوظ ليس من هؤلاء. فهو لم يصل الى الكونية الا من خلال المحلية وأكاد أقول المحلية الضيقة جدا: كأحياء القاهرة القديمة التي كانت مسرحا لرواياته العظيمة.والبعض الآخر أصبح مهووسا بالوحدة النمطية في عصر العولمة. انهم يريدون ان يوحدوا كل شيء: الملبس والمطبخ والسينما والموسيقى، الخ.. وهكذا لا يعود في العالم الا مطاعم الماكدونالد او سينما الرعب المتشابهة الى حد القرف..اذ أقول ذلك فاني لا أختزل السينما الاميركية العظيمة الى مجرد أفلام الرعب. ولكن هناك سينما في العالم غيرها. هناك مسلسلات غير المسلسلات الاميركية. هناك سينما هندية وفرنسية أيضا. بل وهناك سينما ومسلسلات عربية! يضاف الى ذلك أن البعض يحلم بفرض الانجليزية على العالم كله ومحو اللغات الأخرى والثقافات الأخرى. فهل هذا ممكن؟ هل هذا مستحب؟ هل يمكن ان يتخلى العرب عن لغة الجاحظ والتوحيدي والمتنبي والمعري والفارابي وابن رشد وابن خلدون وطه حسين ونجيب محفوظ ونزار قباني.. إلخ؟ وماذا سيتبقى منهم بعدئذ؟ سوف يفقدون روحهم التاريخية. سوف يصبحون أمواتا وهم أحياء. سوف يُفرّغون من عصارتهم، من جوهرهم. لا عرب من دون لغة الضاد. نقطة على السطر. ولا فرنسيين من دون لغة فرنسية: أي لغة فولتير وفيكتور هيغو ورامبو وفيرلين وبودلير وجان بول سارتر.. وبالتالي كفى عبثا! كفى انبهارا بالهيمنة الأميركية أو الأنغلوساكسونية. أقول ذلك مع كل احترامي الكامل للعراقة الانجليزية والحضارة الأميركية الهائلة. لاحظوا أن ديغول لم يذكر كتجسيد لهذه الروح التاريخية أو كدلالة على عبقرية الأمة إلا الأدباء والمفكرين الكبار: دانتي، غوته، شاتوبريان. لم يذكر أسماء القادة السياسيين ولا حتى الأبطال العسكريين الذين كان هو أحدهم. ذكر فقط أبطال الأدب والفكر. وهذا شيء له دلالته ومغزاه لأنهم هم الذين يجسدون روح الأمة وعبقريتها وأصالتها. ولكن لا ينبغي أن ننسى أنه هو أيضا كان كاتبا كبيرا. يكفي أن نطلع على مذكراته لكي ندرك ذلك. وكان قارئا نهما على الرغم من مسؤولياته الكبرى. كتب مرة إلى أحدهم يقول: إني غارق في قراءة كتاب «مذكرات ما وراء القبر» لشاتوبريان. يا له من كتاب هائل! هل يمكن أن يتخلى الفرنسيون عن لغة موليير أو فولتير أو فيكتور هيغو أو بلزاك أو عشرات الآخرين؟ مستحيل. لأنهم لو فعلوا ذلك لفقدوا روحهم وجوهرهم وأمجادهم التي يفتخرون بها أمام الأمم. لو فعلوا ذلك لانتحروا ثقافيا وحضاريا. وقل الأمر ذاته عن بقية الشعوب. وبالتالي فالعولمة في مفهومها الصحيح لا تعني إطلاقا الاقتلاع من الجذور، ولا الانصهار في بوتقة واحدة ولغة واحدة وعقيدة واحدة. وإنما تعني أننا نعيش في ظل حضارة كونية شاملة ولكن مغتنية بكل هذه الروائح والألوان والعطور، بكل هذه الثقافات واللغات والأديان.. وهذا يعني أن هناك فرقا بين الحضارة/ والثقافة.ففي عصر العولمة الكونية هناك حضارة بشرية واحدة ولكن هناك ثقافات متعددة ومتنوعة لحسن الحظ. دستويفسكي وبوشكين سوف أضرب مثلا آخر لتوضيح فكرتي. كان دوستوفسكي قد طرح الأمور بطريقة مشابهة لديغول- أو قبل ديغول- في خطابه الشهير أمام كبار مثقفي روسيا المحتفلين برفع تمثال لبوشكين وسط موسكو (في شهر حزيران/ يونيه 1880). وقال هذا الكلام الهام الذي يعمق بشكل أكثر مسألة العلاقة بين الهوية المحلية/ والعالمية، أو بين الخصوصية/ والكونية. قال متسائلا: من هو بوشكين؟ وأجاب: انه تجسيد للروح القومية الروسية في أفضل ما تمثله من مقدرة على هضم عبقريات الأمم الأخرى واستيعابها. انه تعبير عن روسيا فيما تحمله من رسالة كونية إلى البشرية. هذا ما فعله بوشكين. فقد كان إسبانيا في كتابه «دون جوان»، وانجليزيا في كتابه «عيد أثناء الطاعون»، وألمانيا في كتابه «مقطع من فاوست»، وعربيا في كتابه «محاكاة القرآن»، وروسيا في كتابه «بوريس غودرنوف». ولأنه كان كل ذلك، لأنه عرف أن يكون كل ذلك، فانه روسي حقيقي. ثم يختتم دوستوفسكي كلامه بهذه العبارات الرائعة التي لا أشبع منها: لامعنى للإنسان الروسي إن لم يكن أوروبيا وعالميا في آن معا. فأن تكون روسيا حقيقيا، أن تكون روسيا بالكامل، يعني أن تكون أخاً لكل البشر! وأنا يحلو لي أن أكرر ما قاله دوستوفسكي وأطبقه على حالتنا العربية وأقول ما يلي: أن تكون مسلما حقيقيا، أن تكون عربيا حقيقيا، أن تلخص في شخصك العبقرية العربية الإسلامية في أفضل تجلياتها وأعظم ما أعطته على مدار التاريخ، فهذا يعني أن تكون أخاً وصديقاً لكل البشر: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء.107)، وإنك لعلى خلق عظيم (القلم.4). هذا الكلام القرآني الإلهي موجه إلى الرسول الكريم، فكيف يمكن أن تتحول الرحمة إلى نقمة، أو التسامح إلى نبذ وتكفير للآخرين؟ مستحيل. اللهم إلا على يد الجهلة المتطرفين الداعشيين. وبالتالي فالعرب ليسوا انطوائيين بطبيعتهم، والمسلمون ليسوا متعصبين في جوهرهم على عكس ما يشاع هنا أو هناك. فقد هضموا كل الحضارات الأخرى في القرون الأولى والعصر الذهبي المجيد. ثم صهروها في بوتقة العروبة والإسلام وصنعوا منها حضارة عظيمة. ولكن للأسف جاءت عصور الانحطاط والجمود وانقلبت الأمور إلى عكسها. كل القيم الإيجابية انقلبت إلى ضدها وأصبحت سلبية.وبدل الانفتاح حل الانغلاق، بدل التسامح حل التعصب، بدل التفاعل الخلاق مع الحضارات الأخرى حل التقوقع على الذات والخوف من «الغزو الفكري». هذه ليست أطروحتي. هذه هي أطروحة المفكر الفرنسي المسلم اريك يونس جوفروا أحد كبار المختصين العالميين بالفكر والتصوف الإسلامي.انظروا كتابه الجميل: الإسلام سيكون روحانيا عاليا أو انه لن يكون! صدر مؤخرا بترجمتي عن المركز القومي للترجمة في مصر بعنوان:المستقبل الروحاني للإسلام.وعلى الرغم من أني لا أشارك المؤلف كل أطروحاته لأني لست متصوفا مثله إلا أن فيه إضاءات كثيرة.كان بودي أن أضيف: المستقبل الروحاني والعقلاني التنويري للإسلام. الاختلاف ليس ممنوعاً قد يقول قائل: ولكن اللغات والثقافات والشعر والنثر والآداب ليست هي المشكلة. المشكلة هي في اختلاف العقائد والأديان.فهنا حق الاختلاف ممنوع أو مرفوض. ولكن مرفوض من قبل من؟ من قبل المتطرفين في كل العقائد والأديان وليس من قبل الأديان ذاتها. فهي، في نصوصها الكبرى، منفتحة على مطلق الله. بل إنها منفتحة على العالمين، على البشرية جمعاء.يكفي أن نقرأها بشكل صحيح، أن نفهمها على حقيقتها. هذا هو صوت القرآن الكريم. انه يسمح بالتعددية ويقر بها في صريح النص. بما أن الإسلام هو الموضوع في قفص الاتهام حاليا فاني سأضرب بعض الأمثلة على التعددية والاعتراف بالآخر من داخل التراث الإسلامي نفسه. كلنا يعرف الآية الكريمة التالية: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (الحجرات.13) ماذا تعني هذه الآية؟ إنها تعني بكل بساطة ما يلي: لو أراد الله أن يفرض على جميع البشر دينا واحدا لفعل. ولكنه لم يشأ ذلك. فهل هو عاجز عن ذلك؟ حاشا لله. ولكن هناك حكمة فيما وراء هذه التعددية التي سمح بها الله: أقصد التعددية في الشرائع والأديان والعقائد. وبالتالي فليكفّ المتزمتون عن اعتبار التعددية الدينية في العالم فضيحة! هذه ليست فضيحة، هذه ارادة الله. هناك عدة طرق لعبادة الله، للوصول إلى الله، لا طريق واحد إذا ما خلصت النوايا وصلحت الأعمال.. كل البشر مخلوقات الله ويستحقون عفوه ومرضاته إذا كانوا صالحين محبين للخير وفاعلين له بقدر المستطاع. يقول الحديث النبوي الشريف: «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله». وسوف يظل العالم تعدديا من الناحية الدينية والمذهبية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبالتالي فما علينا إلا أن نعقد مؤتمرات محلية أو عالمية لاجراء الحوار بين الأديان والمذاهب كما حصل في الحوارات الإسلامية- المسيحية مرات ومرات. فهذه هي الطريقة الوحيدة لقطع الطريق على التعصب والمتعصبين. وهي التي تتماشى مع روح القرآن الكريم وجوهر الدين القويم. وينبغي الاعتراف هنا بان المسيحية الغربية حققت تقدما كبيرا في اتجاه الاعتراف بالتعددية بعد انعقاد المجمع الكنسي التحريري والتجديدي المعروف باسم الفاتيكان الثاني (1962- 1965). فقد اعترفت بالإسلام بشكل واضح وعبرت عن احترامها له ودعت إلى طيّ صفحة الماضي الأليم والعداوات القديمة. وتخلت عن التكفير نهائيا بعد أن مارسته طيلة أكثر من ألف وخمسمائة سنة ضد الآخرين! ثم إليكم هذه الآية التي ترد ثلاث مرات في القرآن الكريم مع تنويع طفيف أحيانا: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة.62) هذه الآية الكريمة كما قلت وردت أكثر من مرة وتفتح الباب لتأسيس علم الأديان المقارنة في العالم العربي والإسلامي قاطبة. فهي تعترف بكل أديان التوحيد من يهودية ومسيحية وإسلامية بالطبع (الذين آمنوا) بل وحتى بالصابئة. وعندما تقارن بينها نلاحظ أنها تضعها جميعا على قدم المساواة. والشيء الأهم هو أنها تربط الإيمان بالعمل الصالح. فمن السهل أن أعلن الإيمان وأتبجح به أمام الآخرين ثم أمارس الغش والرذيلة والأعمال السيئة في حياتي اليومية أو الشخصية مع البشر معتقدا أن الإيمان يحميني. لا الإيمان لا يحميك إذا كان سلوكك شائنا أو ضارا بالآخرين والمجتمع. هكذا نلاحظ أن ديننا واضح كل الوضوح فيما يخص القضايا الأساسية كالتسامح والاعتراف بالآخرين واحترام أديانهم وعقائدهم. فمن أين جاء الخطأ إذن؟ أين يكمن الخلل؟ انه يكمن في الفهم الخاطئ والمتزمت للدين لا في الدين ذاته. انه يكمن في انغلاق الفقهاء والمشائخ المتأخرين إبان عصور الانحطاط. وللأسف فان هذه العصور لا تزال متواصلة حتى الآن في حين أن العصر الذهبي الانفتاحي المتسامح أصبح نسيا منسيا.. أخيرا سوف أقول بأن العالم سائر على الرغم من كل شيء نحو تشكيل حضارة إنسانية واحدة على سطح الأرض ولكن من خلال ثقافات متعددة ومختلفة. وهكذا يحقق الوحدة من خلال التنوع أو التنوع من خلال الوحدة. فمن الواضح أن هناك قيما مشتركة تجمع بين كل البشر. وهذا ضروري من أجل التعايش السلمي والتواصل فيما بينهم. نقول ذلك وبخاصة انهم اصبحوا مجبرين على هذا التواصل اجبارا بسبب العولمة التي اختصرت الزمن والمسافات وقربت بين الشعوب. الحضارة الإنسانية واحدة ولكن الثقافات التي تعبر عنها متعددة. أخوة بشرية يقول الروائي الروسي ديستويفسكي: لا معنى للإنسان الروسي إن لم يكن أوروبياً وعالمياً في آن.. فأن تكون روسيا حقيقياً يعني أن تكون أخاً لكل البشر! وأنا يحلو لي أن أكرر ما قاله دوستوفسكي وأطبقه على حالتنا العربية وأقول ما يلي: أن تكون مسلما حقيقيا، أن تكون عربيا حقيقيا، أن تلخص في شخصك العبقرية العربية الاسلامية في أفضل تجلياتها وأعظم ما أعطته على مدار التاريخ، فهذا يعني أن تكون أخاً وصديقاً لكل البشر. فقدان الروح هل يمكن أن يتخلى العرب عن لغة الجاحظ والتوحيدي والمتنبي والمعري والفارابي وابن رشد وابن خلدون وطه حسين ونجيب محفوظ ونزار قباني الخ؟ وماذا سيتبقى منهم بعدئذ؟ سوف يفقدون روحهم التاريخية. سوف يصبحون أمواتا وهم أحياء. سوف يُفرّغون من عصارتهم، من جوهرهم. لا عرب من دون لغة الضاد. مقْتَل العربية ينبغي تسهيل نحوِ اللغة العربية وصرْفِها وتقريبها من لغة الحياة اليومية من دون أن تسقط في العامية. نحن بحاجة الى لغة وسطى لا عامية ولا فصحى. وحذار من الفصحى المتقعرة! فهنا يكمن مقتل العربية. إنها أخطر عليها من اللهجات والعاميّات. حذار من الجمود أو التعلق بالماضي أكثر مما يجب: ومن الحب ما قتل! مبادئ مشتركة جميع الدول وقعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وجميع الشعوب تستخدم الإنترنت وبقية وسائل المعلوماتية. وأحياناً جميعها تشاهد مباريات كأس العالم لكرة القدم في اللحظة نفسها! وبالتالي فإنها تتشارك في الأفراح والآلام. وجميع الأديان الكبرى متفقة على نواة من القيم الأخلاقية فيما وراء الاختلاف في الطقوس والشعائر والمعتقدات اللاهوتية. جميعها تدعو إلى احترام الجار والشفقة على الفقير والمسكين وابن السبيل. جميعها تقول: لا تكذب، لا تسرق، لا تقتل، إلخ.. جميعها تدعو إلى مكارم الأخلاق. ففي الإسلام والمسيحية واليهودية نجد عشرات النصوص التي تمشي في هذا الاتجاه. وكذلك الأمر فيما يخص أديان الشرق الأقصى غير التوحيدية كالبوذية والهندوسية والكنفوشيوسية الخ. والحداثة العلمانية الفلسفية، ركزت أيضاً على مبادئ الحق والعدل والصدق، وإنْ بصياغات وكلمات أخرى. كانط بلور القيم الأخلاقية نفسها، ولكن من وجهة نظر فلسفية أو علمانية: أي لا تنطبق على المسيحيين فقط وإنما على كل البشر. وبالتالي فالحضارة الإنسانية واحدة، ولكن الطريق إليها ليست واحدة. إنها تتلون بألوان الشعوب، وخصوصيات كل نطاق كبير من نطاقات العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©