الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحقيقة.. ضالة تاركوفسكي

الحقيقة.. ضالة تاركوفسكي
25 أغسطس 2016 10:21
ترجمة :أحمد حميدة أندريه تاركوفسكي، سينمائيّ روسيّ، ولد سنة 1932 في «زفروج» الواقعة على ضفاف الفولغا. والده هو الشّاعر ذّائع الصّيت أرسني تاركوفسكي. درس في موسكو الرّسم والموسيقى واللّغة العربيّة، وفي سنة 1959 التحق بالمعهد الشّهير للسينما السّوفييتيّة «فجيك» الذي تخرّج فيه أيضاً أوتار أيوسّيلاني أو ألكسندر سوكوروف. كان أوّل مخرج يجافي النّزعة الواقعيّة التي طالما هيمنت على السّينما الرّوسيّة والتي كان أبرز رموزها سيرغي أيزنشتاين. أخرج بعد شريط صغير ختم به تخرّجه أفلام: «المدحاة» و«الكمان في المرايا» سنة 1960، ثمّ سبع أشرطة قصيرة: «طفولة إيفان» (1962)، «أندريه روبلاف» (1966)، «سولاريس» (1972)، «المرايا» (1974)، «ستالكر» (1979)، «نوستالجيا» (1983) و«الفداء» (1986). حين نشاهد أفلام أندريه تاركوفسكي تتبادر للذّهن كلمات كثيرة: تفكّر، شاعريّة، رصانة.. وتأنٍ. وتشدّنا قوّة الشّخصيّات، خاصّة الشّخصيّة المركزيّة لكلّ فيلم من أفلامه التي تتعقّبها الكاميرا، فتتأمّلها وتستكشفها من كلّ الجهات. نلمح في نظراتهم أثراً من جنون، من توتّر وقلق، يدفع بها إلى آفاق قصيّة ما.. مبهمة. والاستقصاء الذي يشكّل عنصراً مميّزاً ورمزيّاً في الأدب القروسطي، يُلمح إلى وضعيّة يستشعر فيها البطل افتقاده لشيء ما، غالباً ما يجد عناء كبيراً في تشخيصه. ويبدو ذلك البحث المعيش الذي يلوح كحاجة فوق طاقة الفرد، ضرورة ملحّة تتجاوزه ولا يملك غير الاستسلام لسطوتها. لذلك نرى شخصيّات تاركوفسكي تمضي باحثة، مستقصية لذلك السرّ المبهم. ووفقاً للتّعريف الكلاسيكيّ، فإنّ البحث الاستقصائيّ يقوم به شخص أوحد (وإنْ كان يحظى بعون الآخرين)، وفرادة وقوّة هذه الشّخصيّات المركزيّة حقيقة بأن نتوقّف عندها ونتأمّلها بفائق الانتباه. شخصيات دافقة الإحساس شخصيّات تاركوفسكي، هي أوّلاً وقبل كلّ شيء كائنات دافقة الإحساس، وحسبنا لملامسة ذلك تأمّل اللّقطات الكثيرة التي ترافق تلك الشّخصيّات من الخلف، والتي تجعلنا نلمح ما يرونه، وهم في الواقع يرقبون ما يحيط بهم، ويقدّرون المدّة اللاّزمة للتّجربة الحسيّة. وتتبدّى تلك الشّخصيّات وكأنّها على قيد ترصّد شيء ما يحيط بها أو تتحيّن علامة ما، علامة غالباً ما تنبثق من الطّبيعة. وقد تبادرنا في هذا الخصوص لقطة من «ستالكر» (شريط يستعرض رحلة استكشافيّة لشخصين، يرافقهما دليل، ستالكر، في منطقة يقال إنّ بها مكاناً يفترض أن تتحقّق فيه الآمال)، حيث يستشعر هذا الأخير حدوث شيء ما غريباً، فيهمس للرّجلين بعدم التحرّك. ويحتجّ الرّجلان، ثم تهبّ عاصفة مهيبة، ويظلّ الثلاثة واجمين وكأنّ على رؤوسهم الطّير. ودائماً في هذا الشّريط، ومن ضمن الشّخصيّات الثلاث التي كانت في حالة بحث واستقصاء، سيكون ستالكر وحده قادراً على فهم واستيعاب ما يدور في تلك «المنطقة»، في ذلك الفضاء متعدّد الوضعيّات. نرى أيضا ستالكر وهو يتلمّس جذوره ويستلقي في الأوحال، قرب كلب متشرّد، وتلك الحركة كان من المفترض أن تقرّبه من الطّبيعة وتجعله يدخل في حالة تواصل معها عبر الحلم، فيما كان الأستاذ يطلّ على المشهد من صخرته العالية، ليمثّل علامة رمزيّة على تفوّقه العقلانيّ الفاتر والمزعوم. والحال أنّ الأستاذ (الّذي يجسّد علامة العقل العلمي) والكاتب (الذي يجسّد علامة الشكّ)، لن يتمكّنا من التّأقلم في ذلك الفضاء الذي تحكمه قوانين أخرى. يتعارض في أفلام تاركوفسكي الإحساس مع الإدراك العقلي. وبمثل ذلك التصوّر كان تاركوفسكي يشكّل رؤيته للإبداع، وحين يلج الأستاذ (المنطقة)، كانت غايته هي إثبات أن ذلك المكان اللاّعقلانيّ والمتافيزيقيّ لا يمكن أن يكون موجوداً. لذلك كان يريد تدمير (الحجرة).. حجرة الأماني، حين واجه سرّها الذي يتجاوزه، فكعقلانيّ ليس بوسعه الإقرار بما هو لاعقلانيّ. فكما برغسون الذي كان يرى أنّ الحدس ولا العقل، يمكّن من ولوج جوهر كينونة الأشياء، فإنّ تاركوفسكي يتصوّر الإحساس على أنّه ما وراء الفعل الذي يمنحنا مفتاح العبور إلى الحقيقة. لذلك.. فإنّ الصّمت عند تاركوفسكي ليس دالاّ على نفسيّة مَرَضيّة كما كان يرى برغمان وبازوليني في الفترة نفسها، وإنّما حامل لمعان ميتافيزيائيّة. وفي المواجهات العديدة بين الشّخصيّات (وقد نتحدّث عن وجوه)، ثمّة سلسلة من التعارضات والتضادّ: العقل في مواجهة الإيمان، الكلام في مواجهة الصّمت، الصّورة في مواجهة الفعل، الفكر في مواجهة الإحساس. ومن ذلك المنظور لصمت البطل، يمكن أن نعتبر تاركوفسكي قريباً من أفلوطين الذي يقول: «الواحد.. لا وصف له»، وينبغي لنا أن ندرك أيضاً أنّ تاركوفسكي يتصوّر الإلهي من منظور حلوليّ. ويتجلّى ذلك في الطّبيعة، وفي الظّواهر التي لا تفسير لها (مثل النّار تحت المطر). وهذا الواحد هو الذي يُدين ألكسندر، بطل شريط الفداء، ويحمله على الصّمت (الذي كان قد تمنّاه) ليغدو منذوراً لعدم فهم الآخرين له. لقد لامس المطلق بإصبع اليد، ولم يكن بوسعه التزام الصّمت. العقل والإيمان يعارض تاركوفسكي في أفلامه أيضاً العقل كوسيلة للإدراك في مفهومه الكانطيّ، حيث يكون الفرد قادراً على خلق مفاهيم عبر الإدراك العقلي. وسيطرة بطل تاركوفسكي على العالم تتجاوز المفهوم، فهي إحساس محض. هكذا لا يجاول ستالكر تبرير نفسه عند مواجهته تساؤلات الكاتب المنتهب بالشكّ، والذي يكون تبعاً لذلك وجها بسكاليّاً بامتياز، موهوباً للضّجر، متحرّراً من الوهم ومقبلاً على اللّهو وعلى النّساء والخمر. لذلك فإنّ ستالكر الذي ليس له غير إيمانه (وهو ليس بميسور الحال، ولا حتّى ذكيّ..)، يخرج منتصراً في باليه الوجوه الذي يشكّل مادّة هذا الشّريط. ورغم أنّ تاركوفسكي لا يُعرف عنه أنّه مسيحيّ، فإنّه يبدو منخرطاً في سلالة الفلاسفة اللاّهوتيين الأكثر شهرة مثل بسكال أو كيريجارد الّذين رفعوا شعار الإيمان في وجه العقل: «ينصت الربّ لنبض القلب لا إلى ارتعاد العقل»، «الإيمان يبدأ حيث ينتهي العقل»، فالإيمان هو الذي يمنح القوّة لشخصيّات تاركوفسكي كي ينطلقوا في البحث والاستقصاء. وهذا التوثّب الحيوي يتجسّد أيضاً بأعمال قصوى: إحراق ألكسندر نفسه في شريط الفداء ودومونيكو في شريط نوستالجيا. لكن إيمان شخصيّات تاركوفسكي ليس بالإيمان التّقليدي، إذ هو لا يمجّد دين المؤسّسات النّخبويّة، وإنّما يمجّد (فرسان الإيمان)، أي الوصف الذي كان يطلق على سيّدنا إبراهيم من قبل كيريجارد. وسيتحقّق خلاص الهراطقة بأيديهم ومن أجلهم. كذلك كان قدر دومينيكو في (نوستالجيا)، الذي سوف يموت محترقاً بالنّار على تمثال جواد، بساحة مدينة إيطاليّة. ولنفكّر في ستالكر الذي كان يعيش في بيت وسخ تنخره الرّطوبة، وفي مكان يصعب التعرّف إليه ومعروف بكونه مكاناً ملعوناً. في (نوستالجيا)، كانت المرأة التي ترافق غورتشاكوف تنعت هذا الأخير بالمجنون لأنّه كان لا يرغب فيها، ولكنّه كان مفتوناً بالمجنون (الرّسميّ) للقرية الذي كان الجميع يعرف أنّه أسَرَ عائلته داخل منزله لمدّة خمس عشرة سنة. أمّا ألكسندر في شريط (الفداء)، فقد انتهى به الأمر إلى إضرام النّار في بيته، لتنقله سيّارة إسعاف إلى مشفى للأمراض العقليّة (إذ كانت المؤسّسات القائمة بحاجة إلى التوقّي من الطّاقة الثوريّة للمجانين). وفي طفولة إيفان تمرّد هذا الأخير على رؤسائه لتأكيد ذاتيّته. أمّا أندريه روبلاف، فقد كان ناسكا يتمنّى الانغمار في الصّمت. وفي شريط (المرايا) قد يكون السّارد المفترض هو ذلك الرّجل الذي نراه في الأخير مستلقياً على سرير بالمستشفى. ويشكّل المريض هو الآخر وجهاً متكرّراً: كذلك هي ابنة ستالكر، المجنون.. في أندريه روبلاف، أو الألكن الصّغير.. في (المرايا). ومع ذلك، لم يكن جميع هؤلاء ضحايا جنونهم وعدم تأقلمهم. تلك طريق اختاروها عمداً أو أنّهم اختاروها عن وعي. والمصير الذي كان ينتظر أولئك الذين آثروا المضيّ في البحث دون الهروب من المجتمع، لم يكن مصيرهم سيّئاً كما قد نتصوّر، لقد كانوا مدانين ولا أحد يفهمهم، ولكنّهم كانوا يتركون بأمان مع أنفسهم. المكان والزّمان في أفلام تاركوفسكي يتميّزان بالمرونة والضّبابيّة، لأنّه حتّى وإنْ بدا الزّمن زمناً راهناً، فإنّ الجنون فيه يدار وفق الزّمن الذي يسبق الانزواء والعزلة. أبطال مأزومون منزاحين عمّا يحيط بهم، يشعر أبطال تاركوفسكي بالحاجة إلى الرّحيل. الرّحيل.. أي نعم، ولكن أيّ السّبل قد يطرقون؟ وتاركوفسكي ذاته يقول عن شخصيّاته أنّه (أمامهم دوماً عقبات هم بحاجة إلى تذليلها). وبالفعل، كلّ تلك الشّخصيّات يؤلمها شيء ما، كلّها يحمل في كيانه وجعاً عنيداً، تضرب جذوره في الماضي أو مردّه إلى وجودهم في ذلك المكان المحدّد. كذلك هو قدر كريس كالفين بطل (سولاريس)، هذا العالم الذي أرسل إلى كوكب تحكمه طاقة سحريّة مدهشة، وكان بحاجة إلى التحكّم في ألم افتقاده لزوجته لتحقيق بحثه الخصوصيّ. وكان ينبغي أن يتمّ ذلك الرّحيل في اللّحظة المناسبة، لحظة (الكيروس) الإغريقيّة أو لحظة الزّمن-القطيعة، حين لن يكون هناك من خيار آخر غير ذلك الخيار. هكذا.. فإن الرّغبة في الصّمت عند ألكسندر في (الفداء) تأتي بعد خطبة مسهبة عنيفة للرّيح، حين أدرك عقم الكلمات. إنّ فكرة القطع مع مكان محدّد أو مع وضعيّة ما تزداد رسوخاً، بالنّظر إلى أنّ اللّقطات الأولى في أفلام كثيرة لتاركوفسكي تتمّ في مكان مألوف لدى البطل: بيت ريفيّ، بيت ستالكر، منزل أسرة كريس كلفين.. أرض سوف يغادرها البطل. ويشكّل هذا الرّحيل قطيعة بالمعنى الذي يذهب إليه دولوز حين يذكر فيتجرالد في (ألف منصّة): (القطيعة حقيقة هي ّذلك الأمر غير القابل للمراجعة، والذي لا يحتمل الصّفح، لأنّه يجعل الماضي يتوارى وينقضي دون رجعة). وبالفعل، فمن بين الشّخصيّات المختلفة التي توفّقت في بحثها، لا أحد منها عاد ثابتاً وغير متغيّر. ومن جهة أخرى، فإنّ الذين يمعنون في اعتبار الماضي ذا مغزى، هم أولئك الذين غدا الماضي لديهم نسياً منسيّاً، مثل كريس كلفين في (سولاريس) الذي كان يكتم إحساسه بالذّنب إزاء انتحار زوجته. وفقاً للتوجّه الفلسفي لـ دولوز يمكن أن نوضّح أبحاث تلك الشّخصيّات استناداً إلى مفاهيم الخطوط. يميّز دولوز بين ثلاثة خطوط نتحرّك فوقها طيلة حياتنا. خطوط صارمة وشاقّة تُلمح إلى تدابير وإجراءات السّلطة (المدرسة، الأسرة...)، خطوط مرنة هي أقلّ معياريّة، تنمو بشكل موازٍ للخطوط الصّارمة، وهي ليست سوى بديل للتحرّر، مثل المظاهرات، الإضرابات، السّياحة.. وأخيراً.. خطوط الأفق، وهي تلك التي تجعلنا ننفتح على التحوّل والصّيرورة دون عودة إلى الوراء، وعلى تلك الخطوط، نحن مثل مشّاء النّوم على حبل مشدود فوق الأرض، وينبغي لنا أن نمضي حتّى النّهاية، وإنْ كان ثمن ذلك أن تحترق أجنحتنا، إذ لا عودة إلى الوراء، ولا شِباك أمان. ولنتبيّن ذلك بمثال سلبيّ: الأستاذ والكاتب أخفقا الاثنان في بحثيهما لأنّهما لم يطرقا بالكامل خطّ الأفق ذاك، وحملا على التّوالي قنبلة وقارورة خمر لتأمين سلامتهما لمواجهة ما هو غريب أو ما هو كاسح. أمّا الشّخصيّات التي مضت على خطّ الأفق إلى الآخر، فهم ألكسندر في (الفداء)، وغورتشاكوف في (نوستالجيا)، وإيفان أيضاً. الحب والحلم ثمّة وسيلة أخرى للانسلال.. ألا وهو الحلم الذي يسهم بشكل كامل في البحث والاستقصاء، ويشتغل كمحرّك أو كعامل مساعد يجعل البطل يَلمح أفق بحثه. في الحلم تسافر الشّخصيّة في أحلامها وتخيّلاتها، وفي جراحها التي تساعدها على التقدّم. غير أنّ عالم الحلم ليس بالمجال المنفصل عن الماديّ: بطل تاركوفسكي يلج الحلم عن طريق الحواسّ. ويتحقّق النّفي أيضاً بالانفتاح على الآخر، ونموذج ذلك الانفتاح على الآخر في أفلام تاركوفسكي هو كريس كيلفين بطل (سولاريس). وإضافة إلى ذلك، فإنّ جميع الأبطال الذين أوردناهم كأمثلة يعيشون حالة النّفي الذي ذكرنا. وهذه الحركة تستلزم قدراً كبيراً من الجسارة، حافزاً باطنيّاً، ورغبة في الانزياح، وهي غير خالية من العواقب، وحين يقبلون على مثل تلك الحركة، فإنّهم يواجهون الآخر، وهذا الآخر يتجسّد في أعمال تاركوفسكي بوسائل عدّة: بالفنّ، بالطّبيعة، بالإلهيّ، بالحبّ. الوجه التّاركوفسكي الذي ينفتح على الآخر بوساطة الفنّ هو أندريه روبلاف الذي يرى في الرّسم وسيلة للتّبليغ والتّواصل مع الإنسان الرّوسي، وسوف يتمكّن بوساطة إبداعاته من الوصول إلى منتهى بحثه عن المطلق، لأنّ تلك الأعمال تبدو وكأنّها عابرة للزّمن، ف (روبلاف) حينئذ هو ذلك الذي توفّق في الانسلاخ من الزّمنيّة ليبدع في المطلق. ومن بين الشّخصيّات التي تعتمد الدّين للانفتاح على الآخر، نجد ألكسندر في (الفداء) ودومينيكو في (نوستالجيا).أمّا الحبّ فهو الذي يجعل كريس كلفين في (سولاريس) ينفتح على الآخر، ممثّلاً في تجلّي زوجته السّابقة المتوفّاة. وحال تماسّه الأولّ مع هذه الظّاهرة الخارقة، أبدى رفضه لهذه الرّؤيا، وأعاد صورة زوجته إلى الفضاء، غير أنّ هذه الأخيرة سرعان ما عادت، ليدرك كريس أن لا حول له في ردّها، ويحسم أمره بمحبّتها من جديد. وفيما كان هذا الأخير، وقبل رحيله، قد أحرق من بين أشياء كثيرة صورة زوجته، فقد أعلن في لقطة من الفيلم: (إلى غاية اليوم، ظلّت البشريّة منيعة للحبّ.. نحن القليلون على هذه الأرض التي بالكاد تعدّ بضع مليارات. لعلّنا جئنا إلى هنا لنشعر البشر أنّهم وجدوا فحسب كيما يتحابّوا). والحبّ هنا ليس مفهوماً بقدر ما هو حدس لشيء ما محسوس. البحث عن اليقين مرافَقون بمثل تلك الموسيقى، تنبعث من الصّورتين علامات قوّة وجسارة. ويمكن أن نرى شبهاً هنا، بين الطّريقة التي يرى بها تاركوفسكي الوجه (خاصّة وجه الأمّ) ومفهوم الوجه لدى ليفيناس، هذا المفهوم الذي يتداخل فيه العَيْنيّ المحسوس بالمنطقي، فإذا به يناشدنا في بعدنا الأخلاقي. فليس بإمكاننا وصف ولا تحديد ولا القبض على ملامح وجه ما، لأنّه يتجاوز دائماً الحدود التي تميّزه: إنّه غيبيّ من حيث الجوهر، فمن حيث لا تناهيه، الوجه.. هو على وجه الدقّة ما يجعلنا ننفتح على اللاّنهائيّ، وبالتّالي على المطلق. كلّ طريق كانت قبلئذ تحمل علامات (لنفكّر قليلاً في واقعنا الحضري)، وإنْ لم تعد كذلك اليوم، فإنّ الكائن الذي يكون في طور البحث سوف يرى فيها العلامات التي يحتاج، وقد أوضحنا من قبل أنّ البطل الذي يكون في حال البحث يظلّ بحاجة إلى ترصّد كلّ العلامات الممكنة، لذلك فهو يحتاج إلى طرق سبيل أخرى غير سبيل العقل والمنطق.. هي سبيل الحسّ، لأنّ العلامات المنبعثة من الطّبيعة، من تلك الطّبيعة الطّافحة بقوى مبهمة، لا تكون في متناول العقول المنكفئة على عقلانيّة مختومة. هكذا نرى ستالكر وهو في (المنطقة) يدرك علامات لا يرى مرافقاه أنّها ذات معنى، فيصل بذلك إلى منتهى بحثه (غرفة الأمنيات). وكلّ تلك المراحل يتخلّلها ارتداد إلى الوراء، ركود، اختزال لتلك المراحل... وثمّة مرحلة مهمّة بالنّسبة لشخصيّات تاركوفسكي، فهي لحظة القبول، أي اللّحظة التي نتولّى فيها أمر بحثنا الخصوصيّ. ففي (الفداء)، كان ألكسندر وهو يتوق إلى الصّمت، قد تحمّل تماماً وزر بحثه عن الواحد، ويعمّق الهوّة التي تفصله عن الآخرين الذين يتقاسم معهم الحياة، والذين يتحدّثون كثيراً عن مشاريع في الأوساط العائليّة والأوساط النّخبويّة. ونفكّر أيضاً في غوتشاكوف بطل (نوستالجيا) الذي من أجل استكمال بحثه يتحمّل بالكامل نتائجه، لقد كان في بهو النّزل بروما ينتظر سيّارة أجرة لتنقله إلى المطار، حيث كان من المنتظر أن تقلّه طائرة إلى روسيا، حين ذُكّر بما نصحه به دومينيكو المجنون، أي اختراق مسبح وبيمناه شمعة كطقس للعبور، فاستجمع قواه الحيويّة وأنجز تلك الوثبة النّوعيّة في سياق بحثه. وللأشياء التي تبيّن الطّريق أيضاً.. سطوة. ولكنّها ليست أشياء جميلة تلفت الانتباه، بل إنّها أشياء عاديّة. كذلك هي التفّاحة في (المدحاة) أو الكمان أو الكأس في لقطة الختام لستالكر، تلك الكأس التي تجعلها ابنته المريضة بقوّة روحيّة.. تتحرّك. وطيلة بحثهم يكون الأبطال هم أيضاً مدعومون بعوامل مساعدة، غير أنّها لا تبدو للوهلة الأولى ذات سطوة، أو مزوّدة بمعارف علويّة أو قدرات خفيّة قد تسعف الكائنات التي تشكو من القصور.. الكائنات التي تسعى لتدارك ما ينتهبها من محدوديّة وعجز. هكذا، ففي (الفداء) تعمل ربّة البيت المشارفة على الجنون، لتجعل ألكسندرا تتراجع عن محاولة انتحارها الأولى، لتجعلها تمعن في بحثها. وفي (نوستالجيا) سوف يساعد دومينيكو.. غورتشكوف كي يدرك منتهى بحثه، حين نصحه باجتياز مسبح وبيده شمعة. وهكذا فإنّ كلّ تلك العناصر المساعدة، تضمّ شخصيّات فذّة، ولكن الجميع ينكرها. ويخضع البحث لمنطق آخر مختلف عن العالم الذي تتحرّك داخله شخصيّات تاركوفسكي، ولئن كان هذا المنطق غير عقلانيّ، فإنّه يبقى أساسيّاً. والشّخصيّات متى أبحرت في ذلك البحث، وتشوّفت لخطّ الأفق ذاك، لن يكون بوسعها العودة إلى الوراء. من ذلك أنّ ألكسندر في (الفداء)، سوف يضحّي ويتنكّر لعائلته، لأنّ ذلك كان هو الحلّ الوحيد والإجابة المفردة التي كان بإمكانه إعلانها من أعلى عزلته. وكان عليه وفقاً للأخلاق العقلانيّة كما نظّر لها كانط، أن يظلّ، ولمصلحة عائلته، على قيد الحياة. وكانت لألكسندر أخلاق شخصيّة خاصّة به، أخلاق يشعر بها كضرورة، وتلك طريق محفوفة بالمخاطر سوف تقود ألكسندر إلى الجنون. وبطل تاركوفسكي هنا يشبه إلى حدّ كبير (فارس الإيمان) لجيريجارد الذي يقول لنا: (إنّ من يمضي بالطّريق العسيرة للإيمان، لا أحد يمكن أن يسنده، ولا أحد يمكن أن يتفّهمه). والنّجاح في البحث يبقى رهين عمليّة انخلاع: ففي (سولاريس) أرسل كريس كلفين إلى كوكب للقيام بدراسة علميّة عن ظواهر لا عقلانيّة. ظواهر سوف يكون عليه مواجهتها بنفسه، كما أشار عليه العالم المرافق له على ذلك الكوكب. ومأخوذاً بدوار ظواهر غريبة سوف يتابع كريس كيلفين استقصاءه النّفسيّ. ولنعد من جديد إلى ستالكر، ففي بحث الشّخصيّات الثّلاث عن (غرفة الأماني)، سوف يخفق الأستاذ والكاتب، لأنّهما ظلاّ أسارى العقل، ويريدان إمّا تفسير كلّ الأشياء أو الشكّ في جميعها (باعتبار أنّ الشّك ليس مضادّاً لليقين وإنّما نسخة منه)، ولن يفهم أيّاً منهما أن ما كانا يبحثان عنه كامن في أعماقهما. فالمثقّف الذي يتجسّد في وجهيْ تلكم الشّخصيّتين، هو الشّكل النّموذجي لكائن يتعلّم ويعاود التعلّم ليكون مآله في النّهاية.. الضّلال. أمّا ستالكر المترع حسّاً، فلسوف يتخطّى التّناقض الذي وقع فيه مرافقاه، ليختار طريق الإيمان والولاء المرهف والمباشر للواقع، وفي آخر الشّريط نرى ستالكر مصحوباً بزوجته وابنته. ولم يكن لستالكر ليقدّم أيّ تفسير عن عمله ولا عن غرفة الأماني: فهو لا يعقلن الأشياء، وإنّما يحسّ بها، و(عمله) هنا يكتسي أرفع معنى للقدر. ولكن.. أليس مِفكّ الشّريط بأيدي ابنته التي أنجزت في اللّقطات الأخيرة عملاً سحريّاً؟ وبالنّهاية سوف تكون الشّخصيّات اللاّعقلانيّة، كساعي البريد في شريط (الفداء) الذي يذكر مبتهجاً نيتشه أو الطّفل أو الخادمة اللّذان سيسعفان بالخلاص. وكما يوضّح ذلك إيغور إيفلامبياف، فإنّ مقولة (الإله) عند تاركوفسكي تعانق الكائن بأجمعه وكلّ القدرات الجماليّة الخبيئة فيه. فجوهر الكائن هو الإنسان الذي تنكشف فيه كلّ القوى الإبداعيّة للكينونة، وهذا ما يجعل اللجوء إلى اللّه، لجوء لتلك القوى المبدعة الكامنة في أعماقه، والتي هي جزء لا يتجزّأ في خلقته. وتبرز روح التّواصل والرّغبة في الانصهار التي تميّز أبطال تاركوفسكي كمحاولة للتوحّد مع الكينونة. وترتسم أمام الكائن طرقات عدّة، هكذا، فبالنّسبة لأندريه روبلاف، يمرّ ذلك التوحّد عبر رسم أيقونات في عزلة انفراديّة. بعيداً عن عرضيّة العالم المادّي وعالم البشر، فهو يلوذ بإيمانه الذي يعيشه بملء كيانه، فيجعله يلامس المطلق، وتمثيل ذلك المطلق خارج دائرة الضغوطات والمعايير التّشكيليّة لزمنه. الفنّ والجمال كإعراب عن المطلق واستكشاف لأسراره. والأمر يتعلّق بالنّسبة لدومينيكو في نوستالجيا بتطهّر أخير (كاثرزيس)، أي بالاحتراق بذلاً لنفسه وتقديمها قرباناً، في ساحة عموميّة لتلك المدينة الكبرى، حيث تتجسّد العرضيّة في لا مبالاة مئات الأشخاص المارّين بتلك السّاحة. سوف ينتهي دومينيكو شهيداً، وبتلك التّجربة القصوى سوف يلامس بإصبع اليد الكينونة. وكذا الشّأن بالنّسبة لألكسندر حين أحرق منزله، ثمّ نُقل إلى مستشفى الأمراض العقليّة، فكانت ذلك شكلاً من أشكال التطهّر وتجسيداً لعمل مكبوح لبلوغ المعنى.. المعنى الأخير. وتلك المعانقة للكينونة ليست أبداً ذاتيّة أو انطوائيّة. فالشّخصيّات التي عثرت على المفتاح حين أدركت منتهى بحثها، مثل دومينيكو أو أندريه روبلاف، أو بدرجة أقلّ ستالكلر، كانت تتوق إلى تقديم العون للآخرين لكي يجدوا الإيمان وينسلخوا من محدوديّتهم وعرضيّتهم العقيمة.. هكذا قضى دومينيكو شهيداً، فيما كان أندريه روبلاف يرسم أيقونات للشّعب الرّوسي، وستالكر يعمل كمهرّب نحو (المنطقة). ولئن كانت الطّريق والنّفي على غاية من الأهميّة في بحث تلك الشّخصيّات، ليس بإمكاننا القول إن لذلك السّعي وجهة أحاديّة، وإنّها ليست عودة من النّقطة (أ) إلى النّقطة (ب)، والسّفر هنا هو سفر باطنيّ أكثر منه سفر خارجي، ينتهي أحياناً بعودة إلى الذّات. وتلك العودة إلى الذّات التي تمثّل انتهاء بحث الشّخصيّات يمكن أن تكتسي ثلاثة أشكال: عودة إلى مرآة الرّوح، الاستسلام للعزلة أو العودة إلى البيت. وأبطال تاركوفسكي محكوم عليهم بالعزلة، ويتحرّكون جميعهم في دائرة مفرغة. وتظلّ سريرة الإنسان سرّاً لا يُطال بالنّسبة للآخرين، ومهما فعلوا، فإنّ السّبل التي يطرقونها ضيّقة، وخطوط الأفق محفوفة بالمخاطر كيما يهتدي بها الآخرون. هكذا يبدو ألكسندر في شريط (الفداء)، في وجعه وقلقه الغيبيّ إزاء نهاية العالم الذي لم تكن لتشاركه إيّاه عائلته، باستثناء ابنه مرهف الحساسيّة. وحين انتهت من بحثها، تطوّرت تلك الشّخصيّات على المستوى الباطني، ولكنّها ظلّت رهينة للعزلة، ولا شيء تغيّر في وضع العالم. منفلتين من كلّ رؤية تنبّئيّة، فإنّ أبطال تاركوفسكي لا ينشدون حقيقة نقل مشاعرهم إلى الآخرين، وصيغة تعبيرهم هي فحسب التطهّر. وتاركوفسكي يخاطب في أفلامه شخصيّات يدعوها إلى تجربة حسيّة ولا فكريّة. وتشكّل العودة إلى البيت موضوعاً بنيويّاً ومتكرّراً. بنيويّاً بالنّظر إلى أنّ الشّخصيّات تنطلق من أرض لها إلى وسط غريب.. ثمّ تعود: ومثلُ ذلك ستالكر أو غورتشاكوف أثناء سفره إلى إيطاليا، أو طفل (المرايا)، هذا الشّريط الذي يبدأ وينتهي بمشهد ريفيّ. وتلك البنية يمكن أن تعرّف بالكلمات التّالية: في البداية نفُيٌ للبطل، ثمّ عودة إلى البيت. وتبدو تلك البنية واضحة في (سولاريس)، حيث العالم الصّغير للذّات وللحبّ، يُعثر عليه وسط الكون الرّحيب. أمّا تكرّر العودة إلى البيت، فمردّه إلى أنّ البيت يجسّده عنصران أثيران لدى تاركوفسكي: (الدّاتشا) والأمّ. فأحلام الشّخصيّات مثل غورتشاكوف، مسكونة بفكرة الدّاتشا. وتحضر الدّاتشا دوما وسط ما هو غريب، فتتبدّى على سطح الكوكب سولاريس لكريس كلفين، وأيضاً في نهاية نوستالجيا، حين إلتجأ غورتشاكوف خائر القوى إلى كنيسة متداعية. وقد أبرز تاركوفسكي بعمليّة تراكب شفّاف صورة الدّاتشا في قلب الكنيسة. أمّا الأمّ فحضورها أيضا دوريّ ومتكرّر، ولها وضع دلاليّ خاصّ بالنّسبة لتاركوفسكي، الذي يتماهى مع التّعارض الأساسي الذي أقامه لاكان بين الأمّ والمرأة. ففيما تكون الأولى مفعمة بمشاعر الحنوّ، سهلة القياد، وتقبل بمعيشة متكرّرة بانتظام، تكون الثّانية خادعة، لا تخفي زهوها وغرورها وتلهّفها الجنسي. وفي نستلجيا يتبدّى هذا التّعارض بوضوح: أوجينيا، المرأة المرافقة لغورتشاكوف والتي كانت تشتهيه، لا تخفي رغبتها، حدّ أنّها كشفت له عن نهديها، وكانت تختال متفاخرة بثياب ملوّنة ومستفزّة، غير أنّ غورتشكوف كان يعيبها، إذ لم يأت إلى إيطاليا التماساً للمتعة الجنسيّة، وإنّما للبحث عن أمّه، عن ذلك الحضور الهادئ والمطمئن. فتاركوفسكي هو أيضاً سينمائيّ إحباط الرّغبات، والنّساء اللاّتي تراهنّ شخصيّاته في الحلم أو في الواقع، لهنّ شعر مضموم ومربوط، ويكنّ دائماً في الرّيف. و الاثنتان متمازجتان (وهما غالباً كذلك في أحلام إيفان الذي لم يكن له البتّة أمّ)، يحيلان على مثال ما، ويعبّران عن حنين تاركوفسكي (للأرض)- الأمّ. غير متناغمين مع ما يحيط بهم، فإنّ (أبطال) تاركوفسكي يتوقون إلى ملء فراغ بداخلهم، وتضميد جرح خفيّ، فينطلقون في بحث لا يدرك سرّه الآخرون. ولكنّهم يحافظون مع ذلك على صفاء الذّهن. وسوف يتبيّن أن ذلك البحث عصيّ على الوصف، وينتهي بالعودة إلى الذّات، عودة يتمّ التّعبير عنها بأشكال عدّة. ولئن كان تاركوفسكي لا يمارس الفنّ من منظور أخلاقي أو معياري، فإنّنا نفهم مع ذلك أنّ عالمه مشوّش، وأنّه ينبذ العقلانيّة التي يريد الدّارسون إضفاءها على هذا العالم، وإنْ كانت هنالك فسحة أمل، فهي لا تكمن في الدين المنمذج، وإنّما في علاقة قربانيّة مطلقة، تعانق الواقع، في الفوضى والقوى البدائيّة للطّبيعة، دون اللّجوء إلى ترويضها. وتختفي وراء قساوة الصّور لطافة ينبغي اكتشافها، لطافة يكنّها تاركوفسكي للمنبوذين الذين يرفعهم إلى مرتبة الأمراء. شفاء سينمائي بداية.. العودة إلى روح الشّخصيّة، تحملنا على تصوّر البحث على أنّه تحليل نفسيّ يشمل أغوار نفس البطل. ونلمس هذا البعد في ثلاثة أفلام وهي: المرايا، سولاريس، وبدرجة أقلّ في نوستالجيا. ففي فيلم المرايا، يخلف الذّهاب والإياب من مكان إلى آخر، من زمن إلى آخر، من شخصيّة إلى أخرى، حالة دوار، حيث يجري عرض صور تكراريّة تبعث على التّفكير في ذاكرة استرداديّة. ويمكن أن يشاهد هذا الشّريط كتراكم لذكريات الشّخصيّة التي نراها في نهاية الشّريط مستلقية على فراش مستشفى. وقد نرى فيها عمليّة استبطان، طالما أنّ وجه الأمّ كُلِيّ الحضور، كما فكرة الأرض والانخلاع المرير من وسط محدّد (قد يكون حضور زمن الطّفولة، وربّما على إثر عمليّة انتقال إلى بيت جديد من الرّيف إلى المدينة). هكذا.. ففي هذا الشّريط الذي يعدّ أكثر أفلام تاركوفسكي التباسا، تكون النّهاية، إن كانت هنالك نهاية، متموضعة في رحم الذّكرى. أمّا شريط (سولاريس) فهو يمثّل عودة كريس كلفين إلى مرحلة من حياته، إلى حادثة عائليّة مهمّة. لقد انتحرت زوجته لأنّها لم تحظ بالقبول في أسرة زوجها، التي لم تول أيّ اهتمام لعذاباتها. اعتصم كريس كلفين في البداية بإرادة النّسيان (فأحرق صورتها في بداية الشّريط) حال وصوله إلى الكوكب المسحور، حيث طفت الذّكريات المنسيّة على السّطح، فإذا به يواجه صورة زوجته المتوفّاة، فيشفى شيئاً فشيئاً، ويستعيد بكثير من العناء حبّه لتلك الزّوجة. وتكون النّهاية هنا شفاء عن طريق استكشاف المكبوت. مدارات العزلة حالة الجنون كانت تعيشها بعض الشّخصيّات عن طريق الانسحاب من العالم، ويمكن أن نذكر في هذا الخصوص، أندريه روبلاف أو ألكسندر في شريط «الفداء». ويحضر الطّفل أيضاً، ذلك الكائن المتلكّئ. وفي بداية شريط «المرايا» نرى طفلاً ألْكَنَ يسعى البعض إلى معالجته. ويشكّل ذاك الألْكَنْ الوجه النّموذجي لشخصيّات تاركوفسكي، فهو منذور للصّمت والانطوائيّة والعزلة، ويوجد في وضع لا يشاركه فيه أحد، طالما أنّه عديم الانسجام مع غيره وعاجز عن التّواصل كلاميّاً مع الآخرين. أمّا إيفان في «طفولة إيفان» فإنّه يجسّد بامتياز وجه العزلة والتّوق إلى البحث، لأنّه كان يتيماً ولا عائلة تأويه وتحتضنه، ولا يمتلك السّلامة الجسديّة حتّى يعمل في الجنديّة، لذلك كان لا يستطيع ولا يريد أن يجد حيّزاً للعيش في أيّما مكان، فكان منساقاً وراء هدف حدّده لنفسه: رغبته في الانتقام، وتأكيد إرادته في التّجاوز وإثبات حريّته. نزعة حلوليّة جمال الطّبيعة هو من تجلّيات المطلق. وتتجلّى النّزعة الحلوليّة لتاركوفسكي عبر شخصيّات مثل ستالكر (الذي يرى أنّ احترام تلك الطّبيعة المبهمة التي توحي صورتها بزمن ما بعد الصّناعة، كما قوانينها، أمر على درجة بالغة من الأهميّة)، شخصيّات تبدو وكأنّها في حالة تواصل مع الطّبيعة، وكذا الأمر بالنّسبة لإيفان الذي كان يشعر بارتياح كبير حين كان يتنقّل عبر الأهوار. وفي كلّ أفلام تاركوفسكي تقريبا، تتعاقب المشاهد تحت المطر الذي يكتسي هنا مغزى إيحائيّا كبيرا. وبصورة أكثر إجمالا، فإنّ للعناصر الطّبيعيّة قوّة رمزيّة عارمة. وباحتكاكها بهذا المبهم التي هي الطّبيعة، تدرك كلّ الشّخصيّات منتهى بحثها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©