الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجارة أم اقتصاد ثقافي؟

تجارة أم اقتصاد ثقافي؟
24 ابريل 2013 21:54
لوحة «الحديقة السرية» للفنان الايراني فرهاد موشيري بدا الأمر وكأن الناس هنا في هذا المساء قد أخذوا في التجمع بانتظار افتتاح معرض يمكن أن تصفه بأنه نادر أو من ذلك النوع من المعارض التي يُنتظر حدوثها، لأن فنانين معروفين على نطاق واسع يُشاركون فيها. ففي البهو الذي يهبط إليه المرء من البهو الرئيس لفندق أبراج جميرة بدبي، في المنطقة التي تفصل بين المركز التجاري والعالمي ومركز دبي المالي العالمي، كان هناك الكثير من النساء والرجال وقلّة قليلة من الفنانين ومن تلك الوجوه التي اعتدت رؤيتها في الافتتاحات الكثيرة في صالات العرض الدبوية. ما هو لافت أيضاً أن هناك ابتسامات كثيرة على الوجوه، بعضها لا يشبه ابتسامات الأدب الآسيوي الجمّ، وبعضها الآخر يذكّر بالذين يحسنون ارتداء الأقنعة، إنما بفائض من الفخامة والأناقة الأوروبية والأميركية، يدرك المرء ذلك مما ترتدي النساء أكثر مما يرتدي الرجال، ومع غلبة حضورهن في المكان، وذلك الهمس الذي يشبه طنين النحل، إلا أن الوسامة لدى الرجال كانت غالبة على جمال النساء غالباً. إنه مزاد كريستيز، الذي يختص ببيع وتسويق الأعمال الفنية العربية والإيرانية والتركية المعاصرة، قبيل السابعة مساء الثلاثاء من الأسبوع الماضي، قبل أن يبدأ في صالة عرض مجاورة. البهو واسع، وعلى جدرانه لوحات وأعمال فنية، البعض منها سوف تجري المزايدة عليها اليوم، والبقية للغد. لقد خصصت إدارة المزاد في اليوم الأول ثلاثاً وعشرين لوحة، سوف يجري بيعها عما قليل، لفنانين من فئة «الأساتذة»، أما البقية فهي «بضاعة» الجزء التالي من مزاد كريستيز لمساء اليوم الذي يلي. خريطة فنية هذا البهو الذي على شكل حرف L، في جداره إلى اليسار ثمة بوابة تفضي إلى معروضات لدار كريستيز، تنتمي إلى الفنون الإسلامية التي تخصّ المنطقة العربية، وكذلك شبه القارة الهندية، مع بعض أعمال استشراقية، تأخذ أهميتها من قِدَمها وتاريخيتها أ،كثر من أهميتها الفنية إنما جزء من مزاد يُجريه فرع كريستيز الأم في لندن في الخامس والعشرين من هذا الشهر، حيث بوسع المقتنين ممَن يريدون شراء أي من هذه القطع المشاركة عبر الهاتف أو الإنترنت. وإلى اليمين من الجدار المقابل ثمة بوابة كبيرة، تفضي إلى قاعة المزاد. مستطيلة يتوسطها مقاعد في صفين، كل منهما بخمسة وستين مقعدا، وإلى اليمين واليسار ثمة طاولات موازية لصفيّ المقاعد، جلست على كل واحدة منها امرأة شابة، وأمامها هاتف أرضي ورقاع من ذلك النوع الذي من الممكن تبديل الأرقام عليها بحيث تتحول إلى ما يشبه لافتة صغيرة. وفي مواجهة المقاعد تماماً ثمة طاولة بميكروفون، من ذلك النوع المعدّ لإلقاء خطاب أو قصيدة، وإلى يمينه طاولة مكتب تجاور عليها رجل وامرأة، وإلى الخلف منهما كانت هناك شاشة عرض عليها إشارات متتالية، هي اختصارات للعديد من عملات البلدان البلدان، تبدأ بالدولار الأميركي، وتمر بالجنيه الاسترليني، واليورو، والدرهم الإماراتي، والروبية الهندية، وسواها. عندما بلغت الساعة السابعة كان أغلب أولئك الرجال والنساء ما زالوا في البهو، لكن ما إن بدأ الرجل في الإعداد لبدء المزاد والترحيب بهم حتى امتلأت المقاعد، وعندما انتهى كانت المقاعد قد امتلأت. هنا دخل رجل آخر، في منتصف الأربعينات أو أكثر، وقف خلف طاولة المعدة لخطاب أو قصيدة، وقال كلاماً مقتضباً، ثم افتتح المزاد بلوحة جرى تخمينها بثمانية عشرة ألف دولار، لكنْ رجل اقتناها بعشرين ألفاً. أرقام.. وأرقام تلتها لوحة أخرى، بيعت بثمانية عشر ألف دولار ونصف الألف، فلوحات أخرى من مستوى البيع ذاته، إنما ترتفع باطراد وبطء، إلى أن جاءت لوحة بدا المزاد عليها انطلاقاً من المائة وخمسين ألف دولار، ولما تردد رنين الصمت في القاعة عند الرقم (160) صمت الرجل بدوره، ثم استقر على هذا الرقم، فبدت فترة الصمت تلك محسوبة زمنياً بدقة. عند هذه اللحظة بالذات يشعر المرء أن الرجل، فضلاً عن إدارته فعل المزاودة، فإنه يقدم عرضاً مونودرامياً، مثلما يفعل ممثل، بل إن في بعض قسمات وجهه ما يذكّر بالشخصية الإنجليزية الكوميدية المعروفة بمستر بن. ثم جيء بلوحة يحملها عمّال آسيويون، ووقفوا بها قُبالة الجمهور، وبدأ المزاد انطلاقاً من الرقم (240) ألف دولار، هنا بدأت الهواتف المتحركة تظهر في أيدي النساء اللواتي يتلقين الأرقام على الهواتف، فقد تكون من خارج القاعة، أي من دبي، وقد تكون من أبوظبي أو من الخليج العربي، بل من خارج القارّة، ومن أي مكان في العالم. أيضاً أصيبت الأرقام على الشاشة، التي تشبه شاشات البورصات، وتلك التي تُعلن عن الرحلات ومواعيدها في المطارات، بالهستيريا فقد كانت تتبدل صعوداً في كل لحظة تقريباً. انتهى المطاف بهذه اللوحة أن بيعت بـ(320) ألف دولار. تتالت الأعمال الفنية إلى المزاد، كانت اللوحة العربية الأولى التي طرحت فيه للسوري الراحل لؤي كيّالي «صبي يقرأ»، وقد بدأت المزاودة من الـ(60) ألف دولار، وهي الآن في الـ(95) ألفاً لتستقر على الرقم (115)، تلتها لوحة للسوري مروان قصّاب باشي «رأس كبير»، طرحت بالرقم ذاته، وانتهت بـ(140) ألفاً. تلا ذلك لوحة للسوري الراحل فاتح المدرس، وقد ارتقت حتى بلغت الرقم (210)، إلى حدّ بدأ أن هؤلاء المقتنين، الذين في أغلبهم من الأجانب، يعرفون تماماً الأثر الكبير الذي تركه هذا الرجل في الحركة التشكيلية السورية والعربية. ثم ظهرت لوحات عديدة لفنانين عرب مثل صفوان دحّول، وسواه، وكذلك أكثر من لوحة للإيراني فرهاد موشيري، إنما لم تظهر حتى اللحظة لوحته «الحديقة السرّية»، تلك المعروضة في البهو، والتي يلتقط الصورَ إلى جوارها رجال ونساء من أجيال مختلفة. مزاج وأعصاب أن تكون على مزاج الفضول تجاه معرفة ما الذي يجري تحديداً في مزاد علني للأعمال الفنية، أفضل بكثير من أن تكون عالقاً به. أقلها بوسعك أن تغادر لبعض الوقت ثم تعود كي تغادر مرة أخرى وتعود. منفضة السجائر الشاسعة على مقربة من مدخل الفندق، باتت ملتقى للجميع من كل قوميات الأرض، إنها إخوانية من نوع ما، هي إخوانية حظر التدخين في الداخل. أثناء ذلك ظهر شابان أوروبيان في صحبة ثلاثة آسيويين من حمَلة السامسونايت، أشعل الآسيوييون سجائرهم، ثم نظر أحد الأوروبيين إلى الداخل، وأخبر صحبته بأمر مزاد دار كريستيز، وقال: «ثمة رجال ونساء كثيرون في الداخل، إنهم صيادو أسماك». جاء التوصيف مباغتاً، ويشير إلى رجل قد تكون خبرته في المجال محدودة إنما له موقف من مثل هذه الأنشطة. كان لا يزال المزاد محتدماً والأعصاب تتوتر، ولم تمض خمس دقائق أو أقل حتى أعلن رجل المزاد عن استراحة، فخرج الجميع. غير أن الأمر هنا لم يكن شبيهاً بندوة أخطأ رئيسها فأفرج عن الحضور قبل الوقت المحدد، ولا ببرنامج تلفزيوني أعلن مذيعه النجم ثقيل الظل عن فاصل إعلاني، بل عاد الجميع كلٌ إلى المقعد الذي كان يأويه، مسبوقين برجل المزاودة ومجاوريْه، وتلك النسوة ناقلات أخبار المزاد إلى العالم والآتيات بالعالم إلى هذه القاعة الصغيرة. استأنف المزاد نشاطه، وعاد رجل المزاد إلى عافيته وتدفقه، إنما لم تظهر «الحديقة السرية» حتى الآن. بالتأكيد، فإن «الاتّجار» بالأعمال الفنية سابق على تأسيس دار كريستيز في لندن عام 1766 على يدِ الانجليزي جيمس كريستي، والتي منذئذٍ أخذت بزمام المبادرة في تنظيم أهمّ وأعظم المزادات العلنية في العالم، وعلى مدار قرون، والتي تضمَّنت أشهر الأعمال الفنية الفذة والخالدة». وهي الآن ومن بين أربعمائة وخمسين مزاداً تقيمها كريستيز في العالم، فإنها هنا في دبي فقد تخصصت في الأعمال الفنية التي تنتمي للمنطقة العربية بكل جغرافياتها وإبران وتركيا، حيث تقيم مزادين في العام الأول، الأول في أبريل، والثاني في أكتوبر، بدءاً من عام 2007. ربما تزامن ذلك «الاتّجار» وتداولها، إنما في أوساط طبقية ـ اجتماعية ـ اقتصادية بعينها، مع تداول الكتاب الذي بالضرورة كان يحقق انتشاراً أوسع لأسباب مفهومة، فهل من الممكن أن يوضع الفعلان في الخانة نفسها التي هي الاقتصاد الثقافي؟ خاصة أن الاتجار بالأعمال الفنية لم يرتبط فحسب طيلة تاريخه حتى اليوم بما يُنجز الفنانون وحدهم يشتبك بشدة مع التاريخ الاستعماري الأوروبي البغيض، خاصة للعالم القديم، النهب المنظم منه للثروات الفنية طيلة قرون وحتى اليوم، في حين ظلّ الكتاب مرتبطاً بالمعرفة والعلوم والأفكار التنويرية وغير التنويرية وساحة جدل عميقة بين تلك الأفكار التي ارتقت في آخر الأمر بالتجربة البشرية ولا يزال يفعل ذلك. هو ليس سوى الأخلاق وحدها فحسب بل سؤال التاريخ أيضاً. هنا، ما أن يصل المبلغ المتفق عليه ثمناً لعمل فني حتى تنتهي علاقته صاحبه به. نصبح بإزاء سلعة فحسب، هي مادة قابلة للاتجار بها، لكن ميزتها أنها ثقافية، ومثلما أنّ هناك سلعاً من نوع آخر، فإنه في حسابات التجارة تنتفي الأنواع، ولا يبقى سوى وجه الرقم. الحديقة السرّية في اليوم التالي ظهر الرقم الخاص بلوحة «الحديقة السرّية»، وهو (987750) أي التسعمائة وثمانية وسبعين ألفاً وسبعمائة وخمسين دولار أميركي، حيث لا يتوقف الأمر عند هذا الرقم المدوّخ حقاً بل يتجاوزه إلى أن هذا الفنان الإيراني في الخمسين من عمره فحسب. والحال، أنّ «الحديقة السرّية» لوحة فذّة بالفعل، إنها حلم طفل يتصادى مع تلك الحكايا الشعبية التي تروى للأطفال قبل نومهم لتترك في أحلامهم وشخصياتهم أثرا لن يُمحى، بما تتوافر عليه من فانتازيا وغرائبية وسحر خاص، يعيد المرء دائماً إلى طفولته أو إلى طفولة ما في حياته، تبدو «الحديقة السرّية» تأويلاً غير متوقع لهذا الحلم. وفي بياناتها الصحفية التي بثتها الدار على مدى قبل أسبوعين من المزاد بدا واضحاً أن هناك اهتماماً خاصاً بهذه اللوحة والترويج لها مستهدفة أكبر قدر من مقتني الأعمال الفنية وجمهور الفن التشكيلي في الإمارات ما أمكن لها ذلك، وفي أحد هذه البيانات الصحفية التي جرى بثها في الثاني عشر من هذا الشهر تصف اللوحة بأنها «الأعلى قيمة (مالية) تقديرية في المزاد بنحو 300,000 ـ 500,000 دولار أميركي». وتعيد في البيان نفسه أسباب هذا الارتفاع في السعر لـ»غنى زينته وزخارفه واستخدامه الكثير من الوسائط كالطلاء المعدني اللامع، والخرز، والمسامير. وتظهر اللوحة دباً ضخماً مصنوعاً بالكامل من الكريستال العاكس للضوء، وهو يهز طفلاً نائماً في مشهد طبيعي ساحر». ولمَنْ يُعاين هذا العمل بنسخته الأصلية على حائط معرض المزاد سوف يكتشف أن هذا العمل تتموضع فيه أساليب فنية متعددة، فقد خلق الفنان تغايراً على السطح التصويري، مثلما تتسبب فيه طبيعة المادة التي استخدمها في توزيع الأشكال والألوان والصور على السطح، إذ يتجاور ما هو مهمل ومحلي ـ بيئي مع التجريد الإيراني في التقليد الفني الإيراني الإسلامي وغير الإسلامي والحديث أيضاً، كما يتجاور ما هو حِرَفي (أي الذي ينتمي إلى مهارات الصنعة أو الحرفة)، مع الاقتصاد في حرفية الفنان الفنية في التعامل مع اللون، إلى حدّ أن المرء يندهش، ويسأل نفسه، كيف لم يتغلب الصانع المطلق على الفنان في هذا العمل. ربما لا مبالغة في القول إن تقاطع التقليدي مع الحداثي، وكذلك تقاطع المرجعيات الثقافية المتمردة التقليدية، المتمردة مع تاريخها السياسي العنيف، الأمر الذي يمثل سبباً وجيهاً للاهتمام أكثر بهذا الفنان الموهوب على نحو استثنائي. إلى ذلك فهذه ليست المرة الأولى التي يقترب فيها فرهاد من حاجز المليون فحسب، فقد تخطى هذا الرقم مع لوحته التي تحمل العنوان: «عشق» التي جاوز سعرها المليون دولار، وأقيم أول معرض له خارج إيران في دبي في صالة مجموعة فرجام في مركز دبي المالي العالمي عام 2011، وحمل عنوان: «الحب ليس كل شيء»، اشتمل على مجموعة من الأعمال المختارة. يُشار إلى أن الفنان الإيراني فرهاد موشيري، ما زال مقيماً في طهران، وقد أقام معارض عديدة في عواصم ومدن عالمي عالمية، حيث كانت دبي أول محطة زيارة له في مايو من عام 2010، مسبوقة على إقامة معرضه فيها بعام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©