الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«تعرفت على قصائد بودلير من بائعة هوى»

«تعرفت على قصائد بودلير من بائعة هوى»
24 ابريل 2013 21:55
صدر للروائي الأميركي بول أوستير Paul Auster كتابه «يوميّات الشتاء» وهي رواية أجمع النقاد على التأكيد بأنها سيرة ذاتيّة للكاتب، إلاّ أنّ المؤلف نفى أن تكون روايته الجديدة هي سيرة ذاتيّة بالمعنى المتعارف عليه، مؤكدّا حرصه على وصفها بأنها «عمل أدبيّ» يضم شذرات من حياته بدون ترتيب زمنيّ. وفعلا ففي صفحة من الرواية نجد الكاتب يتحدّث عن طفولته عندما كان في الرابعة أو الخامسة من عمره، وفي الصفحة الموالية فإنّه يروي أحداثا حصلت له عندما بلغ الستين من العمر، فهو يتصفح في يومياته بغير نظام أو ترتيب ورقات متناثرة من ذكرياته في رحلة عودة إلى ما يسميها «الأشياء الضائعة» عبر الزمان الذي مضى. والروائي الأميركي الشهير بلغ السادسة والستين، وأصبح الزمن الذي يمضي بسرعة يمثل له هاجسا، وإن الإشارة في العنوان إلى فصل الشتاء فيها إحالة إلى شعوره بأنه أصبح رجلا مسنا، والأمر الذي لاحظه النقاد أن روايات بول اوستير السابقة على غرار «اختراع الوحدة» أو «الكنش الأحمر» تضمنت هي الأخرى شذرات من سيرته الذاتيّة وهو يواصل في هذا المنحى في كتابه الذي صدرت ترجمته إلى اللغة الفرنسية الشهر الماضي. شريط ذكريات يعترف الروائي بأنّه لم يمض وقتا طويلا في تأليف روايته الأخيرة، فقد أتم التأليف في بضعة أشهر، مشيرا إلى أنّه عادة ما يكون بطيئا في الكتابة إلاّ هذه المرّة فإنّ أفكاره اختمرت طويلا بداخله ونضجت ما يسر عليه عملية التحرير. والملفت في هذه الرواية الجديدة أنّ بول اوستير يروي الأحداث ويسترجع شريط الذكريات مستعملا ضمير المتكلم، فهو يسرد شذرات من حياته في مختلف مراحل عمره في قالب كتابة أدبية، ويعلّل المؤلّف اختياره لضمير المتكلم برغبته في إشراك القارئ معه فيما يرويه. وفي «يوميات الشتاء» بوح بمعاناة الإنسان وحيرته أمام قدره ومصيره وصراعه مع الحياة. وفي اليوميات سرد فصصي روائي لحوادث مؤلمة ووصف لجراح نفسية وأوجاع تركت بصماتها في وجدانه، وقد انتقى من فصول حياته ما رأى انه يمكن أن يثير جدلا ونقاشا لدى قرائه سعيا منه بأن تكون مطالعة الكتاب دافعا للقارئ ليتذكّر هو نفسه صفحات من طفولته وشبابه وكهولته، وحافزا لاسترجاع صفحات من محطات حياته.. فهو يعدد البلدان التي زارها ويذكر المنازل التي سكنها والأطباق التي يفضلها والنساء اللاتي أحبهن، والملفت أنّ الروائيّ بول اوستير أولى أهميّة كبرى في كتابه للجسد، وهو يعلّل ذلك بأنّ «الفكر» و»التفكير» و»الأفكار» إنّما هي متأتيّة من «ذواتنا»، وبالتالي من أجسادنا، مؤكدا أنّه عندما يكون المرء في صحّة جيّدة فإنّه لا يفكّر في جسده ولكن حالما يصيبه مرض، فإنّ «الحياة» كلّها تصبح تدور حول مشاكل الجسد. أجمل ذكرى وفي سياق الحديث عن الجسد يتذكر المؤلف أنه عندما كان شابا عاش فترة في باريس وكان يلتقي المومسات، وجاء في الرواية أن أجمل ذكرى لديه هي ذكرى خلوة له مع واحدة منهن في باريس، وقدم وصفا لتلك المرأة التي يقول بأنها كانت آسرة الجمال، وأهم ما شده إليها أنها قرأت عليه بعض قصائد الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير، ولمّا إتّهمه بعض النقّاد أنّه «اختلق» هذه الذكرى من خياله وأنّه لا وجود لامرأة مومس تحفظ قصائد بودلير أصرّ المؤلّف أنّها حادثة حقيقيّة وأنّه لم «يخترعها» من خياله قط! ولأن الجسد في مختلف حالاته كان مادة للرواية، فإن الأميركي بول اوستير أورد في كتابه قصّة أخرى حصلت له منذ عشرة أعوام عندما امتلكه الفزع إلى درجة ظنّ أنّه ميّت لا محالة، فقد توفيت والدته فجأة دون أن تصاب بأيّ مرض، ولم تكن زوجته ليلتها معه وإنّما كانت في زيارة لأهلها في ولاية أميركيّة تبعد آلاف الكيلومترات عن إقامتها مع زوجها في نيويورك. تلقى الراوي مكالمة هاتفيّة من الخادمة التي كانت تسهر مرة كل أسبوع على تنظيف الشقّة التي تسكنها أمّه لتخبره بأنها وجدت والدته وقد فارقت الحياة. وصل بسرعة إلى الشقّة ليجد أمّه مسجاة وهي جثة هامدة فوق سريرها. كانت لحظات عصيبة بالنسبة إليه، تأمل أمه وكانت أوّل فكرة راودته، وقد نقلها لنا في اليوميات، مفادها انه «رأى الحياة» وهو نطفة ثم جنينا داخل جسد تلك المرأة التي كانت أمامه بلا روح، وان هذا الجسد الذي نما هو داخله هو الآن هامد ولا حراك ولا حياة فيه. لقد تهاطلت عليه الأفكار والخواطر عن الحياة والموت وهو يرى أمه وقد توفيت. ثم يأخذ بول أوستير قي سرد تفاصيل تلك الليلة الحزينة في حياته، فقد جافاه النوم ودفن ألمه باحتساء كمية كبيرة من الشراب، وفي الليلة الموالية غرق أيضاً في كميات كبيرة من الكحول، وارتمى منهكا على فراشه، وفي الساعة الخامسة فجرا استيقظ على رنين الهاتف. لم يستطع النوم فشرب قهوة وبطنه خاوية ثمّ أردفها بقهوة ثانية وثالثة، وعند شربه للقهوة الرابعة شعر فجأة بالدوار، وزادت دقات قلبه خفقانا، وفجأة ضاق صدره ولم يعد قادرا على التنفّس، يقول: «لقد غمرني الرعب، وعندما حاولت الوقوف لم أقدر وسقطت أرضا، وأحسب أنّ الدم قد كفّ عن الدوران، وظننت أنّه الموت قد تسلّل إلى جسدي». خواطر وتأملات والرواية مليئة بالتأملات والخواطر التي ينقلها في صياغة روائية. وقد خصّص جزءا من كتابه هذا للحديث عن أمّه معترفا أنّه عند موت أبيه أو أمّه فإنّ دموعه لم تنزل من عينيه رغم رغبته في البكاء وإحساسه بحزن عميق، وهي حالة أكد أنّها تتكرر كلّما فقد قريبا في حين أنّ عينيه سرعان ما تدمع عند قراءته كتابا مؤثرا أو عند مشاهدته بعض الأفلام. وربما يبدو للقارئ العربي أن هذه الجزئيات التي يروي تفاصيلها بول اوستير أنما هي جزئيات عادية، وربما تبدو أحيانا بديهية ولكن الروائي ينسج بينها رابطا وجدانيا لكي يرسم سيرة إنسان ومعاناته في حالات الألم والحزن، أو فرحه ومتعته في لحظات سعادته، ويؤكّد بول أستير أنّه كان يظنّ أنّ الكتابة بالنسبة إليه كانسان مرهف الإحساس هي بلسم لجراحه ولكنّه الآن وقد تقدم به العمر تأكّد بأنّ ذلك ليس صحيحا، فأثناء الكتابة قد يشعر المبدع بأنّه «يتعافى» ولكنه حالما ينتهي من الكتابة فإنّه يشعر بأنّ لا شيء تغيّر. ويعترف بول اوستير بأنّ الكتابة في شبابه الباكر كانت «تمرينا» يربطه بالعالم، أمّا اليوم فالأمر مختلف، مؤكدا أنّ بعض الروايات تطلبت منه 10 سنوات من التفكير والتأمل قبل الشروع في التحرير، مشيرا إلى أنّه كلّما انتهى من كتاب يذهب في ظنه أنّ المعين قد جفّ وأنّه لن يؤلف كتابا آخر، ثمّ شيئا فشيئا تأتي أفكار أخرى تدفعه إلى الكتابة من جديد، مبينا أنّه اليوم وبعد أن اصدر أكثر من عشرين كتابا فإنّه يعتبر نفسه مبتدئا وهاويّا عندما يشرع في كتابة رواية جديدة. ولا يخفي الروائيّ دور زوجته «سيري» في حياته، فهو يقول أنّه عندما إلتقى بها فإنّها غيّرت نظرته للحياة وللناس وللعالم، مضيفا: «كنت وحيدا بعد طلاقي، حزينا بائسا ولولا هذا اللقاء الذي تمّ صدفة مع «سيري» بنيويورك فإنّ حياتي في الثلاثين عاما الأخيرة كانت ستكون مختلفة، فقد كنت قبل إقتراني بها تائها ضائعا لا أعلم ما أريد وماذا سأفعل، وكنت أتّخذ قرارات حمقاء دائما، واليوم فان زوجتي أعطت معنى لحياتي واحتضنتني وأنقذتني». وفي كل صفحة تقريبا يكيل المديح إلى زوجته ـ وهي أيضا كاتبة ـ معبرا عن إعجابه بذكائها وجمالها ونباهتها الفكرية، ولكن أحد النقاد لاحظ بأنه أكثر من تعداد خصال زوجته والتعبير لها في كل صفحة عن حبه لها لدرجة تبعث على الملل. وهو يرى أن دور الكاتب ليس «التنظير». فالروائي ـ كما يقول ـ ليس فيلسوفا وهو ما لا يمنعه من أن يفكّر طبعا مضيفا: «إنّ الحياة جميلة بديعة وهي أيضا قبيحة ومرعبة، وإنّ دوري كروائيّ أن «أختطف» تلك الفترات التي تكون فيها الحياة رائعة والفترات الأخرى التي تكون فيها قبيحة جدّا». وعندما سئل الروائي الأميركي عن علاقته بالموت اكتفى بالجواب: «آمل أن يأتي في أبعد فترة ممكنة...»، معلنا أنّ كتابه المقبل عنوانه «Report of the Interior» وموضوعه «العلاقة مع الدّاخل» ويروي فيه كيفيّة تكوّن أفكاره: كيف تخامره؟ وكيف تولد وتنضج؟ وهي تأملات في مسيرته الأدبية. طقوس الكتابة عن أسلوب وطقوس الكتابة لديه يقول بول أستير، إنّه عندما يحرّر جملة فإنّه لا يعرف أبدا ماذا ستكون الجملة التالية، وعندما تأتيه فكرة فإنّه يجهل الفكرة التي ستليها، وأحيانا لا يعرف أين تسير الأحداث في الرواية إلى درجة الإحساس بالضياع، وعند ذاك يتوقّف عن الكتابة ليعود إلى الحياة اليوميّة ويعيش وينام أو يذهب لمشاهدة فيلم ثمّ يستأنف الكتابة في اليوم الموالي. مواقف غريبة من المواقف الغريبة في حياة بول اوستير اتهامه المفكّر الفرنسي جان جاك روسو بالكذب في مذكراته التي تحدّث فيها عن حياته، مضيفا: «روسو كان كاذبا أمّا أنا فلا!!». ويقول الروائي الأميركي أنّه فعلا ليس أمرا هيّنا أن يكشف الأديب في مذكراته ويومياته «الأسرار العائليّة»، ولذلك فإن بول اوستير لا يضع أسماء حقيقيّة للأشخاص، ولكنّه يستدرك للإشارة بأنّه ذكر مثلا أنّه حصل عام 1919 أنّ جدّته قتلت جدّه بطلقة من مسدّس وكانت هذه الحادثة تمثّل «سرّا» عائليّا دفينا، لكنّه هو تحدّث عنه وكشفه معترفا أنّه كلّما تقدّم به العمر كلّما أصبح يحنّ إلى فترة شبابه، وأنّه مولع بتذّكر ما يسميه «أوّل مرّة» مثل أوّل مرّة ركب درّاجة مثلا، فهي فترات تذكّره بسعيه إلى «الاستقلال» بذاته وفرحته بذلك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©