الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أخلاق المجير والمستجير

أخلاق المجير والمستجير
24 ابريل 2013 21:57
الدكتور عارف الكنعاني رقــيَّ بعَمْرِكُـــمْ لا تَهْجُرينـــا وَمَنّينـــا المُنــــى ثــم امطلينـــا عدينــا فــي غـــدٍ ما شـــئتِ إنّـا نحـــبُّ ولــو مطلـــتِ الواعدينــا فإمّـــا تنجـــــزي عِدَتـــي وإمّــا نعيــشُ بمــا نؤمــلُ منــكِ حينــا تقـي اللــه فـيَّ رقــيَّ واخشـي عقـوبــــــةَ أمـرنــــا لا تقتلينـــــا بعيشـكِ وارفقــــي بـي أم مــروٍ ويـــومَ رجـــالُ أهـــلكِ ينذرونـــا دمـي ثـم اندَخَلــتُ إليــكِ حتـى تخطيـــتُ النيــــامَ الحارســــــينا فبــت تمسـهم قدمـي وثوبـــي وودّوا مِـــن دَمــي لـو يشــربونا ويـوم تبعتكـــم وتركــت أهلــي عجيـــج العــــودِ يتبــــعُ القَرينــا هل تصدق أن هذه الأبيات الرقيقة هي لشاعر ولد وعاش في بداية العصر الإسلامي وخلال العصر الأموي؟ هذا الشاعر هو عبيد الله بن قيس الرقيات. مرجعنا الذي لا غنى عنه لأي باحث في تاريخ الأدب العربي شعره ونثره هو أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الشامل الأغاني.. الشاعر المحب والمبدع في التعبير عن مشاعر الحب في قلبه هو عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن أهيب بن عبد معيص بن عامر بن لؤي. أمه هي قتيلة بنت وهب بن عبدالله بن ربيعة بن طريف بن عبد مناة بن كنانة. ومن هذا النسب نعرف بوضوح أنه قرشي الأبوين، والنسب هنا يكتسب أهمية خاصة، حيث كانت قريش من أعز وأمنع قبائل العرب ومنها كان رسول الله محمد بن عبدالله صلوات الله عليه وسلامه. وكان لهذا النسب أثره الواضح في شعر شاعرنا، كما كان لقب الرقيات يعود إلى أنَّ الشاعر نفسه كانت له علاقة بثلاث نسوة كلٌّ منهن تسمى رقية.. وهنّ: رقية بنت عبدالواحد، وابنة عم لها وامرأة من بني أمية.. ولكن هيامه الحقيقي كان على أشده برقية بنت عبدالواحد التي ذكرها في شعره ومنه تلك الأبيات التي ذكرناها في بداية هذا البحث. ولد عبيد الله في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. ولو تابعنا ما ذكره العديد من الرواة لوجدنا أنه يمكن أن يكون قد ولد ما بين 31 هجرية و23 هجرية. لم تكن حياة الشاعر سهلة إلا في البداية، حيث يقول أبو الفرج الأصفهاني إنه نشأ في المدينة وانتقل إلى مكة. ونظم مقطوعات شعرية غنائية تغنى بها كبار المغنين في عصره أمثال سائب خاثر ويونس ومالك وابن محرز وغيرهم. لم يكن على وفاق مع مروان بن الحكم والذي كان والياً لمكة في خلافة معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية. وعندما تولى يزيد الخلافة ثار الناس في مكة على بني أمية مما جعل الشاعر يحمل عصا الترحال ويصل إلى منطقة الجزيرة الواقعة بين العراق وسوريا. وفي ذلك المكان الذي لجأ إليه وصلت إلى أسماعه أخبار موقعة الحرّة بين الثوار والأمويين.. وقتل في هذه المعركة العديد من إخوته وأبناء عمه، ما جعله يثور على الأمويين ويحقد على يزيد ويتوعد بالثأر للقتلى من عائلته. وبشعر يذوب لوعة وحسرة يرثي شاعرنا إخوته وأقرباء ومن هذا الشعر نقتطف: كيــفَ الرُّقــادُ وكلّمـــا هَجَعَــتْ عينـــي أَلَـــمَّ خيـــــالُ إخوتيــــه تبكــي لهـــم أســـــماء معولــةً وتقــــول ليلــــى: وارزيّتيــــــــه واللــــه أبــــرح مـــــن مقدمـــةٍ أهـدي الجيـــوش علــيّ شــكتيه حتــــى أفجعهـــــم بأخوتِهـِـــم وأســــوق نِسْـــوَتهم بنســــوتيه غادر الشاعر أرض الجزيرة بعد موت يزيد بن معاوية واتجه إلى فلسطين. وعندما تولى مصعب بن الزبير ولاية العراق إبان حكم أخيه عبدالله بن الزبير للحجاز توجّه إليه يؤيده ويمدحه إلى أن قتل في معركة دير الجاثليق سنة 71 هجري (782) ميلادية. يتحدث الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات عن هذه المرحلة فيقول: ? خرجت مع مصعب بن الزبير حين بلغه شخوص عبدالملك بن مروان إليه، فلما نزل مصعب بن الزبير بمسكن ورأى معالم الغدر ممن معه دعاني ودعا بمال ومناطق فملأ المناطق من ذلك المال وألبسني منها وقال لي: انطلق حيث شئت. ? لن أنطلق إلى أي مكان.. بل أنا باقٍ معك. ? اسمع يا عبيد الله.. انتهى الأمر.. وأنا مقتول لا محالة.. فانج بنفسك. ? واللهِ لا أتركك وسأقاتل إلى جانبك. ? أقول لك انتهى الأمر.. لا فائدة يا عبيد الله.. خذ المال وانطلق. ? والله لا أفعل.. معك حتى الموت.. وبالفعل أقمت معه حتى قتل، ثم مضيت إلى الكوفة.. وطرقت أول باب قاصداً التخفي.. وكانت تسكن تلك الدار امرأة تدعى كثيرة قيل لي: إنها أنصارية.. ? ادخل أيها الرجل.. ?? ألا تسألينني من أنا. ? لا يهم من أنت؟ المهم أنك استجرت بداري.. وأنا أجرتك. ?? أقمت لدى كثيرة أياماً عديدة، متخفياً عن عيون عبدالملك بن مروان وبطش الحجاج بن يوسف الثقفي. ? وعندما تركت بيت كثيرة.. ألم تسألها من كانت.. ألم تسألك من أنت ومم أنت هارب. ?? لا.. لم أسألها ولم تسألني.. ووالله لقد حفظت عليّ حياتي وحمتني من بطش الحجاج. ? ألم تسألها من هي.. ?? لم أفعل.. قابلت صمتها بصمت أكثر إصراراً وأشد إلحاحاً. ? وإلى أين ذهبت بعدها؟ ?? إلى المدينة المنورة.. ? ولم تقل شيئاً في كثيرة؟ ?? قلت الكثير. ? مثل.. لَجَجْـــتَ بحبــكَ أهــــلَ العــراق ولــــولا كثيـــــرة لـــم تَلْجُــــــجِ فليــــتَ كثيــــرةَ لــــم ألقهـــــا كثيــــرةَ أخـــتِ بنــــي الخـــزرجِ ومـا كلمتنـــــــــــا ولكنهــــــــا جَلَـــتْ خلقـــةَ القمـــرِ الأبلــــجِ ? جميلة إذن.. ?? أجمل نساء الدنيا ? لعلك تضفي عليها هذه الصفة لشعورك بالإمتنان. ?? بل إنها حقاً كانت رائعة الجمال.. ولكن.. ? ولكن ماذا؟ ?? أن تجيرك امرأة مثلها.. وأن تحفظك وتحميك حتى من نفسها.. وتقيم لديها أياماً وليالي.. فأنت حتى لو كنت دنيئاً لن تستطيع رد الإحسان بالإساءة.. فكيف وأنا الفارس المناصر للحق والحالم لقيم الإسلام السامية. ? ومن قصدت في المدينة المنورة؟ ?? قصدت دار عبدالله بن جعفر بن أبي طالب. ? ولكنك حتى هناك فأنت مطلوب. ??نعم.. ولذلك تلثمت وحين آنست خلو الدار إلا منه دخلت وأزلت لثامي قائلاً: عبدالله بن جعفر.. أنا عبيد الله بن قيس.. جئتك عائذاً مستجيراً طالباً حمايتك. ? ويحك يا عبيد الله.. إنك مطلوب لديهم.. وهو حريصون على الظفر بك وقتلك.. فماذا أنت فاعل؟ ?? لا تخف.. سأكتب إلى أم البنين بنت عبدالعزيز بن مروان فهي زوجة الوليد بن عبدالملك وعبدالملك يحبها كثيراً ولا يرد لها طلباً. ? ثم ماذا؟ ?? فعلها عبدالله بن جعفر وكتب لها.. وكتبت هي لعمها عبدالملك تشفع لي.. وفزت أخيراً بعفو أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان. ? إذن.. تغيرت قناعاتك وتبدلت ولاءاتك.. ?? رغم أن عبدالملك بن مروان عفا عني.. وأصغى إلى قصيدة نظمتها في مدحه، إلا أنه ظل متوجساً مني، لا يستطيع أن ينسى ماضيّ الذي كنت فيه مؤيداً لعبدالله بن الزبير الذي كان يريد الخلافة لنفسه.. وكنا نعتقد أنه الأحق بها من بني أمية. ? ماذا تعني أن عبدالملك ظل متوجساً منك؟ ?? بعد أن ألقيت أمامه قصيدتي التي أقول فيها: يعتَدِلُ التاجُ فوقَ مِفرقهِ.. على جبينٍ كأنَّهُ الذهبُ توقعت أن يكافئني ويكرمني.. ولكنه بدلاً من ذلك قال لي: يا ابن قيس تمدحني بالتاج كأني من العجم وتقول في مصعب: إنّمـا مِصعـبٌ شــهابٌ مـن اللــه تجلّـــت عــن وَجهِــــهِ الظلمـــاءُ ملكـــُهُ مــلك عــزةٍ ليـــسَ فيــهِ جـبــــروتٌ ولا بـــــه كبــريــــــاءُ ? مولاي.. أنت أعطيتني الأمان والعفو. ?? نعم يا ابن قيس.. الأمان والعفو لك.. ولكن لا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبداً. من خلال هذا العرض ندرك حجم المعاناة التي قاسى منها الشاعر.. ولعلّ هذه الأحداث والتجارب هي التي ساهمت في صقل شاعريته وجعله واحداً من أهم شعراء عصره. اضطر عبيد الله بن قيس الرقيات لمديح بني أمية.. ولكن الشعر الذي لا يخرج من القلب يظل مجرد صنعة.. أما شعره في الزبيريين فقد كان صادقاً.. وقف أمامه النقاد والدارسون وقفة الإعجاب والرضى. ومن هنا نفهم لماذا أبدع الشاعر في الغزل ولم يصل إلى ذلك في قصائد المديح. نظم عبيد الله بن قيس معظم شعره الرائع لحبيبته رقية وشعره فيها كان سلساً رقيقاً مجدداً لم نعتد عليه مع الآخرين الذين كانوا قبله والذين كانوا معه. ولكن قصته مع كثيرة تبقى هي الأبرز.. وخاصة بعد أن أدركت كثيرة أن ضيفها الذي لا تعرف حتى اسمه أصبح في مأمن بعد إقامته معها زمناً طويلاً وأنه أصبح قادراً على العودة إلى أهله قالت له: ? تريد العودة إلى أهلك؟ ?? نعم.. إن أذنت؟ ? ونأتيك بما تحتاج إليه. ?? كفيت ووفيت.. دعيني أرحل راجلاً. ? هذا لا يمكن أبداً.. تفضل معي.. عندما نزل الشاعر، وجد أنها قد أعدت راحلتين ومعهما عبد، وأعطت العبد نفقة الطريق وقالت: العبد والراحلتان لك.. وهذا ما أهاج قريحة الشاعر.. فنظم هذه القصيدة التي يجمع فيها خيوط قصته مع كثيرة ومع بني أمية: عَادَلَـــهُ مـــن كثيـــــرةَ الطَـــربُ فعينـــــهُ بالدمـــــوعِ تنســــكبُ كوفيّــــةٌ نــــــــازحٌ محلتهــــــــا لا أمَـــــمٌ دارهُــــا ولا سَــــــقبُ واللـــهِ مــا إن صبــــت إلــي ولا يُعلَــــم بَيْنـــي وبَيْنِهـــا ســـببُ إلا الــذي أورثَــتْ كَثيـــرةٌ فـــي القلــب وللحــبِّ سَـــوْرةٌ عجــبُ لا بـاركَ اللـهُ فـي الغوانــي فمـا يُصبحـــنَ إلاّ لَهُـــــنّ مطَّلــــــبُ أبصـرنَ شــيباً عـلا الذؤابــة فــي الــرأسِ حديثــــاً كأنّـــهُ العُطُــبُ فَهُـــــنّ يُنكـــــرنَ مـا رَأَيْــــنَ ولا يُعــرفُ لـي فـي لِدَاتـي اللعــبُ ما ضِـرَّهـــــا لوغَــــدا بِحاجَتِنــــا غـــادِ كريـــــمٌ أو زائِـــــرٌ جِنــــبُ لَــمْ يــأتِ عــن ريبــةٍ وأجْشَـــمَهُ الحـبُّ فأمســى وقلبُــهُ وصِــبُ يا حَبّــــذا يـثــــــــربٌ ولذّتُهَــــــا مِــن قَبــلِ أنْ يَهلكــوا ويحتربــوا وقبــلَ أنْ يخـــرجَ الذيـــن لَهُـــمْ فيهـا الســناءُ العظيـمُ والحسـبُ بَغَــتْ عليهـــم بهــا عشــــيرتُهُمْ فعـوجِلــوا بالجَـــــزاءِ وَاطّلِبُــــوا قومٌ هُمُ الأكثـرونَ قِبْصَ حصـىً في الحـي والاكرمـون إن نسـبوا ما نقَمـــوا مــن بنـــي أميـــة إلا أنهُــــمْ يَحْلمُـــونَ إن غضِبــــــوا المصادر والمراجع: -1 الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. -2 ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات/ الدكتور عمر الطباع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©