الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«فدائي» عاش حياته بشغف

«فدائي» عاش حياته بشغف
16 ديسمبر 2009 22:24
إن الكتابة الصافية عن كاتب محترف، يتعامل مع ذاته بوصفه كاتبا محترفا، يدرك تماما إن فعل الكتابةِ مهنةٌ، بل هو بالضرورة، فعل مكابدة ومهنة شاقة، فإن المرء لا يفكر كثيرا في ما سيكتب لاحقا إنما يضع لنفسه مساحة خضراء من الحياد الذي لا يقصد إلا وجه الكتابة والذي هو واحد من شروط الكتابة التي يمارسها كاتب عن منجز كاتب آخر. ذلك أول ما يخطر ببال القارئ حال الفراغ من كتاب: “سرد الذات” لصاحب السمو عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات العربية المتحدة حاكم الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، الصادر أخيرا عن منشورات القاسمي دون مبالغة في تأنيقه، هو الذي بدأ حياته الأدبية بقصائد على طراز الشعر العربي الكلاسيكي ثم نضجت تجربته مع الكتابة في المسرح، ثم أضافت تجربته في السياسة وقراءة التاريخ إلى تجربته الإبداعية البحث في مجال التأريخ السياسي المعاصر لدولة الإمارات وتحديدا الشارقة، الأمر الذي هو لافت حقّا في زمننا العربي المعاصر؛ أي أنْ يحترف صاحب قرار وسلطة الكتابة ويعطيها من وقته وجهده الذهني والمعرفي هذا الكدّ ويمضي معها ويخلص لها، إذ أنّ الكتابة امرأة غيور تفرّ من الانشغالات الأخرى عنها من قِبَل صاحبها. سلسلة دفقات “سرد الذات” لجهة البنية، هو من ذلك النوع من الكتب التي تنكتب على شكل سلسلة من الدفقات المتتالية، في لحظات من الصفاء الخالص والمنقّى من الاستغراق في أمور أخرى، بمعنى أنه سرد كرنولوجي لحياة رجل عادي بامتياز وعاش حياة عادية بامتياز، لكن كأنما ليرويها، ربما لأنها نابعة من تلك الرغبات العظيمة في “سرد الذات” وإعادة قراءتها، أي الذات، عبر هذا السرد. وقبل ذلك، فإن الشخص السارد لتفاصيل حياته في الكتاب يسرد بتواضع الكاتب الذي يكتب لقارئ يجهله، أي أن طرفي عملية الإرسال والتلقي هما طرفان يحكمهما ذلك الاتفاق العرضي في “فعل القراءة” الذي يقوم أساسا على مستوى ارتقاء فنية الكتابة لا سواها، وهذه واحدة من أخلاقيات الكتابة ينضاف إلى ذلك النظر إلى الذات الكاتبة بوصفها ذاتا من الذوات الأخرى العديدة التي تحيا في العالم والتي يحق لها أن تسرد ذاتها، هكذا ببساطة. ينتاب القارئ هذا الإحساس من أمرين اثنين هما أساسيان في الانجذاب إلى متابعة القراءة: توهج السرد وحميميته بدرجة أخص، وتحديدا في الصفحات التسعين الأولى، ومن ثم تجلّي المكان بتفاصيله وحضور البشر فيه وحكايتهم عنه وبالتالي موقفهم من العالم من حولهم وطبيعة تعاملهم معه إلى حدّ شديد الغنى، بالنسبة لقارئ عربي، مثل كاتب هذه السطور، على صعيد ما هو تاريخي إلى جوار ما هو حكائي، إذ يجتمع الأمران في سلّة واحدة. ذاكرة المكان يبدأ الكتاب باسترجاع مكان الطفولة بتفاصيل وتضاريس تشبه تلك التي يأتي بها الرحّالة عندما يأتون إلا مكان ما غير أن الفارق هو في سرد تلك الحكايا التي من غير الممكن لرحالة أن يعرفه. خذ مثلا حكاية ذلك السارق الأكتع والعنيد ضئيل الجسم وصاحب السوابق فيما يحتضن غنيمته بين القش والتي لم تكن سوى مدفع، بوصف ذلك نوعا من وصف المكان الذي هو حصن الشارقة، فهذا الربط بين الوصف واستعادة الحكاية هو ما يجذب نحو ذلك الوهج الذي يتدفق من السرد، فضلا عن ما يختزنه السرد من مقدرة على التوصيف وكأن الرجل يرحل في حلم طفولته الذي يراه أمامه الآن شفيفا وأبيض وواقعا بين الواقع والخيال والشعر والنثر فيما هو يعيد ترتيب صفحاته. وذلك فضلا عن أنّ العديد من الشخصيات العادية واليومية في الحكاية تذكِّر بشخصيات من “مائة عام من العزلة” للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز و”الصخب والعنف” للأميركي وليم فوكنر، لكنها في الوقت ذاته شخصيات محلية أنتجها المكان وهي شخصيات الشقاء العادي، إذا جاز التوصيف، الخارجة من رحم الحياة العادية للناس. ودون إفراط في القول فإن الحديث عن الأسواق والمهن القديمة تجعل المرء يشتمّ تلك الروائح التي كانت تخرج من البحر ومن سوق الفاكهة ومن سوق السمك وسواها من تلك الروائح المقبلة من السفن التي وصلت للتوّ من الهند محملة بالتوابل والأقمشة. المدرّس الهندي ولعل من أجمل حكايا الشارقة في “سرد الذات” أيضا، حكاية ذلك المدرّس الهندي “دسلفا” الذي أسلم فختن ولما برء من ختانه ارتد ورحل، هكذا ببساطة وبوصف تلك واحدة من النوادر في الشارقة التي يكشف الراوي من خلال الكتاب أنهما كما لو أنهما كانا يتبادلان التعرّف على بعضهما البعض. لا يستطيع المرء من بعدها إلا أن يضحك من هذه الشخصية ومفارقاتها العجيبة، في الوقت الذي يتعرّف فيه على تفاصيل ما كانت عليه حال التعليم آنذاك وحضور شخصية مثل مدير المدرسة محمد ذياب الموسى وأثر هذا الرجل. يتحدث الكاتب هنا عن ذكريات خاصة لا تخلو من “شقاوة” الفتيان إنما بلذاذة، إذ كما لو أنه يمارس ثلاثة أفعال معا: التذكر ثم الكتابة التي يرافقها الضحك أو الابتسامة على الأقل. بهذا المعنى، وبهذه المحبة، ترسم حكايا “سرد الذات” شخصيات نابضة في المكان على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، مثلما ترسم تلك الأزمنة المتحولة بسرعة شديدة منذ أربعينات من القرن الماضي وحتى أوائل السبعينات حين جرى اختياره حاكما من قِبَل القواسم هو الشاب العائد حديثا من قاهرة الستينات ممتلئا بثقافة زمن ناصري واعد بحلم عربي جميل وبزمن عربي لطالما دغدغ خيالاته عندما كان هنا قبل أن يرحل إليها، وقبل أن يشهد انهيارهما كذلك. وهنا ثمة تفاصيل أخرى من نوع آخر يشهد القارئ عبرها تلك الآثار التي تركتها الحرب البريطانية الفرنسية الإسرائيلية على مصر، التي تتفتح فيها الناصرية على نصرة الفقر ضد الإقطاع العام 1956 عندما كانت ثورة يوليو يشتد عودها، على شاب عروبي ينتقم من هذا العدوان على تلك الرغبة الجامحة بالاستقلال وسيادة القرار، وسيكون هذا الشاب هو سلطان ذاته الذي يفخر به أبوه بسبب روح “الفدائي” التي تسكنه وتقلق عليه أمه مثلما حدث لأي شاب عربي تورط يوما في العمل السياسي السرّي، بل ما من ضير في القول بأنه قد انسحب من حزب البعث العربي الاشتراكي نتيجة موقف الحزب من جمال عبد الناصر بعد الانفصال عن سوريا العام 1963 بكل ما في روح الشباب من الاندفاع والنزق ثم الحديث عن تلك المخاوف الإنسانية التي انتابته في الكويت بتفاصيلها التي تتدفق من ذاكرة حيّة ومتوهجة. شخصيات شارقانية وهنا في الشارقة، لا ينقطع النشاط السياسي المقرون بالنشاط الاجتماعي والرياضي، فتظهر شخصيات شارقانية من ذلك الزمن الجميل كما في حكاية إغلاق النادي الثقافي زمن التسلط الإنجليزي وكما في حكاية الرحلة إلى إيران وصولا إلى ضفاف البحر الأسود، ثم المظاهرات في الشارقة التي خرجت منددة بافتتاح مكتب لإسرائيل في طهران، ومحتجة على وصول طائرة إيرانية إلى مطار الشارقة وما في الحكايتين من مفارقة تجمع الواحدة منهما إلى الأخرى وقد رواهما صاحبهما من وجهة نظر شاهد عيان. وحتى نهاية الستينات تأخذ السيرة صاحبها في الكتاب إلى حياة الطالب سواء في الكويت أو القاهرة ثم العودة إلى الشارقة وذكريات تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة واحتلال الجزر أيضا. وهذه المرحلة أيضا دافئة، حيث النشاط السياسي الطالبي يبدو أكثر عقلانية ونضجا، وحتى على صعيد المشاعر الإنسانية، فهي بدورها تبدأ تتفتح. لكن بعد العودة إلى الشارقة، تصبح الذكرى وثيقة والسيرة شهادة عيان على تقلبّات وتحولات سياسية يضعها أحيانا المؤلف في الكتاب، ليصبح الكتاب وثيقة أو ما هو أقرب إليه، ثم ينتهي بذلك “سرد الذات”. أخلاقيات الكتابة وهنا، ينبغي الإشارة إلى أمر خاص يتعلق بأخلاقيات الكتابة. فقد صرّح صاحب “سرد الذات” عند صدور كتابه وحفل توقيعه في معرض الشارقة الدولي للكتاب لدورته التي أقيمت الشهر الماضي بأنه قد حذف الكثير من كتابه مثلما أعاد النظر فيه أكثر من مرة، وأنه لم يدرج 30 في المئة من محتواه، لأنه يثير الضغائن والكراهية والأحقاد، وهذا لا يجوز من باب أن مفردة السرد تعني الكلام الطيب والحديث الطيب. وبصرف عن النظر عن ذلك السبب السياسي المباشر الكامن وراء ذلك الحذف، لكن ثمة عُرف في أخلاقيات الكتابة من الواضح أن صاحب الكتاب يدركه تماما وحمّل نفسه مسؤولية أخلاقية تجاهه وهو أن الكتابة طيبة ولا تشيع إلا الجمال بصرف النظر عن الأسلوب ولا تسعى إلى بث الكراهية أو الضغائن، وهذه القيمة الأخلاقية متجذرة في أصل فكرة الكتابة التي يمارسها صاحبها باحتراف وإدراك لخطورة هذا الفعل الإنساني العظيم الذي يدعى الكتابة. أخيرا، الكتاب ذكريات حارّة عن شاب عاش الحياة بشغف، فمنحته تجربته الإنسانية، التي هي تجربة الناس أيضا، المقدرة على منح المحبة لمَن هم حوله، وذلك بدافع من أخلاقيات الكتابة قبل الاعتبارات الأخرى. ثم إنه اختار النثر بأناقته وارستقراطيته ليسرد ذاته هو تلك الذات التي أصبحت، عندما وُضِع القلم، “ذاتا جمعية” تروي مرحلة تاريخية بأكملها
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©