الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإعلام البترولي وأعمدة الاقتصاد

الإعلام البترولي وأعمدة الاقتصاد
16 ديسمبر 2009 22:31
كان الإعلام بالنسبة لي عندما أتيحت لي فرصة المشاركة في إذاعة صوت العرب من القاهرة في عام 1961، مجرد هواية امتلكت منها عنصرين أساسيين: الأول؛ الكتابة، حيث برزت في مرحلة الدراسة الثانوية كشاعر، وكاتب يرسل مقالاته النقدية إلى بعض الصحف والمجلات، والثاني؛ الصوت، حيث كنت ألقي بعض القصائد والكلمات في الحفلات المدرسية، وفي برنامج إذاعي كان يقدم في إذاعة دمشق بعنوان “الفردوس المفقود” وكان يشرف عليه ويعده ويقدمه الشاعر الفلسطيني المعروف يوسف الخطيب. لكنني اكتشفت فيما بعد، وبفعل النضج والاطلاع، على أن الإعلام الذي يكون بلا قضية ماهو إلا فقاعات ماء تتبخر وتتلاشى ولا تترك حتى أثرا. الإعلام والقضية ولعلني كنت محظوظا أن أرتبط منذ البدء بإعلام القضية الفلسطينية وهي أهم قضية لدى الأمة العربية، ولا يختلف فيها عربيان. ولذلك عندما وصلت إلى أبوظبي في مطلع عام 1971 كان همي الأول وأنا أجد نفسي في موقع إعلامي آخر أن أجد قضية أدافع عنها وأحمل مسؤوليتها، لأنه لا إعلام بلا قضية. وقد أتاح لي القدر منذ البدء أن ألتقي بمعالي الدكتور مانع العتيبة والذي كان يتولى مسؤولية دائرة البترول، وكان البترول نفسه في ذلك الزمان يحمل قضية بناء دولة وعمران وطن عاش أهله قبل اكتشاف النفط على الرمال وفي ظل حماية استعمارية وفي ظروف بالغة القسوة. وعندما حاول أحد المسؤولين عن الإعلام في ذلك الزمن أن يحذرني من الإعلام البترولي وينصحني بالاتجاه إلى موضوع آخر أو قضية أخرى، وجدت نفسي أتشبت بهذه القضية وأزداد إيمانا بعدالتها وبحاجتها إلى الإعلام أكثر من أي قضية أخرى. وهذا ما جعلني منذ البدء أفتح عقلي وقلبي معا لكل ما هو بترولي وأتلقف جميع الكتب والنشرات التي وضعها الدكتور مانع أمامي، وأقرأها بعمق واهتمام وأتعلم منها ما يجعلني مقنعا في الدفاع عن قضية البترول في دولة الإمارات العربية المتحدة. وعندما أتاح لي الدكتور مانع أن ألتقي بالزعيم، المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأصغي إليه وهو يتحدث عن البترول ودوره في بناء الدولة، وفي خلق أعمدة جديدة للاقتصاد تحددت لدي الخطوط العريضة لقضيتي الإعلامية. فأولا: البترول مادة ناضبة، غير متجددة، له عمر وسينتهي بعد خمسين أو مائة سنة على الأكثر، وما أقصر المائة سنة في تاريخ الشعوب. وثانيا: يجب ألا نعود إلى الصحراء والحرمان بعد نفاد البترول وجفاف حقوله في بر وبحر الإمارات. وثالثا: يجب استغلال هذه الثروة المؤقتة والناضبة لبناء اقتصاد قوي يمكنه أن يوفر مصادر دائمة وغير ناضبة للدخل ووضع أعمدة جديدة وقوية للاقتصاد. لقد وضع القائد رحمه الله أمام عيني هذه الخطوط العريضة لاستراتيجية عمل، يجب أن يتم، ويجب على الإعلام أن يواكبه بكل فهم ووعي ومسؤولية. وأتاح لي الإعلام والمسؤولون الذين يتولون إدارته في ذلك الوقت وعلى رأسهم معالي الشيخ أحمد بن حامد، ومعالي الأستاذ راشد عبد الله، وسعادة الأستاذ عبد الله النويس، أتاحوا كل الإمكانيات التي كانت لديهم لمساعدتي في تنفيذ برنامجي “الذهب الأسود” في الإذاعة والتلفزيون. أما الدكتور مانع العتيبة، فقد وضع إمكانيات دائرته كلها لمساعدتي في هذا البرنامج الذي كان نواة الإعلام البترولي في الدولة والذي تعددت وسائله وآلياته. وكان لي شرف حمل مسؤوليته من خلال وزارة البترول والثروة المعدنية التي أنشئت بعد قيام الاتحاد. وامتد نشاط هذه الإدارة، إدارة الإعلام البترولي لتشمل الصحافة بالإضافة إلى الإذاعة والتلفزيون. استراتيجية اقتصادية وللتدليل على وضوح الرؤية لدى القائد في ذلك الزمن يمكن الرجوع إلى المرسوم الأميري رقم 11 لعام 1970 والذي نص على تغيير اسم دائرة البترول إلى (دائرة البترول والمعادن والصناعة). إن هذا التغيير، ليس مجرد تغيير في الاسم، بل إنه تغيير في الغاية والوسيلة. إنه يحمل فكر القائد، كما يحمل أيضا ملامح الخطط التي وضعها الدكتور مانع العتيبة لتحقيق غاية ومقصد ذلك الفكر. فالاقتصاد في ذلك الوقت كان يقوم على عمود واحد، وهو البترول، وهذا الاقتصاد يمكن أن يصاب بهزات كبيرة ويتعرض لضربات موجعة لو قامت الشركات صاحبة الامتياز بتخفيض إنتاجها أو تعرضت أسعار البترول العالمية للانخفاض. ولذلك لابد من إيجاد أعمدة أخرى للاقتصاد تخفف من آثار أية نكسة تصيب الصناعة البترولية. إن التسمية الجديدة للدائرة أضافت إلى كلمة البترول كلمتي المعادن والصناعة. ولم تكن هذه الإضافة صادرة عن هوى ولا هي وحي من الشعر الذي كان الدكتور مانع العتيبة يجيده، بل صدرت تلك التسمية لتعلن عن خطة استراتيجية هدفت إلى تنويع مصادر الدخل بالاستغلال الأمثل لثروة البترول. ولذلك فقد حدد المرسوم الأميري رقم 11 لعام 1970 اختصاصات هذه الدائرة بالمهام الرئيسية التالية: -1 متابعة جميع عمليات شركات البترول العاملة في أبوظبي وإجراء المباحثات اللازمة معها فيما يتعلق بعقود امتيازها. -2 متابعة التطورات والاتجاهات المتعلقة بصناعة البترول وإعداد الدراسات والأبحاث اللازمة. -3 دراسة أحسن السبل الكفيلة بالنهوض بالصناعة البترولية في أبوظبي واستغلال البترول ومنتجاته والخام الطبيعي في الصناعة البتروكيماوية. -4 تمثيل أبوظبي في اجتماعات منظمة الأقطار المصدرة للبترول أوبك ومنظمة الأقطار العربية، المصدرة للبترول أوابك. -5 تمثيل أبوظبي في الاجتماعات ذات العلاقة بشؤون البترول أوالمعادن أو الصناعة التي تعقد ضمن نطاق جامعة الدول العربية. -6 رعاية شؤون الصناعة في أبوظبي بقطاعيها الخاص والعام والإشراف عليها وتوجيهها الوجهة السليمة المنشودة. -7 جميع ما يتعلق بالمسح المعدني واستثمار الثروات التي يثبت وجودها في أبوظبي. وإذا أمعنا النظر في فحوى هذه الاختصاصات لوجدنا الخطوط العريضة للاستراتيجية التي وضعتها القيادة لاستغلال الثروة البترولية المؤقتة وتسخيرها للقيام بمشاريع تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وصنع أعمدة جديدة للاقتصاد غير عمود النفط. وقد تحققت أهداف الاستراتيجية التي وضعها القائد زايد ورعاها ولي عهده الأمين صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان. تحققت الأهداف بفضل الجهود الجبارة التي بذلتها القيادة على مدى سنوات من المتابعة الحثيثة، حيث تمكنت هذه القيادة من تنويع مصادر الدخل وبناء الأعمدة الجديدة للاقتصاد. حدث ذلك بالرغم من زيادة إنتاج البترول في أبوظبي من حوالي 400 ألف برميل في اليوم إلى حوالي ثلاثة ملايين برميل يوميا وبالرغم من ارتفاع الأسعار من أقل من دولار واحد إلى ما يقارب ال 150 دولارا. ورغم كل ذلك وبفضل الجهود التي بذلت فقد تم بناء اقتصاد قوي جعل دخل البترول يتناقص ليصل إلى أقل من 30% من الدخل العام لدولة الإمارات العربية المتحدة. وعندما أسترجع اليوم بعض ما سجلته في ذلك الزمن الجميل من حلقات “الذهب الأسود”، أدرك كم كنت محظوظا باختياري قضية الدور الذي قام به النفط في بناء دولة الإمارات العربية المتحدة واقتصادها العظيم. وبكل اعتزاز وحب أسجل هنا أنني وجدت خطة واضحة، واستراتيجية مدروسة، وقيادة تعرف بالضبط ما تريد ولديها وضوح رؤية وعزيمة رواد، وكان لي شرف مواكبة هذه المسيرة إعلاميا منذ اليوم الأول الذي وصلت إلى أبوظبي في الأول من يناير عام 1971.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©