الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بروكهارد مولر يفتح نوافذ الاطلاع على التجارب الإبداعية الألمانية

بروكهارد مولر يفتح نوافذ الاطلاع على التجارب الإبداعية الألمانية
3 يوليو 2010 21:05
مواضيع هذا الكتاب “في فضاء الأدب الألماني” جديدة على المكتبة العربية، إذ عمد من خلالها المؤلف بروكهارد مولر إلى جمع مقالات ودراسات تتناول عدداً من الأعمال الأدبية الألمانية، محاولاً إلقاء الضوء على إبداعات أصحابها ليسبر غورها ويقدمها بطريقة مختلفة تشكل مفاتيح للعمل الإبداعي، بقدر ما تفتح نوافذ جديدة على حيوات هؤلاء الكتاب. يبدأ مؤلف كتاب “في فضاء الأدب الألماني” بروكهارد مولر حديثه عن فيلهيلم بوش صاحب الحكايات المصورة ذات الأسلوب الساخر، قائلاً إن من يقرأ لبوش عليه أن يبدأ بحكاية “ماكس وموريتس” وهو كتاب إن لم يكن صاحبه قصد جعله كتاباً للأطفال، إلا أنه ككتاب للأطفال بلغ منزلة لم يبلغها كتاب آخر. حتى أنه ترك أثراً واضحاً في الحياة الاجتماعية الألمانية، فلم يتجرأ الألمان ولفترة طويلة على تسمية أطفالهم موريتس أو ماكس لإحساسهم بخجل لم يبدأ بالزوال إلا بعد سنوات عديدة (ماكس وموريتس مثلا شخصيتي طفلين مشاغبين يصادقان الضفادع والحشرات). التربية السوداء واللافت، أن حكومة شتايرمارك منعت بيع هذا الكتاب حتى عام 1929، فيما كان السبب خوفهم من “التربية السوداء” بعنفها الكاسح، أما بالنسبة للطفل نفسه فقد كان كل من ماكس وموريتس مفهومين ضمناً ولكنهما بقيا في نفس الوقت خارج حدود حياته كلياً، بحيث لم يشعر بالخوف منهما ولا بالرغبة في تقليدهما، بل كانا بالنسبة إليه مجرد حادثة من نوع مميز. ويلفت مولر إلى أنه يمكن اعتبار كتاب حكاية “شتروفلبيتر” مقابلاً لكتاب “ماكس وموريتس”، حيث أراد بوش للكتاب أن يكون خاصاً بالأطفال وذا صلة بالأدب الشعبي الألماني في ذات الوقت من حيث وضوح إخلاصه لفقراء أوروبا الذين مثلوا أكثر من نصف سكانها في بداية القرن العشرين، حين أصدر مؤلفاته، وهو ما يظهر بجلاء عبر شخوص هذا الكتاب “شتروفلبيتر” مثل الفلاحة الشابة التي تبدو دوماً بمنتهى النحالة والهزال، وهذا المزارع المحتقر في صنوف الأدب الأخرى السائدة آنذاك، أما ما يتعلق بالأطفال في سياق الكتاب فيظهر في خرافات الحيوانات وأساطيرها الضاربة الجذور في حكايات الأدب الألماني عبر مئات السنين. ويشير الكاتب إلى أن جميع حكايات بوش يسيطر عليها الضحك النابع من العنف في المقام الأول، فالعنف يحدد معالم الرسومات ومجريات أحداثها أكثر من أي شيء آخر، مع العلم أن سلاسل الحوادث التي تمر منها الحكايات وتدفع نحو أوج حبكتها تنسب وبحق هي الأخرى إلى العنف، وبوش يكاد لا يبدي حتى ذرة واحدة من الشفقة على ضحاياه سواء تعرض هؤلاء لسوء حظر أو لعمل تربوي أو حتى إعدام، ويكاد بوش لا يتوقف عن الوسوسة للقارئ والناظر أن هذه ما هي إلا دمى مسرح ورقية، ولا يتورع عن إطلاق عنان فرحة الشماتة بها. مبدأ اللذة ينتقل مولر إلى سيجموند فرويد لا باعتباره رائداً لمدرسة التحليل النفسي، بل باعتباره صاحب مؤلفات عديدة استطاع من خلالها تشريح النفس البشرية، وعرف بواسطتها الناس مصطلحات فرويدية شاعت في كثير من نواحي العلوم والأدب، ومنها “الليبدو” ويقصد به في عالم فرويد الهيدروليكي المساء، ومبدأ اللذة هو جاذبية الأرض. ويعبر فرويد عن كثير من آرائه عبر واحد من أهم مؤلفاته وهو “ما وراء مبدأ اللذة” الذي صدر عام 1920 وكانت الحرب العالمية الأولى كانت قد انتهت لتوها وجلبت معها نمطاً جديداً تماماً من الاضطرابات النفسية، وحالات العصاب التي عانى منها عدد هائل من الجنود الذين كانوا مطمورين أياماً طوال في خنادق القتال، أو مزقت أطرافهم إحدى القذائف. وقد كان على هؤلاء ووفقاً لفرويد أن يعيدوا في يقظتهم وفي أحلامهم مراراً تلك الأحداث البشعة، فبهذه الطريقة فقط يمكن إغلاق الشقوق العميقة في بنيتهم الجسدية والنفسية. ثم يستعرض المؤلف عدداً من مؤلفات فرويد حتى يخلص إلى نتيجة مؤداها أنه لو كان تطور التاريخ قد أتى على حيز الهوادة الذي ترعرع في ترف ونعيم العصاب العادي للبرجوازية، فإن النموذج الذي طوره فرويد يبقى مسايراً للعصر. وفي هذا السياق يؤكد أن أعمال فرويد ارتكزت على محورين رئيسيين بينت كثيرا من جوانب الشخصية الفرويدية وهما: الاحترام الذي تقدمه هذه الأعمال للفرد بصفته الكائن الوحيد الموجود بالفعل، حتى لو كان ثمن ذلك الوصول إلى طرق مسدودة والوقوع في التناقضات. والإصرار على الوضوح والصدق الذي لا ينثني رغم كل شيء، وهو ما تبين من قول فرويد حين أجبر على مغادرة فيينا عام 1938 وإخفائه لكتاب موسى والتوحيد ليبقى محفوظاً في الخفاء، حتى يحين الوقت يوما ما، ويكون له أن يتجرأ على الخروج إلى الضوء دون خطر، أو حتى يكون بالإمكان القول لشخص يجاهر بالإيمان بنفس الاستنتاجات والآراء، لقد سبق وإن كان ها هُنا شخص في أوقات معتمة أكثر له نفس تصوراتك. إساءة تقدير يعرج مولر على نمط مغاير من الأدب ألا وهو الشعر، عبر تحليله لبعض أعمال جيرترود كولمر الشعرية، لافتاً إلى أنها أكثر من يساء تقديرهن من الشاعرات والشعراء في ألمانيا وأرجع ذلك إلى سببين اثنين. أولهما: الظروف غير المواتية التي أنتجت كولمر في ظلها معظم أعمالها، والتي رغم ذلك لم تحل دون أن يصنفها الكثيرون ضمن أعظم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين. أما السبب الثاني في جهل الكثيرين وإساءة تقديرهم لجيرترود كولمر فيمكن البحث عنه في أن كل ما كتبت من أعمال أدبية في النصف الأول من القرن العشرين يقع بشكل تلقائي في حيز النزاع القائم بين اللونين الأدبيين الحداثة والمحافظة، وهذا النزاع لم يكن في صالحها، فكان واضحا أنها لا تنتمي إلى الحداثة المؤهلة وعليها أن تكون إلى جانب المحافظين لاسيما أنها كانت تتحدث عن الحب والطبيعة. غير أنها من الناحية الأخرى لا يسعها أن تعتمد على مشاركة هؤلاء الوجدانية، وذلك بسبب كثرة ما عندها من أمور غريبة مثل شغفها بروبسير والقوة المطهرة للفضيلة الثورية. في أعمال جيرترود كولمر كانت حكاية العلاقة بين الإنسان والطبيعة تبدأ بوقوف العجز المرتجف للإنسان أمام قوة الطبيعة الجبارة، وتنتهي بشكل عابر يطرح الطبيعة بعنف أرضاً. ولكن وفي ذلك المقام الذي قلبت فيه الآية، كان من الممكن وجود طرف ثالث.، هناك تقف أعمال كولمر التي تتخطى كل ما يعترض طريقها من عقبات، وتتخيل وضعاً يخلو من كل خوف ومن كل سيادة. ومن جميل شعر كولمر الذي يعكس شخصيتها المتمردة وفي ذات الوقت يعبر عن واحد من أدبيات التراث الشعبي الألماني عبر حكاية “زمارهاملين” المعروفة في الأدب الألماني. نجد كولمر تقول نحن دوما نساء وذوات اللحية الزرقاء؛ دوماً حذرات، لن نصدق أبدا حقيقة، نخمنها مرتجفات. يتوعد دوما صوت خافت “ارجعي!”، لا يحملنا الحذاء إلا بتردد، ونرفع نحو البوابة أيد عاصية. سخرية اللغة وفي ميدان الشعر مع الشاعر الألماني كارل كراوس، الذي استطاع أن يجمع بين اللغة الساخرة والشاعرية في آن. ونأخذ هنا قصيد “ساعة الليل”، ومن خلال تحليلها نعرف بعضاً من خصائص كراوس الفنية، يقول فيها: ساعة ليل، تمر علي، لأني أفكر، أتأمل وأقلّب، وها هي الليلة تنقضي. عصفور في الخارج يقول: إنه نهار. ساعة ليل، تمر علي، لأني، أفكر، أتأمل وأقلّب، وها هو الشتاء ينقضي. عصفور في الخارج يقول: إنه ربيع. ساعة ليل، تمر علي، لأني أفكر، أتأمل وأقلّب، وها هي الحياة تنقضي. عصفور في الخارج يقول: إنه موت. في السياق ذاته، يقول مولر إن كراوس قد نصح في “مدح النهج الحياتي المعاكس” بالنوم طيلة ساعات النهار وعدم الخروج إلى الحياة إلا ليلاً حين يخلد باقي البشر إلى النوم، إنه منطوق الحكم على الحياة التي يعيش فيها. لابد من التنازل عن المجموعة وضوء النهار، على الكاتب الساخر أن ينتظر حتى يحل الظلام ويكون وحده من أجل الرد في عمله الليلي على أهوال وسخافات الساعات الاثنتي عشرة المنصرمة، حيث لا يمكنه أن يعيش ويعمل، إلا عند توقف الوقت التاريخي بشكل مؤقت غير أن ذلك لا يعني أن الوقت يلغى تماماً بل على العكس فإن الوقت المفرغ الذي هو إيقاع موسيقي يتأسس عليه كل ما يحدث يجري عندئذ بالذات بشكل ملموس لا هوادة فيه. يضيف مولر في معرض حديثه عن كراوس، إن وجود الكاتب الساخر إنما هو تأرجح بندول من العذاب، يتخلف عن سير العالم مقدار مرحلة واحدة. «كافكا» درة الأدب “الخنق” الذي كانت قصيدة السبب قد تحدثت عنه يفرق هنا عن الأفعال الثلاثة المكررة ثلاث مرات، دون أن يفقد هذا المستوى الأعلى من التمايز والانعكاس شيئاً من تأثيره المستوفى. فكل إشارة إلى عذاب العمل هذا قد يجر وراءه شيئاً آخر غير نفسه، غير حصيلة عمل فني ما قد ميت تماماً من قصيدة “ساعة ليل” وهكذا فقد أزيل التماثل المخفف للعبء مع النبتة، والذي كانت القصيدة انتهت به، الأنا يعود بشكل تام إلى الحياة الحيوانية، أي إلى المسار من جديد. وبهذا يكون الكاتب الساخر طرد من اليوم، ولكنه لم يطرد من الوقت، فصيغة الوقت المفرغة اللامتغيرة يعيد تشكيلها جمود القصيدة التي تسير كآلية الساعة. ثم يدلف المؤلف إلى درة الأدب الألماني “كافكا” كأحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة ويطرح سؤالاً عن محتوى كتابات كافكا؟ غير أن مولر يعود فيقول إن سؤال من هذا النوع لا يخلو من الأشكال لأننا سنقع بذلك في شرك التفسير الجزئي بكل سهولة. وللتغلب على هذه الإشكالية يعمد المؤلف إلى التعرض بالتحليل إلى نص بعنوان “رفض”. ويقول مولر “صحيح أن هذا النص لا يمكن إساءة فهمه كما قلنا، ولكن ذلك لا يعني، أنه لا يحبس أنفاسنا لأول وهلة بما انضوى عليه من فظاعة ما يعبر عنه بهذا الإيجاز وهذا الهدوء، والذي يتمثل بتلك الضرورة التي بعث فيها الرجال والنساء الهم والحزن في نفوس بعضهم بعضاً. والسبب في حصول ذلك يعود في المقام الأول إلى حقيقة أنهما يتوقع أحدهما من الآخر سعادة لا تقاس. ولكن التوصل إلى أمر لا يقاس يعني بدوره أن المقارنة غير واردة”. فتاة ورجل يقول مولر في كتابه إن في هذه المحادثة بين الفتاة والرجل، بين (نهد) “اك” و”لم” (تقم) تغني القيمة المالية أغنيتها وقد ارتدت قناعاً ما. وهما يقدران قيمة كل منهما. والمحادثة تبدأ، كما جرت العادة تقليدياً بأمنيات الرجل الحساسة، والفتاة متهيئة لذلك، وهي ترفض بشكل مباشر وروتيني موفرة على نفسها بذلك كل جهده، وكأن كلمة “لا” أكثر بكثير، مما يحق للمرء، لهذا الرجل توقعه منها. والحوار لا يجري بشكل صريح على الإطلاق، إذ أن من قواعد اللعبة بين الجنسين، أن يكون الحوار بينهما أبكما أو متنكرا والنمط الخاص لوجوده يرتكز هنا أيضاً على اللعبة ما بين “حين” (WENN) و”فإنها” (SO) في الجملة الأولى، وهذه اللعبة تمنح الحوار تلقائياً قوة وجوده. النهاية التي يطمح إليها الرجل لا يمكن لها أن تحصل، وذلك لأنه لا يملك ما يمكن أن تكتفي به المرأة، ما ينطبق هنا على مظهره الخارجي، وعلى موارده المادية (العاملان الكامنان في صورة الأميركي التي توردها الفتاة). الفتاة تلمح له على نحو يخلو من الاحترام، أنها أفضل بكثير، بعبارة أخرى أثمن بكثير من أن يحصل عليها هو. وحقها في الاختيار الذي تستعمله هنا تجاه من يخاطبها في الشارع دون اختيار مسبق تقريباً، يدفع بها بشكل مباشر نحو ذلك النوع من البغاء، الذي تحاول هنا الترفع عنه من خلال برودتها الرافضة. أما الرجل فيحمل في جعبته كردّ على ذلك نوعاً من الازدراء، الذي يعلمها درساً حول خطأ ما اشترطته من قيمة تقايض بها نفسها. وحقيقة أنها تفتقر إلى عامل التغيير في ملابسها لا تشكل، مقارنة بما تعترض عليه هي عنده، أي نقص مادي، بل إن هذه مجرد إشارة، مجرد تسعيرة معلقة على قطعة ملابس.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©