السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لذّة الكتابة..

لذّة الكتابة..
7 مايو 2014 20:03
هذه الجزيرة الصغيرة كانت، منذ قرون، تعجّ بالأحداث والأزمات والصراعات.. وهي تنعكس بشكل أو بآخر في نصوصك.. حتى لو كانت العوالم أو المناخات التي تتحرّك فيها نصوصك تبدو، ظاهريا، بعيدة عن واقعك. إن ما تكتبه يتصل بهذا الواقع. جذوره ممتدة في هذا الواقع. ولهذا الواقع، بالطبع، خصوصية تميّزه عن أي واقع آخر، غير أن القضايا الجوهرية ليست مختلفة كثيرا. لا يمكن للكتابة أن تنفصل عن القضايا المعاصرة وعن الهموم المعاشة لأنها-بداهة- تعبّر عن هذه القضايا وتتناولها بشكل أو بآخر. قد يكون التناول مبسطا وواضحا، وقد يكون صعبا ومركبا. أمين صالح في كل الأحوال، ينبغي أن ندرك أن الكاتب فرد في المجتمع، يتفاعل مع قضاياه ولا يمكن له أن يتناول قضايا خارج هذا الكوكب. إنه دائما ينطلق من مشكلات وهموم الواقع الذي يعرفه.. فكل الجذور ضاربة في هذا الواقع بقوة وعمق، وكل التخيلات هي في التحليل الأخير انعكاسات لواقع معاش. مستويات الواقع من جهة أخرى، ثمة كتّاب ينظرون إلى الواقع كبنية منظمة، واضحة، مترابطة عضويا ومنطقيا. وبالنتيجة –كانعكاس لهذه النظرة- يقدمون أعمالا تبسيطية، مباشرة، خالية من أي تراكيب غير مألوفة. لكن الواقع ليس كذلك. إنه يظهر لنا التناقضات والتعقيدات وانعدام الترابط المنطقي على الدوام. وللواقع مستويات متعددة، متعارضة، منها الظاهر ومنها الخفي (أليس الحلم والمخيلة والذاكرة من مستويات الواقع؟). عندما تكتب واقعك فإنك تدخل، بالضرورة، حالات الالتباس والتعقيد والغموض. بمعنى أن الغموض هنا يصير جزءا عضويا أو عنصرا مكوّنا من عناصر الفعل الإبداعي، وليس حالة تعسفية أو متكلّفة أو لغرض المناورة. الامتداد الخلاّق في نصوصي لم أحاول أن أطرح الواقع في حرفيته، في قضاياه اليومية المباشرة. كنت معنياً أكثر بعوالم الحلم والمخيلة، والتي فيها أمتلك حرية أكبر في تناول قضايا أكثر جوهرية أو أكثر اتساعاً.. من وجهة نظري. عالم الحلم أو المخيلة هو امتداد طبيعي لعالم الواقع، وليس منفصلا أو مستقلا عنه. الحلم حقل خصب وثري، أو، إن شئت، نبع ساحر واستثنائي، منه يستل الكاتب أو الفنان صوره ورموزه وأفكاره، وحالات عجائبية لا يمكن أن يصادفها في واقعه اليومي. الحلم هو الواقع الآخر، السحري والآسر، الذي منه يستمد الكاتب مادته. شخصيا، لا أستثمر ما تهبه لي الأحلام فحسب، بل إن الكثير من نصوصي تحاول أن تماثل الحلم في بنائها وصورها والعلاقات بين أشيائها. استجواب الذات والعالم الكتابة لا تتصل بمحيط معيّن بل بالكون.. بمعنى النظرة الكونية إلى الحياة، إلى الأشياء، إلى الذات البشرية بكل علاقاتها وتناقضاتها ومصائرها. الفن، في أحد مظاهره، استجواب للذات وللعالم، بحث عن معنى للوجود. الكتابة، وإن كانت ترتبط بالواقع الذي يعيشه الكاتب، إلا أنها تتخطى هذا الواقع لتطرح رؤية أشمل تتصل بأسئلة أزلية.. أسئلة في التاريخ والفلسفة والنفس والوضع البشري. الحداثة، كما أفهمها رغم التباساتها كمصطلح، ليست سلعة مستوردة قد تصلح لمجتمع دون آخر، أو مفهوماً مقتصراً على محيط دون آخر. إنها طريقة في التفكير والنظر والعيش. لغز الكتابة الكتابة، مثل الحياة، لغز. ومثلما نعيش حياتنا من دون أن نفهمها جيدا، ومثلما نحب من دون أن نفهم الكامن في الأعماق، كذلك نكتب من دون أن نفهم عناصر الكتابة وحالاتها وطقوسها. كل شيء يحدث هكذا، مثل بزوغ الفجر كل فجر، أو مجيء المساء كل مساء. أشياء خارقة تحدث ونقبلها على نحو اعتيادي، روتيني. من يعرف أي جنون يرافق الكتابة، أو أية لذة!. أنت تقضي عمرا مديدا تكتب أو تنتج فنا، بلا توقف.. لماذا؟ هنا يكمن اللغز، كلما أنتجت شيئا شعرت بشيء من الرضا أو الإشباع المؤقت، وسرعان ما تبدأ في الارتياب بما أنتجت، وتشعر بأن ما أنجزته لا يرتقي إلى ما كنت تصبو أو تهفو إليه، وأن ما هو كامن في داخلك لم يخرج منه إلا الجزء الضئيل جدا، وأن الكامن أجمل بكثير مما أنجزته حتى الآن، فتحاول من جديد، المرّة تلو الأخرى، بعد فترة قصيرة من الراحة تلتقط فيها أنفاسك وتستجمع قواك المنهكة، حتى ينتهي بك العمر، وأنت تحتاج إلى مزيد من الوقت، وتسمع ما بداخلك يطلق صوتا حادا عاليا لكي يخرج، لكي يتحرر، وأنت لا تستطيع أن تلبي هذا المطلب، لا تستطيع أن تعبّر جيدا، وعلى نحو مرض تماما، عن ذاك الجزء الطالع من أعماقك، فكل ما ينتأ لا يحقق الإشباع. هكذا هي عملية الإبداع: شهوة دائمة، وجوع متواصل لا يبلغ حد الشبع أبدا، وإنهاك لا حدّ له. لماذا الكتابة الكتابة عندي ليست عملية عقلانية، ذات دوافع واضحة ومدروسة، محكومة بمنطق وأسباب ونتائج، قابلة للشرح والتفسير. هل يعرف المرء لم يحيا؟ أو لم يحلم؟ إنه يحيا فحسب، يحلم فحسب. التأويل والمعنى يأتي في ما بعد. هل يعرف المرء لم يكتب؟ إنه يكتب فحسب. هكذا أتنفس هواء الكتابة تاركاً التأويل للآخرين. الكتابة حاجة تقتضي الإشباع، لكنها حاجة مستمرة، تبدو أزلية، لا نهائية.. هي بالأحرى رغبة دائمة لا تعرف الإشباع ولا الاكتفاء، مهما تعددت أشكال وأنواع الكتابة. لذلك لا أعرف كيف أجيب على السؤال، لا إجابات لدي.. ستكون وظيفة لمن يتّخذ من الكتابة مصدرا للرزق، أو لمن يكرّس نفسه للوعظ السياسي والأخلاقي، أو لمن يشعر بأن العالم لا يستطيع الاستغناء عنه فيعلن عن حضوره بأكثر الأشكال صخباً وادعاء. ما أعنيه هو الكاتب الذي لا تشكّل له الكتابة متعةً خاصة يتلذّذ بها حتى في نومه. الكتابة، بالنسبة لي، حياة أخرى أعيشها حتى الرمق الأخير، واستمتع بها حتى الثمالة.. سواء عندما كنت مكبلاً بأغلال الوظيفة أو بعد التفرّغ، مع ذلك، فإن منحة التفرّغ أزاحت عني عبئاً ثقيلاً كالرصاص، وأتاحت لي فرصة الاستغراق في الكتابة من دون الإحساس بالقلق والتوتر والإذلال اليومي الذي يفرضه العمل. لماذا أكتب؟ لسبب أناني بحت، هو أن أشعر بأني كائن خارق واستثنائي في كون لا يكترث بي على الإطلاق. أكتب لأن الكتابة هوائي الخاص.. من دونه أختنق، أو أصاب بالهزال الجسدي والعقلي. وجودي خارج محيط الكتابة وجود شبحي، طيفي، غير فاعل.. تماما كالسراب، كالعدم. الكتابة ضرب من الحصانة ضد الإحساس القاهر بالهامشية في عالم لا يريد منك إلا أن تكون شيئا أو رقما أو أداةً فحسب. الواقع صار أكثر عنفا وشراسة ضد الفرد، وإزاءه لابد من التحصّن بفعل يشعرنا بالقوة.. حتى لو كانت وهمية أو تخيلية إلى أبعد حد. حضوري عابر.. لكن قد أترك رائحة طيبة، أو ذكرى جميلة، لشخص ربما يمرّ حيثما مررت.. فيتذكر ويبتسم. الاختراق المشع الكتابة تقتحمنا وتخترقنا في أي وقت.. بلا موعد ودونما استئذان. كل ما عليك هو أن ترحّب بها وتحتفي بها.. حتى لو تخذلك أحيانا، حتى لو تهجرك وقتاً قد يطول أو يقصر. أحب أن أفهم الكتابة بوصفها حبيبة تشتد غموضا كلما ظننت أنها بالغة الوضوح، أو بوصفها حياة لن تكون متاحة لنا إن وضعنا شروطاً لعيشها. بعيداً عن البؤرة لا أشعر أني بحاجة إلى شهرة مجانية توفرها العلاقات الاجتماعية ولا تنبع من موهبة أدبية أو فنية حقيقية. لست جشعا، يكفيني عدد قليل من القراء، من الأصدقاء. الضوء يكشف. ومن يقبل أن يكون في بؤرة الضوء، عليه أن يتوقع انتهاك خصوصيته، والتدخل في شؤونه الخاصة.. في أي وقت. في الضوء يزاحمك العشرات وربما المئات، حيث يتدافع الجميع، وقد يرشقونك بالكراهية والاغتياب في سبيل إخراجك من تلك الدائرة. بعيداً عن التجربة المعاشة شخصياً لا أميل إلى الكتابة عن تجربة عشتها. قد يحلو لعدد من الكتّاب أن يستحضروا تجربة عاشوها، تجربة السجن مثلاً، متذكرين كل التفاصيل الدقيقة، كل ما أحاط بالفعل من علاقات وصراعات وتداعيات، ويقومون بتكرار التجربة حرفياً، بإعادة تمثيل ما حدث، لكن على الورق. النص هنا يصبح صدى، ترديداً لحدث سابق.. قد يكون له قيمة توثيقية، تعليمية. لكن القيمة الإبداعية مشكوك فيها، إلا إذا تم توظيف تلك التجربة ضمن نسيج فني تكون هي محركة أو قوة دافعة ومحفزة لرؤية تنطلق منها. أما التوظيف الحرفي والتوثيقي فيبقى خارج حدود الإبداع، ليدخل ضمن نطاق التقرير. أميل إلى كتابة تجربة لم أعشها، لم تعشها شخصياتي. تجربة متخيلة لكن ليست منفصلة عن الواقع بل متجذرة فيه. آنذاك أكون أكثر حرية. غير مقيّد بالتفاصيل (تفاصيل ما حدث) والمعطيات والمبررات ومنطق الواقع. أكون أكثر اقتراباً من الشعر، من عوالم الحلم والتخيل. إن لذّة النص، بالنسبة لي، تكمن في حرية السفر عبر عوالم مجهولة، وغير مكتشفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©