السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن الملوّح وابن ماركيز

ابن الملوّح وابن ماركيز
7 مايو 2014 20:05
يبطل مفعول الواقع حين يتحول إلى شكل من أشكال الإبداع، فيقع بين أربعة محاور: الذاكرة، المخيلة، الوهم، الحلم، وكلها فعليا تبدو منفصلة، لكنها تتواشج عبر نول وحيد قادر على صهرها ضمن نسيج عنقودي متشابك، ومتفرع من بعضه بعضا، حتى ليصعب نسله، أو فصله، إلا عندما يُحدث دويا هائلا ناجما عن انفجاره على هيئة ذرات غبار مشعة وسامة... الواقع إذن اقتراضي في العمل الإبداعي، واشتغال على مساحة مجازية يعبر بها الكاتب البرزخ الإبداعي ليتمكن من تصديقه فقط لا من تقبله. وفي العرف البدوي المستمد من المناخ الصحراوي يصبح الواقع سرابا، والسراب مشتهى، كأنها مماكرة متبادلة بين البدوي وبيئته، يحاول بها التحايل على طقسه تماما كما تحاول الصحراء أن تمده بأحابيل السراب كي تروض مزاجه.. لينا أبوبكر السحر كله معقود بناصية الغواية، التي يتأقلم بها الواقعي مع الوهمي، في مقايضة ضمنية تسعف المخيلة التي تبل ريق الحلم بما ينهمر من دمها على أديم الرمال... شيء يشبه الاغتيال، حين يصطدم البدوي بما ظل له من مفعول المخيلة فلم يُبق سوى على ذاكرة للفراغ ليس إلا! جميلة هذه البداوة الشرسة، لأنها تحتمل المرونة المزودة بأقدام مطاطية تمكنها من القفز فوق الحواجز الخشبية التي تعترض الفراغ.. شيء من هذه البداوة انتقل بالعدوى الإبداعية للساحر الكولومبي ماركيز، فهو بدوي يتفنن بالتأقلم مع السراب كلما استبدت وطأة الواقع تحت ضغط مناخات لاهبة تسمح له بحياكة الماء ضمن أربعة محاور سرابية... وشيء ما، أيضا، يجعل من البدوي لصا إبداعيا يحترف التسلل إلى مخادع الحكمة ليختطف زبدة الجنون، ومتلصصا عابثا يسترق النظر إلى حوريات الصحراء عبر شق بكر في المخيلة ليمتع اللغة بما لا عين رأت ولا يد أدركت ولا خطر ببال ذاكرة.... بين ابن الملوح وابن ماركيز بداوة تريق رضاب السراب على شفاه اللغة، وبينهما ليلى واحدة تفك طلاسم الجنون بالسحر، فكيف لا يكون الإبداع استشفاء من الحكمة! مخدع اللغة.. خداعها عامل الربط هو عامل التشظي الناجم عن التشابك العنقودي بين البدويين، فالبدوي الإسباني مشعوذُ رُقى، يتلوها على الحكمة كي يُحضر الجنون، أما البدوي العربي، صاحب الخلطة السحرية التي أعدتها الآلهة في خيمة الأولمب، لتكون تعويذة الصعلوك في معبد الجنون.. المخدع المحرم بين المبدعين هو اللغة، لأن العامرية عند المجنون أصبحت ذاكرة، أما اللاتينية عند الساحر فهي مخيلة، وفي الحالتين لا يمكن اعتبار التركيبة الغرائزية المبتذلة للعلاقات الشهوانية محكومة بعواطف إبداعية، طالما أن التحريم إرادي عند الساحر، وإمتاعي عند المجنون، وفي الحالتين هو مستغرق بالتطهر من إثم لم يُرتكب. المتعة بالحرمان والحرمان بالإرادة هما قطبي المخدعية اللغوية في (ذاكرة غانياتي الحزينات) وقصائد الصعلوك التي حصنها الوصف العذري للعري الحوري في تنزيه وجداني ارتقى بالعامرية إلى مصاف المحرمات وباللاتينية إلى مصاف الأيقونات.. الإحالة هنا ليست على التمثالية، فالتمثلة لم تجمد الكائن الجمالي بقدر ما بثت فيه روحا لا يمكن لمسها، روح تأيقنت دون أن تحصر في بوتقة جسدية، كأنه لعب مع الظلال، أو تحضير لأرواح شبحية متحركة ضمن منظومة لغوية تقبض على جمر السراب بيدين وهميتين... تصور لو قامت روسا كاباركاس فعلا بإرسال هدية عيد الميلاد التسعين للساحر (ملفوفة بورق صيني ومسلوقة مع عود صندل على بخار)، هل كان فعلا يتلقفها؟ وكذلك الأمر بالنسبة للمجنون، هل كان فعلا ليجن لو وافق عمه على تزويجه من العامرية؟ لا يمكن لمجنون أن يفرط بعقله ما دامت الحكمة لا تستهويه كي يلج المخدع بكل عدته اللغوية المستوحاة من الحلم! التعرق عند ديلغادينا كان الخيط الوحيد الذي يشي بواقعية الحالة، بينما كان النوم جسرا للتواصل مع الوهم، وأي انفلات من زمام السراب كان يعد تقويضا لللغة التي تتغذى على اللاواقع، يعبر عنه رفض الساحر لرؤية ديلغادينا مستيقظة، بل إنه حتى لن يميزها أو يتعرف عليها، فهيئتها وصورتها في مخيلته مستلقية بلا صوت ولا لغة ولا عينين ولا حركة، عرقها وأنفاسها وسريرها هم الأعضاء الحيوية الوحيدة التي تذكي روح الأيقونة في لغة مضمرة. الغرابة أن الفتاة التي لا تكتب ولا تقرأ تخط بأحمر الشفاه على مرآة المغسلة لغة اعتبرها صاحب الحانوت لغة موتى يستيقظون من نوم المخيلة ربما، فبالرغم من هذا التضاد بين ما هو واقعي ومضاد له، هناك انسجام مع المستحيل في إطار ما يجعله ممكنا.. يقول الساحر: “أبدل لون عينيها حسب حالتي المعنوية: لون الماء عند الاستيقاظ، لون قطر القصب حين تضحك، لون الضوء عندما أعارضها. وألبسها حسب السن والظروف التي تتلاءم مع تبدلات مزاجي: ثياب عروس محبة في العشرين، وعاهرة صالون في الأربعين، وملكة بابلية في السبعين، وقديسة في المئة... أعلم أن ذلك لم يكن أضغاث أحلام، وإنما معجزة أخرى من معجزات حب حياتي الأول، وأنا في التسعين”. لا يمكن للواقع أن يكون معجزة سوى في حالة واحدة: حين لا يكون واقعا! فهي تبدو له واقعية في ذاكرته أكثر مما هو مستلق إلى جانبها يراها ويلمسها وهو الأمر الذي لم يصدقه أصلا ولكنه تعامل معه كصدق وحيد جرب فيه إحساسه بالموت بل وجعله يقبل القتل بدافع الحب! إنه أصبح كما قيل عنه في الجريدة من المجانين الوديعين الذين يستبقون المستقبل، فالسحر والجنون نبوءة إبداعية.. في المحصلة! رفض معرفة اسمها الحقيقي، أو إيقاظها، أو التحدث إليها، لأن من أحبها ليست تلك الفتاة التي تستلقي إلى جانبه في حانوت روسا، إنما تلك التي أيقظها في مخيلته وعاشت معه في منزله، إنه اخترعها بل اكتشفها بل ابتكرها، عندما رفضها حقيقية فقتلها كي يبقي على لغته سالمة من الموت! يقول: “أقلقني أنها واقعية إلى حد أن لها عيد ميلاد”. إن ماركيز إذن يكذب على حلمه بواقع تذكره لما استطاع أن يتخيل وهمه واقعيا، فعطل أعضاءه كي يشغل حواسه، أمام ثور مصارعة رقيق، بعرق فسفوري، وحضور سرابي... سرابات لغوية يقول ابن الملوح: بِرَبِّكَ هَـل ضَمَمــتَ إِلَيـكَ لَيلـى قُبَيــلَ الصُبــحِ أَو قَبَّلــتَ فاهــا وَهَـل رَفَّـت عَلَيـكَ قُـرونُ لَيلـى رَفيــفَ الأُقحُوانَـــةِ فـي نَداهـا كَـأَنَّ قُرُنفُـلاً وَسَـــحيقَ مِســـكٍ وَصَـوبَ الغادِياتِ شَـمِلنَ فاهـا يصعب على الشاعر أن يبحث عن سرابه في صحراء مخاتلة، فالواقع وحده لن يكفي الجنون، ولكن للعذاب متعة الحرمان، التي راوغ بها الشاعر الزمن بمتعة مضاعفة هي ادعاء رفض الحرمان... الجنون ليس حقيقيا تماما، وليس ادعائيا، هو حالة ثالثة بين سرابين لا تشبه الواقع في شيء سوى بما يحتفظ به منه كذاكرة، لصعلوك اعتاد طفلا أن يرافق ابنة عمه في رحلة الرعي وجلب الماء... ذاكرته هي عدة متعته، تبقى طازجة وحيوية طالما أنها لم تنضج بل انحرفت نحو مسار المخيال فغدت إمتاعية، لا عزائية، كما يحلو للزمن أن يعتبرها.. وقوف الشاعر أمام زوج الحبيبة، لسؤاله عما تخيله بينهما، ليس إلا تجديف بمرابع المخيلة، لا يحفزه التمني ولا التحسر بقدر ما ترفده إمتاعية الحرمان... الجنون في الإبداع يحتاج إلى ذكاء لا يبخس العذاب قدره، فالتجربة الحقيقية عند البدوي المجنون هي تلك التي لم يخضها، بحيث استعاض عنها بلغة مضرمة ومذكاة بما لا يتذكره قدر ما يتحايل عليه.. استغراق وصف المجنون للعامرية في حضن زوجها دون أن يخوض معها ذات التجربة هو الذي أدخل الشاعر إلى مخدعها بما أتاحه لمخيلته من لغة تتصبب منها سرابات مضمرة، وأحلام عابثة، وشعر تيهيّ، ولِهٌ، ومولع بالمخيلة.. وبين من يستلقي إلى جانب غجريته محروما من يقظتها، ومن يتقمص الاستلقاء إلى جانب عامريته بجسد زوجها مستوحيا حرمانه منها، مخدع محرم هو اللغة، التي لا يمكن لأي من الاثنين أن يسمحا بانتهاك حرمته، سيكتفيان بالتلصص على اللغة، دون الانهماك بالشهوة، لأنهما سيحرصان على عذريتها في إطار الحرمان...فأي بدويين يتقلبان على جانبي السحر والجنون بخاصرة واحدة هي اللغة!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©