الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مالك بن نبي يجمع بين الأصالة والمعاصرة

مالك بن نبي يجمع بين الأصالة والمعاصرة
30 سبتمبر 2008 02:08
ليس بالضرورة أن يكون المجدد فقيها أو متخصصا في علوم الدين· فهناك مفكرون اجتهدوا في تقديم تفسيرات عصرية لبعض القضايا الإسلامية جعلتهم في طليعة المجددين بالمعنى الشامل للكلمة· فالمقصود أن يكون المفكر - المجدد حريصا على تقديم صور ونماذج حضارية للإسلام تتواءم مع الحياة التي يعيشها وتتسق مع تطلعات المجتمع المسلم للتقدم والرقي الذي أحرزه آخرون· في هذا الإطار كان مالك بن نبي (1905- 1973) أحد العلامات البارزة على طريق المجددين· ولد مالك بن عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي في مدينة تبسة التابعة لولاية قسنطينة بالجزائر في أسرة محافظة متدينة فقيرة· وكان والده يعيش في تبسة دون مورد يعيش منه ودون عمل، لذلك انتقل مالك ليعيش مع عمه في قسنطينة، ولم يعد لوالديه إلا بعد وفاة عمه· وتأثر الطفل بحكايات جدته لأمه عن العمل الصالح وثوابه، وشكلت هذه القصص تكوينا مبكرا لوعيه ووجدانه الديني· كما أثرت في نفسه حكايات جدته والعجائز عن بدايات الاستعمار الفرنسي للجزائر، والفظائع التي ارتكبها في هذا البلد المسلم· ورأى وسمع عن هجرة كثير من العائلات إلى طرابلس الغرب حتى لا يخالطوا الفرنسيين فرسخ ذلك في نفسه ضرورة مقاومة المستعمر، حتى لو كانت هذه المقاومة سلبية باعتزال نمط حياته، كما رأى ما أحدثه الاستعمار من تغيير لنمط حياة الجزائريين وقيمهم، حيث أشاع ذلك التغيير عددا من الرذائل الخلقية والاجتماعية· طالع في بداية حياته كتابين كان لهما أبلغ الأثر· هما ''الإفلاس المعنوي هل هو للسياسة الغربية في الشرق ؟'' لـ ''أحمد محرم'' الشاعر الإسلامي المعروف· و''رسالة التوحيد'' للإمام محمد عبده وساعده هذان الكتابان على رؤية أوضاع العالم الإسلامي في تلك الفترة· كما قرأ كتاب ''أم القرى'' للكواكبي· وقرأ لعدد من الكتاب الفرنسيين، وكان يتردد على إحدى البعثات التبشيرية الإنجيلية، فتعرف على الإنجيل، وناقش هؤلاء المبشرين في أدق الأفكار، وتعرف على تلاميذ المصلح الكبير عبد الحميد بن باديس· وتلازمت هذه الثنائية الثقافية بين الحضارتين الإسلامية والغربية في تكوينه الفكري وكانت لها انعكاساتها الواضحة في كتاباته بعد ذلك، حيث تميزت بالمزاوجة بين المصدرين، بين الانتماء لحضارة الإسلام والرغبة في التطور· يقول الباحث المغربي إبراهيم رضا في دراسته ''مالك بن نبي وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة'' إنه ظهر وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمي· ووضع لهم معادلات وقوانين ''الإقلاع الحضاري''· ولكن الأمة لم تقلع حضاريا، وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا· ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين ''نظريات'' مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق ''المشروع الحضاري'' للأمة· يقوم مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي على اعتقاده الراسخ بأن ''مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها''· وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة ''فقه'' حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها· يحاول بن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة ''توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه''· وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه· على هذا الأساس يتبين أن مفهوم الحضارة عنده شــديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه، سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه· بالتالي فلا بد من فهم عميق، و''فقه حضاري'' نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة، لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية ''لسنن'' و''قوانين'' اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود· وهذا ما أكده بقوله: ''إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه· فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس''· والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات، حسب تفسير مالك بن نبي هي ثلاثة: الإنسان والتراب والوقت· استخلص مالك بن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية خصوصا أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنـظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه· وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها· كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية· ومن أهم الركائز التي أولاها مالك بن نبي اهتمامه، الوعي بالذات الإسلامية والوعي بخارطة الواقع الحضاري وتكامل الأصالة والفعالية ودخول التاريخ من باب الواجب· فضلا عن الرغبة في تقديم نموذج عملي للإسلام مثلما كان عليه عهد السلف الصالح·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©