الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فوق طاقتي!

فوق طاقتي!
25 ابريل 2013 20:50
نورا محمد (القاهرة) - فجأة طرق باب بيت أبي شاب لا أعرفه، موظف ودخله متوسط، عجبت أنه جاء يطلب يدي بلا مقدمات أو سابق معرفة، ولا أدري أين رآني ولا كيف اختارني، شخص مجهول تماماً، ساورتني الشكوك ولعبت برأسي الظنون، ووصل الأمر إلى أنني قلت ربما جاء إلينا بطريق الخطأ ولست أنا المقصودة بالخطبة، لكنه أكد لأبي أنه يعرف اسمي ومؤهلي ومكان عملي، وعندما جاء أبي يخبرني طبعاً كنت في غاية الاستغراب ولا أستطيع أن أبدي رأياً، وأبي من جانبه طلب منه مهلة لحين التشاور معي ومع أفراد الأسرة طالما أنه ليس هناك معرفة سابقة ولم يتم في اللقاء الأول مناقشة أي شيء ولا حسم الأمر بالموافقة ولا بالرفض. في اليوم التالي علمت أن إحدى زميلاتي رشحتني له، وأخبرته أنني لن أقبل أي لقاءات خارج البيت ولا بد من حضور أبي أي مقابلة، فنحن من أسرة محافظة، وكل فتيات العائلة يتم زواجهن بالطريقة التقليدية، عن طريق الترشيحات، وليس بيننا من التقت بأي شاب أو أقامت علاقة غرامية، لكنني كنت عاتبة عليها لأنها لم تخبرني كي نستعد وتكون لديّ فكرة عن الموضوع الذي يخصني بالدرجة الأولى، فقالت إنها كانت تريد أن تجعلها مفاجأة سارة لي، وثانياً كي لا يكون هناك أي حرج إذا لم يتم الاتفاق، ونقلت هذه المعلومات الجديدة لأبي، فطلب منه أن يكون هناك لقاء آخر بينهما. هذه المرة تحدث الشاب عن نفسه، وكان صريحاً لدرجة الحرج، كشف نفسه وقدم كل الحقائق بشفافية شديدة، قال إنه موظف في شركة حكومية، دخله متوسط ولا يملك من حطام الدنيا غير شقة في منطقة متوسطة تناسب دخله حصل عليها بشق الأنفس، وما زال يسدد أقساطها وأمامه سنوات طويلة حتى ينتهي من ذلك، والده توفي منذ سنوات، ويقيم مع والدته إلى أن يتزوج وينتقل إلى مسكنه الخاص، له ثلاثة إخوة وثلاث أخوات، ما ينطبق عليه ينطبق عليهم، كل واحد وواحدة منهم يعتمد على نفسه في بناء حياته، وقد انتهت جهود الأب قبل وفاته والأم عند هذا الحد بالتعليم، وهم أسرة متحابة مترابطة مكافحة في الحياة، وإذا قبلناه فإنه سوف يكافح مع العروس، التي هي أنا، في تأثيث عش الزوجية وسنتشارك في كل شيء، وإن رفضناه، فلا تثريب علينا ولسنا مضطرين للموافقة على واحد في مثل ظروفه. أبي اقتنع به بسبب هذه الصراحة الشديدة، وقال إن شخصاً مثله جدير بالاحترام ويكفي أنه لا يحاول الخداع ولا تزيين الكلام، وهذا النوع من الرجال - حسب وصف أبي أيضاً - هو من يؤتمن، ودار نقاش طويل بين أفراد أسرتي وأدلى كل منهم بدلوه بين الرفض والقبول وبين الاقتناع والتردد والحيرة، وأخيراً لم يصلوا إلى اتفاق على رأي واحد وألقوا الكرة في ملعبي باعتبار أن هذه حياتي وأنا الوحيدة القادرة على الحكم النهائي، وقدموا ملاحظاتهم ونصائحهم التي في الحقيقة لا تقدم ولا تؤخر ولم تحسم الأمر. ناقشت كل تلك الظروف مع نفسي، والشاب ينتظر رداً ليذهب ولا يعود أو أن يتم اللقاء الأول بيني وبينه والتعارف المباشر بيننا، وبعد جدال وصراع وشد وجذب وإقدام وإحجام، رجحت كفة الموافقة التي لا تخلو من المخاوف، ولكن لا مانع من التعاون معاً في الحياة حسب الظروف والمتاح، ولعلّ وعسى أن تتحسن الأحوال ونحقق كل ما يمكن أن نحلم به ونصبو إليه، خاصة وأنني ليس لي شروط في زوج المستقبل إلا أن يكون رجلاً بمعنى الكلمة ويقدس ويقدر الحياة الزوجية ويتحمل، إذ من الطبيعي أن تكون هناك خلافات، لكن المهم أن نستطيع الحوار بشأنها وحلها داخل جدران بيتنا ولا نسمح لها بالخروج منه. أعلنت موافقتي وتم اللقاء الأول في بيتنا، كرر وأعاد ما قاله لأبي حتى أكون على بينة، وفي الحقيقة جذبني أسلوبه وصراحته، كما اقتنع به أبي، ولم أر في تلك الظروف المالية عيباً، ومن الممكن أن نتغلب عليها معاً، خاصة وأننا موظفان ونستطيع أن نتكاتف وهناك حالات كثيرة ناجحة وزيجات مبنية على الحب بهذا النوع من التعاون، وعلى الوجه الآخر هناك العديد من الزيجات التي كان المال متوفراً فيها وفشلت فشلاً ذريعاً لأن التفاهم مفقود والود معدوم. وفي ظل هذه الظروف كان حفل الخطوبة في بيت أبي، إذ تم إعلان حالة التقشف مبكراً وربط الأحزمة لأول وهلة، لتطبيق خطة بناء عش الزوجية، كانت الخطوبة أيضاً للتعارف بين أفراد الأسرتين واقتصرت عليهم، ورغم قلة العدد، فقد كان هناك نوع من التحفظ في التعاملات إلى أن يكتشف الجميع بعضهم وكل ذلك في إطار من الود والاحترام. انطلقنا معاً نضع الخطط مع الأخذ في الحسبان ما يمكن أن يخرج عن دائرة الحسابات أو ما نفاجأ به ونحن في وسط الطريق، ولكن لا نسمح بأي شيء يعطل مسيرتنا، كل منا يضع راتبه أو ما يقع بين يديه من أموال لبناء لبنة في عشنا، وسرنا خطوة خطوة من الصفر ومن الألف إلى الياء، حتى مرت ثلاث سنوات كاملة إلى أن استطعنا أن نؤثث البيت ونشتري الأجهزة الكهربائية والأشياء الضرورية للمعيشة عند الحد الأدنى. كانت أحلامنا فوق المعاناة، فلن نسمح للملل بأن يتسرب إلينا ولا أن نجعل الصعاب تسيطر علينا، حوّلنا كل ذلك إلى ذكريات جميلة، ومواقف ممتعة، فسعدنا بما فعلنا، وكان حفل زواجنا بسيطاً بكل ما تعني الكلمة، فلم يزد على الخطوبة إلا قليلاً، وسبقتنا الفرحة إلى عشنا الهادئ وأهلونا يودعوننا إليه مع دموع أمي، صلينا ركعتي شكر لله على أن وفقنا إلى هذا ومنحنا الصبر والرضا، ولم يكن عندنا احتفال بشهر العسل ولا أي طقوس مثل ما يفعل كل العرسان أو على الأقل أغلبهم، كل ما فعلناه أننا قضينا أسبوعين في بيتنا، نستقبل الأهل والأصدقاء والزملاء المهنئين، ولم يخل الأمر من النقد لنا ولأحوالنا حتى وصفنا بعضهم بالجنون. وهكذا سارت حياتنا يدي في يده ولم نخف عندما بدأت تباشير الحمل تظهر عليَّ، فنحن نؤمن أن كل إنسان سيولد ومعه رزقه، ولم نفكر في الكثير من الأقساط التي ما زالت تكبلنا وتعرقلنا، وكانت هي همنا الوحيد، ولكن كنا نستعد للمطلوب كل شهر ونسدده في موعده حتى لا يتراكم علينا منها شيء، وخلال أربع سنوات، كبرت أسرتنا الصغيرة وأصبحت مكونة من خمسة أشخاص، فقد رزقنا بولدين وبنت، كانوا الزهور التي تتفتح وتمنحنا السعادة والبهجة والشموع التي تضيء وتمنحنا الأمل، لم نكن في بحبوحة من العيش ومع ذلك لم نشعر بأي نقص لأننا لا نبالغ في أحلامنا ولا مطالبنا وليست لنا حاجة أكثر مما نحن فيه. مرضت حماتي بسبب الشيخوخة وأصبحت زائرة مستديمة لأطباء القلب والضغط والسكر والجهاز الهضمي والكلى والكبد وغيرها، ولم تعد قادرة على الحركة وبحاجة إلى من يخدمها وتكون تحت عينه باستمرار وقد تزوجت بناتها واستقلت كل واحدة ببيتها، وكذلك اثنان من الأولاد ولم يبق إلا الأصغر، وبالطبع لا يستطيع أن يهتم بأمه، وهي تحتاج لامرأة لتعتني بها، فهمس زوجي في أذني على استحياء إن كنت أوافق أم لا على أن نستضيف أمه في هذه الفترة وأن أعتني بها، ولن يغضب مني إذا رفضت، بالطبع غضبت أنا منه واستنكرت أسلوبه، مع أنه كله أدب واحترام، فقد وافقت على الفور على طلبه، بل اعتبرته أمراً واجب النفاذ، فهي مثل أمي ومن غيري لها، وأنا أولى بها من بناتها، فهذا بيت ابنها ولها كل الحق في الرعاية والاهتمام وهي في هذه الظروف، فقبل رأسي، وقال هذا ما كنت أتوقعه منك. توجهت أنا وزوجي إلى بيت أمه وحملنا كل ما تحتاج إليه وعدنا بها إلى بيتنا وخصصنا لها غرفة من الغرفتين اللتين يتكون منهما منزلنا الصغير، وجعلنا «الصالة» غرفة نوم للأطفال، نذهب بها إلى الأطباء وأعتني بها وأهتم بكل احتياجاتها وقد زاد وجودها من سعادتنا، لكن المشكلة كانت من جانب آخر لم نحسب له حساباً، فقد تحول بيتنا إلى «مزار» لكل أبنائها، وليس هذا مربط الفرس، وإنما مطالبهم التي أعيتني، فهذا يريد المشروبات وهذا جاء من عمله ولا بد أن يتناول الغداء، وذاك أصغرهم من المهم أن يبيت عدة ليال بجوار أمه. لم يراع إخوة زوجي ظروفنا وهم يعرفونها جيداً، ويعايشونها بكل تفاصيلها ويرون ما نحن فيه، وليس في إمكاننا أن نتحمل مطالب كل هذا العدد، وفي نفس الوقت ومن أجل زوجي لا أريد أن أظهر لأي منهم تقصيراً في واجب الضيافة الذي زاد على حده كثيراً وأصبح إقامة دائمة، وهم لا يراعون أنني امرأة عاملة ولديَّ ثلاثة أطفال في التعليم، ولا أستطيع أن أحمل كل هذا العبء، ومن المفترض أن يكون وجهي بشوشاً أمامهم في كل الظروف والأحوال حتى لو كان ذلك على حساب أعصابي ومهما كانت أحوالي، ودائماً مطالبة بتجديد الترحيب بالقول والفعل للجميع. ثلاثة أعوام كاملة مضت على تلك الأحوال التي أعيتني وأصبحت فوق طاقتي، وقد أخبرت زوجي لا من قبيل الشكوى، ولكن من قبيل أن يجد حلاً، وأنا لا أمانع في استمرار إقامة حماتي معنا ولا أفكر في التخلي عنها، وإنما ألا يحاسبني على تقليل هذه الأعباء الزائدة، فلست مجبرة ولا ملزمة بطعام إخوته وأخواته كل يوم، فلم يعودوا مجرد زوار لأمهم، ونحن لا نطالبهم بالمشاركة في مطالب واحتياجات حماتي، ولم أجد من زوجي غير المطالبة بالتذرع بالصبر، فهو مثلي حائر لكنه لا يجد وسيلة لا إلى التراجع عن المعاملة المعتادة ولا إيجاد حل مناسب، وأنا أيضاً حائرة، فقد جاءنا ما لم يكن في حساباتنا يوماً، وما هو فوق الطاقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©