الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مزرعة تراثية عامة

4 يوليو 2010 20:36
حيث تنضج حبات الرطب على «العذوج»، ينضج الحنين في قلب أمي لزمان «القيظ» وجمعة الأهل، وتبدأ في تذكر تلك الليالي المقمرة التي كانت تقضيها مع جدتي وسيدات عائلتي في «النخل» حيث تهب نسمات الهواء لتحمل ضحكات الليل و»السوالف» إلى البيوت المتناثرة في غابة النخل تلك. الحنين إلى « المقيظ» صار يتلبسني أيضاً، يغمرني الشوق الجارف لليالي لعبت فيها «عظّيم سرى» مع صبية الفريج، لجلسات كنا نقضيها حول جدي وهو يحكي الحكايات، لصباحات باكرة جدا كنا نجمع خلالها حبات «البسر» و»الرطب» التي تتساقط طوال الليل من النخل، طفولة جميلة كنت أرويها لبعض الصغيرات، حين باغتتني نظراتهن الحائرة وهمساتهن: يا بختكم! يا بختنا؟! لم نولد في زمن البلاي ستيشن، ولم تعرف أناملنا ضغطات الكيبورد إلا حين دخلنا الجامعة، كان التكييف ترفاً في زماننا يشغل بوقت ويطفأ في أوقات، يا بختنا! كيف يمكن أن يتعلم الصغار التراث بالتلقين فقط، كيف يميزون أطوار الرطب وهم يأكلونه في الصحون المغسولة مبردا في الثلاجة، أين سيتعلمون أن «الحابول» أداة لصعود النخلة، وأن العرجون يسمى بالمحلية «عذجا»، ويتحول بقدرة قادر بعد جفافه إلى «عسو» قد يضرب به أحدهم يوما! من الذكريات البسيطة عن ذاك الزمان، طلب أحد كبار السن من صبيين صغيرين أن يحضرا له «كربة»، فذهبا راكضين للنخلة، قطعا جريدة منها وتخلصا من السعف، ليعودا بها إلى الجد الذي ضربهما بنفس الكربة التي قطعاها! هذه القصة لم تحدث مطلع القرن المنصرم، ولا يتعد عمرها عشرين عاما، لكنها حصلت في بيت ارتبط صغاره وكباره بالنخلة، فكانت هي مصدر الرطب، ومصدر العصي أيضا. ربما كنا محظوظين بعالم البساطة ذاك، فاليوم لا يصطحب أصحاب المزارع صغارهم إليها، وصار معظم الناس لا ينظرون للمزرعة إلا كمكان يزرع فيه الرودس والحشائش التي تباع عبر قنوات التسويق الزراعي، صار التعامل مع المزارع تجارة بعد أن كان أسلوب حياة كامل. يحتاج الصغار إلى فسحة الانطلاق في المزارع، ويحتاج الكبار إلى التخلص من ضغوط الحياة العملية، والتوجه إلى الأماكن الزراعية بشكل عام يريح الروح والبدن، لكن مزارعنا للأسف امتلأت بالعمال من الجاليات المختلفة، وصار قضاء الليل في المزرعة رعباً جلياً يفضل الكثيرون البعد عنه. أفكر أحياناً هل يمكن أن تصبح لدينا مزرعة تراثية عامة، نخل عام، شيء أشبه بالحديقة العامة، أو بالمحمية البرية أو حتى بالمنتجع الصحراوي، مزرعة كبيرة فيها أشجار الامارات المعروفة، تتوفر فيها ظروف حياة جيدة يمكن للأسر أن تستأجر فيها عرشانا مكيفة بشكلها التراثي الجميل، يستطيع الناس أن يعيشوا فيها لو اسبوعاً واحداً في العام ليستكشفوا عالم «المقيظ» وروعة الحياة بجوار النخلة. مثل هذه المزرعة العامة ستوفر للجميع فرصة حقيقة لملامسة جزء جميل من واقع الحياة الاماراتية، وأقول واقع لأنه لم يندثر لكنه توارى بفعل تهرب الكثير من أصحاب المزارع عن إدارة مزارعهم، وتركها للعمال والمستأجرين، حياة الزراعة والماء الذي ينساب رقراقا بين القنوات ليصب بجوار جذور الشجر مازالت موجودة صامدة، تشهد بوجودها كل مزارع الامارات من ليوا إلى أقصى رأس الخيمة مرورا بمزارع الغربية والعين والمدام والذيد وغيرها، أرض الامارات المفعمة بالخير تهب أبناءها بلا حدود، لكنها تحتاج من أطفالها أن يتعرفوا إليها، أن يذوبوا في تفاصيلها، أن يتراكضوا بين أشجارها، وأن يحلو لهم السمر في ليلها المقمر يحفهم نسمات الهبوب وأصوات ضحكاتهم التي «يسري» بها الليل. فتحية البلوشي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©