الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معركة الديمقراطية

20 يناير 2010 21:49
منذ استقلال السودان في الأول من يناير 1956، لم ينتخب السودانيون رئيساً لجمهوريتهم في انتخابات ديمقراطية بالمعنى المتفق عليه لكلمة الانتخابات. في المرحلة الانتقالية الأولى السابقة للاستقلال اتفقت دولتا الحكم الثنائي (بريطانيا ومصر) على أن يقوم مقام رئيس البلد مجلس سُمي بمجلس الحاكم العام مُشكل من ممثلي دولتي الحكم الثنائي وثلاثة أعضاء سودانيين أحدهم يمثل جنوب السودان. وفي المرحلة الانتقالية الثانية توصلت الحكمة السودانية السياسية التي كانت معهودة في ذلك الزمان مراعاة لحقيقة الأوضاع السودانية السياسية والطائفية والجغرافية وحفظاً لاستقرار الوطن ووحدته إلى "اختراع" مجلس سُمي بمجلس السيادة ليقوم مقام رئيس الجمهورية البرلمانية الديمقراطية. كان مجلس السيادة قد تم انتخاب أعضائه الخمسة بالتراضي بين الحزبين (والطائفتين) الكبيرتين من سودانيين أكفاء ومشهود لهم بالنزاهة والحكمة والحيدة (قدر الإمكان)، ومن بينهم اثنان من الرعيل الأول من المعلمين السودانيين (الشاعر الأستاذ أحمد محمد صالح والأستاذ عبدالفتاح المغربي)، وزعيم "وحدوي" من جنوب السودان وتوافق الجميع أن تكون رئاسة مجلس السيادة المحدودة دستورياً، والتي جعلت منه أشبه بـ "مملكة بريطانيا"، فالتاريخ يشهد أن المجلس لم يدخل في نزاع جدي مع أي من الحكومات والبرلمان، ولم يميز أي من أعضائه نفسه بالمخصصات الباذخة، ولم يترك منزله الشخصي، وينتقل الى منازل الحكومة المورثة من زمن الاستعمار. ودخل السودان (أو أُدخل) إلى مرحلة الانقلابات العسكرية بداية بانقلاب "الجنرالات" بانقلاب 7 نوفمبر 1958 بقيادة الفريق أول إبراهيم عبود القائد العام للجيش السوداني، طوال فترة "حكم عبود" قاوم القائد كل الدعوات والإغراءات بإعلان شخصه رئيساً لجمهورية السودان، كما فعل كل رصفائه من العسكريين الانقلابيين العرب والأفارقة وأصر أن تكون سلطة السياسة (رئاسة البلد) بيد المجلس الأعلى للقوات المسلحة التي باسمه صدر البيان الأول، حتى عندما "اقتبس" المرحوم الأستاذ أحمد خيري المحامي وزير الخارجية ومستشار المجلس "المؤتمن" نظرية "الديمقراطية المباشرة"، من التجربة العسكرية الباكستانية، وشكل أول وآخر مجلس وطني (برلمان) في عهد انقلاب نوفمبر، وحاول بعض رفاق القائد أن يحسنوا له فكرة رئاسة الجمهورية رفض الفريق عبود. وعندما تفجرت مظاهرات أكتوبر الشعبية العظيمة، ترددت فكرة انتخاب رئيس للجمهورية الديمقراطية مرة أخرى، تغلبت الحكمة السودانية، وروح الوفاق والتوافق السوداني التي كان ما يزال منه بعض بقية عند القيادات الحزبية السودانية والنقابية، وعادت البلاد سيرتها الأولى وانتخبت الجمعية التأسيسية -بعد انتهاء المرحلة الثالثة- مجلساً خامساً وأجلت انتخاب رئيس للجمهورية لما بعد وضع وإقرار الدستور الدائم (الذي لم ير النور)... وانتخب الرئيس التاريخي إسماعيل الأزهري رئيساً دائماً لمجلس السيادة المكون من ممثلي أحزاب الأغلبية آنذاك. وجاءت "ثورة مايو" بزخمها ودعاويه العريضة، التي كانت سمة العصر في العالم العربي. في البداية كانت سلطة السيادة بيد مجلس قيادة الثورة والضباط الذين "فبركوا" الانقلاب لتحالف بين القوميين العرب - بكل أطيافهم - والشيوعيين. وبعد انقلاب الرائد هاشم العطا وباقتراح من العضو المدني الوحيد في مجلس قيادة الثورة "رئيس القضاء" السابق بابكر عوض الله، قرر المجلس حل نفسه وترشيح جعفر نميري كأول رئيس للجمهورية. وجاءت "الإنقاذ" وأجرت انتخابات رئاسية معروف دائماً مرشحها الفائز. حتى جاء زلزال "نيفاشا"، الذي لم يكن في حسابات "فلكيي الإنقاذ". وجاءت "نيفاشا" بكل ما فيها من نقائض وعيوب، إلا أن أكبر مكسبين كسبهما شعب السودان منها إنهاء الحرب الأهلية المأساوية في الجنوب، وإقرار حق السودانيين في استعادة الديمقراطية. وإيقاف الحرب الأهلية واستعادة الديمقراطية كان ثمنهما غالياً على البلد وأهله. ومهما ستكون نتائج انتخابات رئاسة الجمهورية ومهما سيصحبها من مخاوف وشكوك واتهامات (معروضة أمام مفوضية الانتخابات) بوسع المرء أن يقول إن الرئيس القادم لجمهورية السودان الاتحادية (حتى اللحظة) هو أول رئيس للجمهورية جرى انتخابه (مهما كانت الوسائل التي اتُبعت). ومع كل الشكوك والاتهامات والتهديدات الظاهرة والمبطنة، فبوسع المرء أيضاً أن يقول إن شعب السودان بخبراته وإنجازاته، سيدخل انتخابات الرئاسة، وهو مدرك تماماً أن هذه العملية الديمقراطية البسيطة، التي تمارسها معظم الشعوب هي بالنسبة له معركة فاصلة في تاريخه الحديث، وأنه سيحرص كل الحرص على أن يثبت للعالم أنه فعلاً جدير بما لقبه به العالم "صانع الثورات الديمقراطية السلمية"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©