الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اغتيال

اغتيال
1 أكتوبر 2008 22:06
هذا عنوان قطعة شعرية أخرى لمحمود درويش، يعلن فيها أن هناك من يغتاله بسوء الفهم لشعره، وتحريف معانيه، وتوجيه الاتهامات إليه، وأن هؤلاء هم النقاد على وجه التحديد، يقول الشاعر: ''يغتالني النقاد أحيانًا: يريدون القصيدة ذاتها/ والاستعارة ذاتها·· فإذا مشيت على طريق جانبي شاردًا/ قالوا لقد خان الطريق· وإن عثرت على بلاغة عشبة/ قالوا تخلىّ عن عناد السنديان· وإن رأيت الورد أصفر في الربيع/ تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟ وإذا كتبت: هي الفراشة أختي الصغرى/ على باب الحديقة حركوا المعنى بملعقة الحساء· وإن همست: الأم حين تثكل طفلها/ تذوي وتيبس كالعصا قالوا: تزغرد في جنازته وترقص··/ فالجنازة عرسه· وإذا نظرت إلى السماء لكي أرى/ ما لا يرى/ قالوا تعالى الشعر عن أغراضه''· واللافت للانتباه في هذه المقطوعة هو تمثيل درويش لهذه العلاقة المتوترة دائمًا بين الشاعر والناقد باعتبارها منذ البداية نفي للآخر واغتيال له· ومع أنه يحترز في حكمه بكلمة أحيانًا التي تنجيه من التعميم الضال فإننا لابد أن نذكر أن درويش أكبر شاعر دلّله الجمهور في العصر الحديث، وأن النقاد قد تسامحوا معه ومنحوه من المحبة والتعاطف ما لم يسعد به شاعر آخر في الحياة العربية الراهنة· أما ما يشير إليه محمود من حالات النزاع بينه وبين من يسميهم نقادًا فهو لا يعدو أن يكون نموذجًا بسيطًا لموقف القراء العاديين منه· وأغلب الظن أن محاوريه غالبًا كانوا من المريدين له والمسحورين بعالمه، فهؤلاء عندما يعجبون بشيء يطلبون تكراره، وويل للشاعر الذي يقع في تكرار نموذجه الشعري في البناء والتخييل استجابة لهذا النزوع الفطري لدى الجمهور· لكنك لن تجد ناقدًا واحدًا يُعتد برأيه يمكن أن يعتبر الخروج عن المألوف في الشعر خيانة، فليس هناك من الخبراء من يمكن أن يظن أن الشعر يسكن الدروب المطروقة، وتهمة الخيانة عادة لا يطلقها النقاد، وإنما الجمهور الذي يتصور الزواج الأيديولوجي الدائم للشعر بقضية معينة هو الذي يمنحه الشرعية، فيبحث عن دم الوطن في كل أوراق الشعراء· أما من يحرك المعنى ''بملعقة الحساء'' كي يفهم رموزه ويؤول إشاراته فهو ناقد فعلاً، وهو لا يحتج عادة على الشعر بل يكتشف ما يزخر به من جمال حتى ولو كان غير مقصود· ليس النقاد هم الذين يصرّون على الصور النمطية للأمومة مثلاً، أو يدينون التعالى على التجارب والأغراض المعروفة، بل هو الجمهور الذي كان درويش لا يرى سوى تعليقاته· لهذا فإن درويش عندما يختم شكواه من النقاد قائلاً: يغتالني النقاد أحيانًا/ وأنجو من قراءتهم وأشكرهم على سوء التفاهم/ ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة فإنه بدوره يسيء تسمية هؤلاء بالنقاد، بمقدار ما يحسن صنعًا بالنجاة من قراءتهم، لكنه يكتشف في الحين ذاته أهمية القراءة التي هى وليدة غالبًا لسوء الفهم، لأنها تصبح قوة دافعة خلاقة للمبدعين، لأن التواطؤ والتكريس لا يساعدهم على اجتياز مراحلهم والتفوق على ذواتهم مثلما فعل محمود درويش
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©