الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استراتيجية العنوان داخل النص

استراتيجية العنوان داخل النص
1 أكتوبر 2008 22:08
تدل القراءة الأولية لعناوين أعمال الشاعر حبيب الصايغ التي صدرت حتى الآن على أن إنشاء العنوان واستراتيجية بنائه قد شهدا تحولا، يجعلنا نميز بين مرحلتين اثنتين في هذه الاستراتيجية على مستوى بنية العنوان اللغوية، المرحلة الأولى اتسم فيها العنوان بطوله الواضح (هنا بار بني عباس: الدعوة عامة، التصريح الأخير للناطق باسم نفسه، قصائد إلى بيروت، قصائد على بحر البحر)، في حين عكست المرحلة الثانية ميلا شديداً إلى التكثيف والاقتصاد في اللغة (ميارى، الملامح، وردة الكهولة، غد)· ولما كان العنوان على مستوى وظيفته الشعرية يحيل على لغة النص، فإن هذا التحول يتصل أيضا بالتحول الذي طرأ على بنية لغة النص الشعرية، فقد اعتبر جيرار جينيت (أن العنوان يرتبط بعلاقة عضوية مع النص إذ يشكل بنية تعادلية تتألف من محورين أساسين في العملية الإبداعية هما: العنوان والنص، فالعنوان هو المناص الذي يستند إليه النص الموازي· كما أن العنوان كما يقول جينيت لا ينفصل عن مكونات النص ومراتبه القوليه، فإن اختياره لا يخلو من قصدية وهو يأتي في إطار سياقات نصية تكشف عن طبيعة التعالق التي تتم بين العنوان ونصه، والنص والعنوان· من هنا فإن عناوين دوواين الشاعر لايمكن قراءتها خارج تلك الوظيفة الشعرية نظرا لأنه يعبر عن جماع العمل أو عن الفكرة الرئيسة التي تهيمن عليه، فهو مفتاح تأويلي يسعى إلى ربط القارئ بنسيج النص الداخلي والخارجي ربطاً يجعل من العنوان الجسر الذي يمر عليه)· مسافة نسبية يشكل عنوان الديوان الأول (هنا بار بني عباس: الدعوة عامة) مثالا على الشكل الأول من العنونة، إذ يمتاز بالطول الواضح· وبقدر ما يحيل على مستوى بنيته اللغوية والدلالية على نصوص الديوان ويشكل مفتاحاً دلالياً لها، بوصفه علامة دالة وواجهة إشارية دلالية تخنزل النص مبنى ومعنى، فإنه من جهة أخرى بحكم أولية موقعه واستقباله وما يقيمه من مسافة مائزة بين العنوان والنص، يتمتع باستقلاليته النسبية ولذلك يجب قراءته وفهم دلالاته في ضوء المرجعية الخارجية التي يحيل عليها وتتمثل في المرجعية التاريخية القبلية القديمة التي يقيم اتصاله معها عبر استدعائها في هذا العنوان بقصد يحفز عليه، يكشف عنه التناقض الواضح في بنية العنوان إذ يجمع بين اسم تاريخي قديم واسم مكان حديث هو البار· كذلك يحمل في عنوانه الفرعي عبارة معاصرة هي دعوة للحضور القصد منها السخرية من الواقع الحافل بتناقضاته على المستويين الاجتماعي والسياسي، ما يجعل العنوان الفرعي يقوم بوظيفة دعم المعنى الدلالي للعنوان الرئيس بوصفه علامة تستمد معناها من الواقع الخارجي الذي تحيل عليه وتمتح منه دلالاتها· إن هذا العنوان الذي يتألف من اسم إشارة تتجلى وظيفته في التحديد ومن اسم مكان يحمل دلالات مكانية حديثة ووقبلية قديمة بينهما فجوة تاريخية وحضارية من حيث الدلالة، ينطوي على معنى ساخر يحيل على الواقع العربي بتناقضاته وضياعه وبؤسه، وهو ما يكشف عن رؤية الشاعر منذ البداية للواقع الذي يعيش قضاياه وهمومه، ما يدلل على الدور الذي يقوم به العنوان على مستوى عملية التلقي عند القارئ، وتنظيمها وتوجيهها· تعالق ومعارضة ويأتي عنوان الديوان الثاني (التصريح الأخير للناطق باسم نفسه) استمرارا لاستراتيجية العنونة الأولى التي تتسم بالطول، إضافة إلى ما تتميز به على مستوى بنيتها النحوية من حيث كونها تتألف من جملة اسمية معرفة تحمل دلالات معاصرة وسمت الخطاب الإعلامي العربي الرسمي في مرحلة سياسية بالغة الحساسية· لكن الشاعر لجأ إلى المعارضة في هذا التعالق الذي يقيمه مع تلك اللغة عندما قام بإحالة التصريح للناطق باسم نفسه وليس للناطق الرسمي كما جرت العادة · وإذا كان هذا العنوان ينطوي على شيء من الغموض في تحديد هوية صاحب هذا التصريح، فإن قراءة نصوص العمل تكشف عن تلك الهوية التي تتمثل في ضمير المتكلم/ الشاعر في تلك النصوص التي تنشغل بالتعبير عن حالة الواقع العربي ومرارته وأحلامه الضائعة· إن الشاعر في استراتيجية بنائه للعنوان يسعى إلى معارضة تلك المرجعية من خلال جعل الناطق هنا يتحدث باسم نفسه، وليس باسم مصدر آخر، ما يدل على تبدل في الوظيفة والأدوار والصفة، وهذا يجعل العنوان ينشئ مرجعيته الخاصة· ويظهر الطابع المركب لاستراتيجية العنونة في اللجوء إلى استخدام العنوان الداخلي المحوري (قراءة جديدة في سفر التكوين) فهو يتضمن على مستوى بنيته الدلالية قراءة مختلفة عما سبق من قراءات لسفر التكوين وهذه القراءة تعبر عن الرؤية الجديدة التي تقدمها قراءة الشاعر الجديدة لسفر· يقيم العنوان تناصه مع العهد القديم/التوراة، لكنه في هذا التناص يقوم بعملية تحويل على المستوى الدلالي عندما يعلن في متن العنوان عن قراءته الجديدة لذلك السفر الذي يتحدث عن خلق الله للعالم وكائناته· ويظهر التعالق في استراتيجية العنونة بين العنوان الخارجي والعنوان المحوري الداخلي على المستوى الدلالي من خلال ما يحملاه من معنى يوحي بالاختلاف عما سبقه تأكيداً لاستقلالية الذات الشعرية التي تنشئ خطابها الخاص وقراءتها الخاصة للواقع والعالم الذي تعيش فيه لحظتها التاريخية المختلفة ووعيها الخاص بهذه اللحظة· وتأتي عتبة الإهداء التي تحاول خرق مبدأ الإهداء عندما تنفي عن نفسها هذه الوظيفة، في الوقت الذي تحاول أن تكشف فيه عن العلاقة الجدلية بين ولادة النص وحضور المرأة، خاصة وأن المرأة في نصوص هذا العمل تنطوي على معاني رمزية تتجلى في ولادة الحياة والخصب والحب والجمال· دلالة مكانية يحمل عنوان الديوان الثالث (قصائد إلى بيروت) دلالة مكانية تخص مدينة محددة هي بيروت، في حين يكون الخطاب في هذه الديوان موجهاً إلى تلك المدينة التي كانت تواجه محنتها المتمثلة بالغزو الإسرائيلي وحصاره لها، وبذلك يعلن الخطاب عن مقاصده، ويشف عن السياقات النفسية والإيديولوجية التي تندرج ضمنها عملية تلقيه عند القارئ· وعلى غرار العنوانين السابقين يتألف هذا العنوان من جملة اسمية حذف مبتدأها المقدر هي أو هذه ما يشير إلى وظيفته التي يقوم بها وهي التعيين والتحديد إلى جانب الوظيفة الشعرية والتسموية كونه يسم الديوان، ويشكل (رمزا ذا دلالة بديلة للمتن)· ومع الديوان الرابع تنعطف العنونة باتجاه جديد إذ تتجه فيه استراتيجية كتابتها نحو الاقتصاد اللغوي الشديد بصورة تكشف فيه عن نقطة افتراق مع استراتيجية العنونة السابقة· فالعنوان الذي يتألف من كلمة واحدة هي اسم علم (ميارى) تتجلى شعريته في علاقة الاتصال التي يقيمها مع البنية اللغوية لقصائد الديوان والتي تتصف هي الأخرى بالتحول نحو الاقتصاد والتكثيف الشديد في لغتها، ثم يأتي عنوان الديوان التالي (الملامح) ليشكل امتدادا لاستراتيجية العنونة الجديدة القائمة على التكثيف الشديد والاقتصاد الكبير في اللغة· والعنوان الذي يتألف من من كلمة واحدة هي اسم جرى تعريفه من خلال إضافة ال التعريف إليه يقوم على الحذف في بنيته التي حذف منها المبتدأ المقدر هذه أو هي، ما يجعله يقوم على الغموض المقصود في بنيته الدلالية· لكن الشاعر يعود إلى خرق هذه القاعدة عندما ينتخب لديوانه التالي (قصائد على بحر البحر) عنوانا طويلا نسبياً يتألف من جملة اسمية حذف مبتدأها المقدر هي أو هذه · والعنوان كما هو واضح يقيم اتصاله مع عنوان الديوان الثالث (قصائد إلى بيروت)، إذ يتألف مثله من كلمة تحمل دلالة فنية وشعرية تخص طبيعة العمل الكتابية، ومن جار ومجرور يحمل هو الآخر دلالة عروضية ينزاح بها الشاعر عندما يعطيها معنى جديداً هي بحر البحر، ما يجعلها تحمل معنى التفخيم· ويأتي العنوان السابع (وردة الكهولة) استمراراً لاستراتيجية العنونة من حيث بنيته اللغوية والنحوية فهو يتصف بالإيجاز من جهة، وبكونه يتألف من جملة اسمية خبرها معرف بالإضافة وهذه الجملة تتصف على المستوى التركيبي بالحذف المتمثل بحذف المبتدأ المقدر هي أو هذه، أما على المستوى الدلالي فالعنوان يتصف بالعلاقة الضدية القائمة بين طرفيه (وردة والكهولة) ولعل هذا الانزياح في الصفات يعبر عن المقاصد الشعرية والدلالية التي يتوخى الشاعر تحقيقها من خلاله، فإذا كانت الكهولة تدل على مرحلة عمرية تمثل خريف العمر الذي تتراجع فيه حيوية الإنسان ونضارته، فإن الوردة كما هو معروف تحمل معنى النضارة والتفتح والجمال· وتنحو العنونة في الديوان الأخير (غد) نحو التكثيف الشديد فهو يتألف من كلمة واحدة هي اسم مفرد يحمل دلالة زمنية، لكنه يأتي غير معرف وقد جرى حذف مبتدؤه المقدر هو أو هذا· إن هذا الحذف على المستوى التركيبي يسهم في خلق الإيهام والغموض،كما تتجلى علاقته التناصية التي يقيمها مع عناوين القصائد الداخلية من خلال استخدامه بكثافة واضحة إلى جانب الترقيم الذي يدل على الكم في تلك العنونة· وإذا كان العنوان يشكل عنصراً بنائياً يختزل نصوص العمل مبنى ومعنى مشكلا محوراً دلالياً كما يقول الشكلاني الروسي أوسبنسكي، فإن قراءة عناوين الشاعر تندرج على المستوى النحوي في إطار الجملة الاسمية أو الاسم المفرد حيث يغيب عنها العنوان الذي يتألف من جملة فعلية· كذلك فإن هذه العناوين على المستوى التركيبي تتميز بالحذف الموحي بالغموض في العنونة التي تقوم على التكثيف الشديد في بنيتها اللغوية، وعلى الاستطراد والعنونة الفرعية لاسيما في عنواني الديونين الأولين لتوضيح المعنى المقصود وتوضيح دلالاته خاصة وأن هناك عنوانين هما (هنا بار بني عباس، التصريح الأخير للناطق باسم نفسه) يتضمنان إحالتين على مرجعية خارجية عبر استدعاء اسم قبيلة قديمة في العنوان الأول، وظاهرة إعلامية سياسية حديثة، لكنه في العنوان الأول يستدعي الاسم بقصد السخرية من الواقع العربي المتردي، في حين يعبر في العنوان الثاني عن الرغبة في إظهار صوت الذات للمواطن العربي الذي تتولى السلطة الرسمية التحدث دوما وأبدا باسمه دون أن يفوضها بذلك أحد، أما على مستوى البنية الدلالية فتحمل أغلب العناوين دلالة مكانية أو زمنية· رواية السوداني صلاح حسن تحكي العشق المدمر على ضفاف النيل سن الغزال ··· دليل للقراءة تأتي ''سن الغزال'' للروائي صلاح حسن أحمد في الوقت المناسب· فهذا العمل الأدبي يتقدم الى مكانه بين الأعمال الروائية العربية الصادرة في السنوات الأخيرة، في موسم جفاف على الرغم من كثرة العناوين· بعد نجيب محفوظ وأعلام كبار، ''انكمشت'' الرواية العربية· أصبحت رواية ''الحواديث'' والتجارب الفردية الصغيرة، وهو أمر لا يدينها بحد ذاته، لكنه يصبح عبئاً على العمل الروائي عندما يفتقد الى بعض ـ أو على الأقل ـ أحد عناصر الإنجاز الأدبي· كل ما قرأناه خلال خمس سنوات خلت ـ ما عدا استثناءات محدودة ـ كان يفتقد الى شيء ما: صلابة البنية الروائية، أو متانة الحبكة، أو حرارة اللغة، أو حيوية الرؤية· في ''سن الغزال''، يبدو أن صلاح حسن أحمد لمّ شتات ما ضاع على غيره من عناصر لينجز رواية مكتملة الأوصاف· تحتاج قراءة ''سن الغزال'' الى ثلاثة مستويات من القراءة: أولها، قراءة في اللغة· فلغة صلاح أحمد لغة نبضية إن جاز التعبير، فعصب اللغة عنده هو امتداد لعصبه، ما يجعل الأحرف والكلمات صدى مرئياً لتدفق الدم في الشرايين، وإعلاناً صاخباً عن استمرار القلب في الخفقان· هي بهذا المعنى لغة الشعر، والعمل الروائي بأكمله هو قصيدة تتدفق وتخفق· وثانيها، قراءة بنائية، فالرواية التي تبني على حدث ممتد في الزمن، تستغرق في اكتناه الحدث كأنما تنجز بحثاً أكاديمياً· واذا كان حظ التوثيق في الكتابات العربية أقل من حظ الإنشاء، فانه في الأعمال الابداعية ظل شبه معدوم لولا تجارب لافتة بدأها المصري ابراهيم أصلان، ويستكملها بجدارة صلاح حسن أحمد· واللافت في هذا الصدد ثبت المراجع التاريخية الذي وضعه المؤلف في آخر كتابه· وثالثها، قراءة غرائبية تمليها أجواء الرواية ومناخاتها التي تصبح في كثير من السياقات هي الحدث· ولا يعني ذلك أن ''سن الغزال'' هي عمل فانتازي يسابق الذهني فيه الواقعي· هي بمعنى أكثر وضوحا، ترفع الحدث الواقعي الى مصاف التجريد الذهني· وبلغة التصنيف الأدبي تنتمي الرواية الى عالم ''الواقعية السحرية'' اللاتيني· فكما ''أنسن'' بطل مركيز، خوسيه أركاديو بوندييا في ''مائة عام من العزلة'' الأسطورة، فإن الأسطورة في ''سن الغزال'' جرت في شرايينها دماء البشر· نزعم أن رواية صلاح أحمد هي رواية ماركيزية، في تركيبها ومناخاتها، دون تقصّد أو تقليد· وبالمقارنة، تحيل التحضيرات التي سبقت مشهد اعدام مختار ود الشيخ المتوكل وفاطمة بت الحلو، الى المشهد الذي سبق الإعدام في رواية ''وقائع موت معلن'' مع فوارق يستنبطها كل من قرأ الروايتين· تجري أحداث رواية ''سن الغزال''، الصادرة مؤخرا عن دار الآداب البيروتية، على ضفاف نهر النيل وتتخذ من العشق المدمر محركاً أساسياً لها، وهي تستمد نسيجها من خليط من الأسطورة والمعجزة وتصادم المعقول باللامعقول· وتفتح الرواية نوافذ ثقافية على كم هائل من الموروث الشعبي والديني والتاريخي إذ تمتد وقائعها على مدى ثلاثة قرون في ركن من هذا العالم لم يتعرف عليها القارئ العربي، لكن المؤلف يقدمها له بتفاصيل مغرقة في طزاجتها· وصلاح حسن أحمد خريج كلية الآداب في جامعة الخرطوم· له أعمال درامية إذاعية ومسرحية بثت وعرضت في السودان· وأعمال قصصية أخرى· وله أيضا اهتمامات جادة بالتأليف الموسيقي والتصوير الفوتوغرافي والتلوين· ''سن الغزال'' صدرت مؤخرا عن دار الآداب في 384 صفحة من القطع المتوسط· رواية الكاتب المغربي البشير الدامون تتغلغل إلى تفاصيل عالم هامشي تصوير الخجل والبراءة في سرير الأسرار يقوم الروائي المغربي البشير الدامون في عمله الأخير ''سرير الأسرار'' بعملية تصوير تفيض دفئاً وحزناً للمخجل اجتماعياً وللبراءة واليومي من تفاصيل حياة بعض المعذبين في الأرض· وهذا كله في رواية الدامون يتسلل إلى نفس القارئ ليذكره بأن كثيراً من مآسي الإنسان ومن أموره ''الكبيرة'' وغصاته ومنغصاته إنما رسمته الحياة بنتف وخيوط تبدو صغيرة مشتتة ليعيد الكاتب الناجح التقاط الصورة الكبيرة وإعادة رسمها بهذه النتف والخيوط· بعض ما ورد في رواية ''سرير الأسرار'' يشكل صورة الهيكل الذي بنيت عليه الرواية· نقرأ كلام الفتاة الصغيرة التي كانت الراوية والشخصية الأساسية التي تكلم الكاتب عبرها ووصف تلك الحال الاجتماعية الإنسانية من خلالها· قد يجد القارئ نفسه أحياناً خلال قراءته عن الوضع الاجتماعي المفجع ومقارنته بأوضاع اجتماعية تختلف عنه مسرحاً لتساؤلات منها استرجاع فكرة ''وجودية'' أساسية وإن بشيء من التصرف في مفهوم ''الوجود'' ليصبح معناه هنا الوجود الاجتماعي لا المادي فحسب·· الفتاة التي ولدت في دار للدعارة فاكتسبت صفة ''بنت الماخور'' بطريقة شبه آلية جعلت هذه الصفة وولادتها المادية كأنهما توأمتان في الزمن· تتحدث عن علاقتها بصديقتها في المدرسة فتقول: ''داركم دار بغايا··· هذا ما قالته لي سعيدة ونحن متوجهتان إلى المدرسة· بدهشة نظرت إليها· لم أدرك معنى كلامها· ذكرت أن أمها حدثتها عن أشياء قبيحة تجري في دارنا وأن أمي مما زاهية ليست بأمي وهي امرأة غير شريفة قبل أن تخبرني أن أمها منعتها من اللعب معي· ''بكيت كثيراً· هل لأنني لن ألعب معها بعد اليوم؟ أم بسبب ما سمعته عن أمي وعن دارنا؟ لم تتوقف دموعي· في المدرسة نهرتني المعلمة فازددت بكاء· قربتني إليها واحتضنتني· وددت لو أردد عليها ما حكته سعيدة وأن تبقيني قريبة منها''· ومع أننا ربما تساءلنا في شيء من الشك عن نجاح الرجل أي الكاتب في تقمص شخصية طفلة صغيرة ثم فتاة وبعدها امرأة شابة فمما لاشك فيه قدرته الكبيرة على تصوير حياة ذلك الحي الفقير بنهاراته وأمسياته ولياليه وبمشكلاته ومرح أطفاله الفقراء وثرثراتهم ولعبهم· إنه أحياناً ينقل القارئ إلى تلك الأجواء ويكاد يجعله يعيش فيها بعينيه وعواطفه، بل يكاد يحمل إليه روائح أزقتها ونبض ناسها في منازلهم ودكاكينهم وألوان فقرها· يكتب الكاتب بقدرة شخص ''ناضج'' يستعير ذكريات طفلة صغيرة تروي حياة طفولتها وفتوتها مشاهداتها· تتذكر الفتاة إذن طفولتها في ذلك الحي فتقول: ''محمولة بين يدي أم طويلة القامة عريضة الكتفين وتمد يدها لتشتري لي علبة بسكويت مغلفة بورق ذهبي وأنا أبكي من وجع ألمّ برأسي وأمي تنهر أطفالاً يمدون أعينهم بنهم الى علبتي· من هذه الساحة حيث اصطفت عشرات الدكاكين يمنة ويسرة تبدأ الدرج المؤدية الى منزلنا صاعدة وقد رصت في انتظام بديع بحجارة ملساء يهبها انهمار المطر اللمعان''· صدرت رواية البشير الدامون عن ''دار الآداب'' البيروتية في 221 صفحة متوسطة القطع·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©