الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المرجعيّة الملتبسة

26 ابريل 2012
ثلاثةٌ وخمسون عاماً مرّت، على صدور كتاب “قصيدة النثر: من بودلير حتى أيّامنا الحاضرة”، للنّاقدة الفرنسيّة سوزان برنار، التي كانت قد ألّفته في الأصل لنيل شهادة الدكتوراه من الجامعة. ثلاثةٌ وخمسون عاماً مرّت، ولا يزال هذا الكتاب هو المرجع الوحيد تقريباً لقصيدة النثر العربية! تغيّرات عاصفة طرأت على العالم، منذ العام 1959، وأصابت كلّ شيء. أمّا الشعر في العالم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، فقد شهد نقلات نوعية وإضافات هائلة، أحدثتها موجات جديدة من الشعراء. في الخمسينيّات برز هناك عدد محدود من الشعراء العرب الذين عُرِفوا بالرّوّاد، والذين تقاسموا رسم المشهد الشعري العربي العام. في العقود التالية أصبح لدينا أعداد عظيمة من الشعراء، الذين أثروا المشهد الشّعري العربي بمساهماتهم المميّزة، بحيث بات هذا المشهد بحراً متلاطماً من الرؤى والأفكار. على مستوى العالم، شهد الشعر مجموعة كبيرة من الانعطافات، التي غيّرت في مفهومه وماهيّته. شعوب جديدة دخلت على المشهد الشعري، وأحدثت فيه تصدّعات عنيفة وانفجارات مدوّية، لا تزال أصداؤها تتردّد عبر الجهات الأربع. أمّا كتاب سوزان برنار السابق ذكره، فقد أصبح نسياً منسيّاً في الغرب، خاصّةً في فرنسا موطن برنار، ولم يعد أحد هناك يأبه بكل ما جاء فيه. على العكس من ذلك فقد أصبح الاتّجاه الغالب لدى الشعراء في الغرب، هو قصيدة الوزن الشعري. من هي سوزان برنار هذه ليتأبّد اسمها على صفحات التاريخ الشعري العربي، وتصبح (ماما) قصيدة النثر العربية؟ قصيدة النثر كما تعرّفها سوزان برنار هي: “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة مضغوطة كقطعة من بلّور... خلق حرّ ليس من ضرورة غير رغبة المؤلّف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب إيحاءاته لا نهائية”. ثمّة مواصفات تراها برنار أيضاً لقصيدة النثر منها (الإيجاز، التّوهّج، المجانية، الصدمة الشعرية). إننا لو تأمّلنا التعريف السابق لقصيدة النثر، لرأينا أنّ هناك ما يشبه الاجتهاد في توصيف هذا الشكل من الكتابة الشعرية. وفي هذا الاجتهاد ثمّة جرأة خاصّة ومغامرة غير محسوبة النتائج! ذلك أنّه لا أحد على الإطلاق، يمكنه أن يضع تعريفاً بهذا التحديد لحالة من الشعر تسمّى بقصيدة النثر. هل يمكن لعاقل في العالم أن يعرّف الموسيقى؟ هل يمكن أن نقول عنها مثلاً إنّها مجموعة من الأصوات؟ الشعر غامض وبعيد، ولا يمكن لنا أن نطاله بالكلام وحده. إنّه يمكن أن يُسمع مشهدياً، أو يُرى على هيئة أصوات أيضاً! نحن هنا لا نناقش شرعية قصيدة النثر من عدمها، خاصّةً وأنّ هناك تيّاراً عظيماً في الكتابة الشعرية العربية اسمه (قصيدة النثر)، له سدنته ورموزه ونقّاده وجمهوره، ولكننا هنا نتحاور حول المرجعية اليتيمة لقصيدة النثر، التي ظلّت منذ أكثر من نصف قرن تشدّ رقبة الكتابة الشعرية العربية بهذه الخيوط الواهية. كتاب برنار ظلّ مرجعيّةً شكلية لقصيدة النثر العربية، فقد تمّت قراءته حال صدوره عام 1959 ربّما من قبل عدد محدود من الأفراد، بينما القارئ العربي لم يتسنّ له الاطلاع على الكتاب إلا في العام 1993، حين صدر عن دار المأمون العراقية، ثمّ بعد أن أعيد نشره في العام 1999 عن مؤسسة الأهرام في القاهرة. لقد كانت تلك المرجعية إذن بمثابة استيهامات تناقلها الشعراء، أكثر من كونها أشياء واضحة ومحددة بين أيديهم. لدينا هنا ثلاثة أجيال شعرية وربما أكثر، ظلّت تركن في واقع الأمر، إلى مرجعية غائمة وغير واضحة المعالم. وإذا ما أضفنا إلى هذه النقطة مسألة (القطيعة الشعرية مع الماضي البائد) التي أطلقها منظّرو قصيدة النثر العربية منذ البدايات، فسوف تتضح لنا الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تشظّي هذا النّوع من الكتابة الشعرية، وتفتته إلى ألف شكل وشكل: ثمّة من يكتب بناء على موهبة أصيلة، ثمة من يكتب بناء على ربع موهبة، ثمة من يكتب بناء على تقليد صورة النّص المترجم إلى العربية، والذي قد يكون في الأصل نصّاً موزوناً، ثمّة من يكتب وفي اعتقاده أنّ كل كلام يتم توزيعه على الورق توزيعاً خاصّاً هو شعر. لكنّ القاسم المشترك عند الجميع هو القطيعة، والقطيعة مع أي جهة؟ مع الشعر العربي. والآن لنتأمّل المشهد العام لقصيدة النثر: قصيدة بمرجعية باهتة غير مطّلع عليها اسمها كتاب سوزان برنار، وفي الوقت نفسه هي قصيدة تقيم القطيعة مع الشعر العربي، أي تعاديه، ولا تتفق معه في الرؤى والأفكار، لا تنهل من مياهه ولا تشترك معه في الطريقة التي يقارب من خلالها الحياة والوجود. كيف يكتب الشاعر إذن، دون مرجعية واضحة، ودون ماضٍ شعري؟ يا له من مأزق، ومن مأزق قاتل!!! للخروج من هذا المأزق، لا بدّ من الحوار في الهواء الطّلق عن كل ما يتّصل بقصيدة النثر. لقد آن الأوان لإعادة النّظر في كلّ شيء يمت لها بصلة، وأوّل ما ينبغي الحديث فيه هما المرجعية والقطيعة. في تصوّري فليست هناك من مرجعية لأي شعر في العالم سوى الشعر نفسه. ومرجعية قصيدة النثر ينبغي أن تتّكئ على الشعر العربي بشكل أساسي، وعلى الإضافات التي حقّقها المنجز الشعري العالمي. في الواقع لا يوجد هناك شعر عظيم وخصب ومتعدّد، مثل الشعر العربي، الذي يمتدّ تاريخه الطويل منذ الحقبة الجاهلية إلى أيامنا الحاضرة. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الشعر الجاهلي هو وريث شعر الحضارات القديمة، كما هي اللغة العربية التي ورثت ما سبقها من لغات. هذه مسألة، والمسألة الأخرى فالشعر العربي شعر ديناميكي ومتحوّل، يؤثّر ويتأثّر، وقد أثّر هذا الشعر أعني الشعر العربي تأثيراً حاسماً في الشعر الأوروبي في العصور الوسطى، كان ذلك عن طريق كلٍّ من الأندلس وجنوب إيطاليا. إنّ ظاهرة شعراء الترابادور وقصيدة السوناتا والشعر الغنائي عموماً هي من المؤثّرات الشعرية العربية. بسبب ذلك كلّه تغدو العودة إلى ينابيع الشعر العربي بمثابة منقذ لقصيدة النثر العربية. إنّها العودة إلى الحضن الدافئ بعد رحلة التيه الطويلة التي امتدت على مدار أكثر من نصف قرن، وبعد حكاية القطيعة التي دمّرت هذه القصيدة وسلبت من عروقها الدّم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©