الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ثورة ماكرون».. فرنسا والنموذج الأميركي

«ثورة ماكرون».. فرنسا والنموذج الأميركي
11 يوليو 2017 15:32
ترجمة: محمد وقيف من بين الأفكار الجديدة التي جاء بها الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون ابتداع سُنة جديدة تتمثل في إلقاء خطاب سنوي أمام البرلمان الفرنسي، على غرار خطاب «حالة الاتحاد» الأميركي. ويبدو أنه لم يستطع الانتظار أكثر من عشرة أيام بعد الانتخابات التشريعية ليجرب ذلك. فيوم الاثنين الماضي، وصف ماكرون انتخابه بأنه «بداية جديدة» لبلد «يستعيد التفاؤل والأمل»، كما اقترح حزمة من المقترحات الجريئة التي تهدف لتحسين أداء عمل الحكومة. لكن الأكثر جرأة من مقترحاته ربما هو الخطاب نفسه، والجهاز التنفيذي المصمم وفق النموذج الأميركي الذي يبدو أنه يؤسس له. معجب بأميركا وإلى جانب الخطاب، هناك التنصيب شبه الرسمي من قبل ماكرون لزوجته بريجيت كـ«سيدة أولى» حاضرة بشكل واضح في الأنشطة والفعاليات الرسمية. ثم هناك السياسات الاقتصادية المؤيدة للسوق التي يدعمها. كل هذا يبدو -من وجهة النظر الفرنسية- مؤشراً على إعجاب وافتتان ماكرون بالولايات المتحدة، أو بشكل أدق، بالنسخة الكاليفورنية من الولايات المتحدة، حيث تختلط تحررية منطقة الـ«سيليكون فالي» مع تقدمية عامة بخصوص المواضيع الاجتماعية، من قبيل الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، والانفتاح على الهجرة والأقليات، وجهود السيطرة على تغير المناخ.. إلخ. ألم يصرّح، خلال زيارته إلى معرض «فيفا-تِك» التكنولوجي في الخامس عشر من يوليو الجاري، بأنه ينوي تحويل فرنسا إلى «دولة للشركات المبتدئة» قادرة على «جذب المواهب الأجنبية»؟ ومن بين المقترحات الأخرى التي أعلن عنها الأسبوع الماضي، قال ماكرون إنه ينوي تقليص عدد النواب والشيوخ في البرلمان بالثلث، على أن يضع تحت تصرفهم عدداً أكبر من الموظفين حتى يكون عملهم «أكثر سلاسة وفعالية». كما يرغب في إلغاء الحصانة البرلمانية. إنجاز غير مسبوق لقد كان أمراً مذهلا حقاً: رجل من دون أي ماضٍ سياسي أو حزب يصعد إلى الواجهة للفوز بالرئاسة، ثم بأغلبية كبيرة في «الجمعية الوطنية». الفضل في ذلك يعود في جزء كبير منه إلى النظام الانتخابي الفرنسي الذي يُعد تركة من تركات الجنرال ديغول، بنظام تصويت من جولتين. فهذا النظام، الذي يركز على الاستقرار أكثر منه على العدل السياسي، يصب في مصلحة الحزب المتزعم: إذ رغم 28?2 في المئة من الأصوات فقط في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، تمكن أنصار ماكرون من الحصول على 60 في المئة من مقاعد الجمعية الوطنية. لكن النظام الانتخابي لوحده لم يكن كافياً. فمثلما استطاع ديغول وأنصارُه استعادة السلطة في عام 1958 عبر القطع مع ما سماه ديغول «النظامَ الحزبي» الذي كان نظاماً غير قادر على الحكم بطريقة مستقرة، ناهيك عن إيجاد حل للحرب الكولونيالية التي كانت تخاض في الجزائر، تمكن ماكرون من الحصول على دعم كبير جداً عبر استغلال الاستياء الشعبي من الطبقة السياسية. ذلك أن فرنسا، وعلى غرار ما كان عليه الحال في عام 1958، توجد وسط أزمة حقيقية، أزمة تحرِّكها، في الحالة الراهنة، تأثيراتُ أزمة اقتصادية طويلة وعنيدة على نحو غير مسبوق. فاستمرار تراجع الصناعة أدى إلى استبعاد ملايين الموظفين كبار السن من سوق العمل. كما أن البطالة بين الشباب وصلت إلى مستويات قياسية: ففي نهاية أبريل الماضي، بلغ عددُ المسجَّلين رسمياً في قوائم البحث عن وظائف 5 ملايين و836 ألف شخص، أي العدد نفسه الموجود في الولايات المتحدة، علماً بأنه الأخيرة يبلغ عددُ سكانِها ضعف عدد سكان فرنسا خمس مرات! إعادة الأخلاق وعلاوة على ذلك، تفشت خلال السنوات الأخيرة فضائح الفساد تحت رئاسة نيكولا ساركوزي المضطربة (2007-2012)، وخلفه فرانسوا أولاند الذي لم يستطع وقفها. وعلى هذه الخلفية، حقّق ماكرون النصر بعد أن وعد بتنشيط التوظيف و«إعادة الأخلاق» إلى الحياة السياسية، من خلال إجراءات تشمل قانوناً جديداً لمكافحة الفساد يستهدف المسؤولين المنتخَبين، ويُعرف باسم «القانون من أجل الوثوق في الحياة الديمقراطية»، الذي ينتظر أن يكون تطبيقه من الأولويات. ولئن لم يُعلن حتى الآن عن سياسات محددة كثيرة، إلا أن ماكرون أبدى بعض المؤشرات التي تشير مرة أخرى إلى إعجابه بالمقاربة التي تتبعها كاليفورنيا. سجال الهوية فأولًا، حقّق ماكرون شيئاً لافتاً جداً، وإنْ كان لا يشار إليه كثيراً: ذلك أنه استطاع تجنب الحديث عن «الهوية الفرنسية» في كل من حملتي الانتخابات الرئاسية والتشريعية. فخلال السنوات العشر الماضية، ومنذ فوز ساركوزي، انخرطت فرنسا في نقاش حول الهوية كان يستهدف في الحقيقة الأقلية المسلمة (4.4 مليون نسمة، من أصل ما مجموعه 66.8 مليون نسمة). وبتشجيع من حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف تحت زعامة مارين لوبين، أعرب سياسيون عديدون عن رفضهم ومعارضتهم للتنوع العرقي والإثني بشكل عام. فعلى اليمين، أَعجبَت مواضيع «الهوية» الكثير من المحافظين. وعلى اليسار، تبنى الاشتراكيون في عهد مانويل فالس فكرةَ أن المسلمين (ومجموعات أخرى مثل الغجر) غير قادرين على الاندماج في المجتمع الفرنسي. بل إن بعض أنصار فالس أوضحوا أن المواضيع الاقتصادية لم تعد هي التي تجذبهم إلى اليسار، في الظروف الراهنة، وإنما «مشروع أكبر للحضارة والهوية والثقافة». قلق الهوية وبالمقابل، تحاشى ماكرون موضوع نقاش الهوية كليا خلال حملته الانتخابية، كما لو كان من دون معنى بكل بساطة. ومجازفاً باستعداء الناخبين على اليمين وأولئك «القلقين على الهوية» على اليسار، ذهب إلى مدينة الجزائر، عاصمة المستعمرة الفرنسية الأكبر سابقاً، وقال علانية إن الاستعمار «جريمة ضد الإنسانية». وفي مناسبات أخرى عديدة، أظهر ماكرون إلى أي مدى هو أكثر انفتاحاً من المؤسسة السياسية التقليدية على الترحيب بالمهاجرين، شريطة أن يكونوا متخرجين من الجامعة. ويمكن القول إن حدس ماكرون أثبت أنه على صواب بالنظر إلى ما يبدو تراجعاً للدعم الشعبي للأفكار اليمينية المتطرفة حالياً. «نموذج للعولمة السعيدة» وعبر حملة انتخابية حديثة ومنفتحة على التغيرات الكبيرة التي تحدث في المجتمع الفرنسي، تمكن ماكرون بشكل خاص من جذب الناخبين الشباب المتعلمين، أولئك المندمجين بشكل جيد في النسيج الاقتصادي الجديد للمجتمع. فالناخب الكلاسيكي لماكرون هو من سكان المدن، وهو في أحيان كثيرة عضو في «طبقة مبدعة» (في القطاع التكنولوجي مثلا) ويتمتع بدخل مريح، وهو مؤيد للاتحاد الأوروبي. ومثلما وصفته أسبوعية «لاتريبين»، فإن هذا النوع من الناخبين يمثل «نموذجاً للعولمة السعيدة»، فهو شخص استفاد من الفرص التي تتيحها العولمة من أجل التطور الاجتماعي ومن مستوى معيشة تأتّى بفضل اقتصاد متغير، وذلك في تباين قوي مع أولئك الذين يعيشون في المناطق النائية أو في صناعات تقليدية أكثر ويعانون من ظروف عصيبة. وعقب الانتخابات التشريعية، نشر موقع «ميديابارت» الإلكتروني رسماً لبرلمانيي ماكرون الجدد من باريس، التي فاز فيها حزبه بثلاث عشرة دائرة من أصل تسع عشرة. المرشحون الفائزون معظمهم شباب، وجميعهم تقريباً من رواد الأعمال والمديرين والمستشارين ومحامي الشركات، وثلاثة منهم ينحدرون من الأقليات: آسيوي وأفريقي وعربي. وبدون أن يقولها بشكل صريح، يبعث ماكرون برسالة مؤداها أن العولمة تقتضي أن يكون مستقبل فرنسا مستقبل تنوع، وليس مستقبل تقهقر بسبب الهوية (وربما ليست مفاجأة أيضاً أن ماكرون وحركته كسبا دعم أعداد كبيرة من خريجي الجامعات المنحدرين من الأقليات). الاختبار الأول والواقع أنه في ما يتعلق بالهجرة، بدأ ماكرون يخطو خطوات تتعارض مع التوقعات وتخيبها. وعلى الرغم من أنه قال إنه يريد رفع حالة الطوارئ، إلا أن ماكرون يدعم أيضاً إدراج كثير من تدابير حالة الطوارئ الحالية بشكل دائم ضمن قانون جديد لمحاربة الإرهاب، وهو ما يثير قلقاً كبيراً بين المدافعين عن الحقوق المدنية وحقوق الأقليات. غير أن الاختبار الأول الحقيقي لتفويض الرئيس الجديد سيكون قانون العمل الجديد الذي يعتزم إصداره كمرسوم رئاسي قبل أن يطلب من البرلمان الفرنسي التصويت حوله. ذلك أن ماكرون يريد التحرك بسرعة، لأنه يريد الاستفادة من «الصدمةِ» التي أحدثها انتخابُه ومن شللِ خصومه الذين مازالوا مذهولين تحت وقعها لإلغاء جزء كبير من قانون العمل الفرنسي الحالي، الذي صُمم، بسبب النقابات القوية في فرنسا، على نحو يلبي مطالب الموظفين المحميين جيداً، لاسيما أولئك العاملين في الصناعات الثقيلة، ويميل إلى حماية مصالح العمال بشكل عام على حساب قدر أكبر من المرونة والفعالية للمبادرة الخاصة. لكن إلى أي مدى ينوي ماكرون أن يذهب في هذا الإصلاح؟ إلى أبعد قدر ممكن، على ما يبدو. تحدٍّ اسمه النقابات لكن السؤال الحقيقي هنا هو ما إن كان ماكرون مستعداً لمواجهة النقابات أم أنه سيسعى للتوافق معها. فمقاربته للإصلاح الاقتصادي معروفة منذ أن كان على رأس وزارة الاقتصاد (2014-2016): تحرير كبير للقوانين الحالية من أجل السماح للمشغِّلين بممارسة سياسات توظيف «أقل صلابة وصرامة»، ومن ذلك قيود أقل على الرواتب وظروف العمال، حيث يحاجج بأن هذه التدابير أساسية إذ كان يراد لسوق العمل الفرنسي أن يعاد إحياؤه. ومن جانبهم، يقول المشغِّلون الذين يطالبون بحرية أكبر في تسريح العمال، إن هذه التدابير ستؤدي إلى خفض كلفة العمل. لكن نتيجة هذه الطموحات، وشرط نجاحها، هو انخفاض مهم في ما بقي من قوة النقابات، التي تقلصت أصلا (فقبل خمسين عاماً، كان 22 في المئة من كل الموظفين الفرنسيين أعضاء في نقابات، أما اليوم، فإن الرقم هو 7.7 في المئة فقط، وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية). والحال أنه عندما حاول ماكرون إدخال هذه الإصلاحات حين كان وزيراً للاقتصاد في عهد الرئيس فرانسوا أولاند، واجه مقاومة شديدة من النقابات ومن الجمهور نفسه. وبعد سلسلة من المسيرات الاحتجاجية والمظاهرات، صدر القانون عن رئيس الوزراء فالس، من خلال عملية صُممت لتجنب تصويت في البرلمان، كان يبدو أنه من غير المرجح أن يجتازه بنجاح. واليوم المشكلة الأساسية هي نفسها تقريباً. ذلك أن النقابات تعارض بشدة إصلاح سوق العمل لأنه وراء ما يبدو «تغييراً»، يمكن لمحُ سياسةٍ سارية منذ وقت طويل في الواقع. إذ منذ عام 1984، سعت كل الحكومات، يمينية كانت أم يسارية، جاهدة إلى كسر «الصلابة والصرامة» الإدارية والقانونية في ما يتعلق بالتوظيف والتسريح. ومع ذلك، فإنه لم يتسن أبداً السيطرة على البطالة التي ما انفكت تزداد سوءاً، والأدهى من ذلك أنه في فرنسا، مثلما في باقي العالم الغربي، ازداد التفاوت الاجتماعي استفحالاً وترسخاً بالتوازي مع تدهور القوة الشرائية للطبقة المتوسطة. ولهذا، فمن غير الصعب تصور إمكانية أن تصبح النقابات مرة أخرى خط المقاومة الأول لتدابير أكثر جذرية لتحرير سوق العمل ورفع الضوابط القانونية عنها. ومما لا شك فيه أن ماكرون سيتمتع بمزايا أغلبية قوية في البرلمان، إلا أن الانتصار على النقابات مازال غير أكيد. إذ وفقاً لاستطلاع للرأي أجري أواخر مايو الماضي، فإن أغلبية من الناخبين الفرنسيين (52 في المئة) يعارضون قانون عمل جديد يتم اعتماده من خلال مرسوم رئاسي، مثلما ينوي القيام بذلك ماكرون. وبهذا يمكن القول إن فرنسا مازالت بعيدة عن النموذج الذي تمثله كاليفورنيا. أفكار ماكرون.. قوته الحقيقية الساسة الفرنسيون الجدد يتبعون الفلسفة السوسيو اقتصادية لزعيمهم ماكرون، القائلة بأن الأشخاص الذين يصعدون إلى القمة، أو على الأقل الذين يظلون طافين على السطح، في عالم اليوم، هم أولئك الذين نجحوا في التأقلم مع عملية العولمة التي لا تتوقف وما تنطوي عليه من تغيرات واضطرابات تكنولوجية. ذلك أنه من الآن فصاعداً ستكون ثمة فرص أقل ومتناقصة للأمن الوظيفي، مقابل فرص أكثر ومتزايدة للأشخاص الذين لديهم قدرة على الإبداع والتأقلم. فقد ولّى زمن الوظائف التي يشغلها المرء مدى الحياة، وولّى أيضاً زمن التوصيفات الوظيفية الصلبة والصارمة وأوقات العمل الثابتة. وهنا أيضاً، يجسّد ماكرون من جديد طريقة تفكير أميركية جداً، ويؤمن بأن على فرنسا أن تدرك وتلحق بالواقع الحالي للقوة العاملة. والواقع أنه لا جديد في هذا؛ فكل هذه الأفكار كانت رائجة ومتداولة لأكثر من ثلاثين عاماً بين خبراء الإدارة والتسيير الفرنسيين. بيد أن قوة ماكرون الحقيقية تكمن في قدرته على حشد وتعبئة أغلبية سياسية حول فكرة أن تحرير ورفع الضوابط عن سوق العمل، وكذا التعليم العمومي، سيُعِدُّ أجيال الشباب الصاعدة بشكل جيد للنجاح في الاقتصاد الجديد. * كاتب وصحافي فرنسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©