الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ارفعوا الغطاء عن الإرهاب

ارفعوا الغطاء عن الإرهاب
12 يوليو 2017 19:43
يصعب تعريف الإرهاب، ليس بسبب اختلاف اللغات، بل بسبب اختلاف التفاهمات والمساومات والصفقات، وتجاذب الأطراف وتباين المصالح، فيصير كل طرف بحاجة إلى استخدام الإرهاب حتى يتنازل الخصم كثيراً أو قليلاً، وإلا فمهما تباعدت اللغات يظل هناك قاسم مشترك من المعنى، فالكلمة في كل اللغات تعني الخوف الذي ينتاب المرء من شيء خطير لا يعرف من أين يأتي، ولا الساعة التي ينفذ فيها الفاتك عمله... كل هذا معروف من الكلمة، لكن ما وراء الكلمة غير معروف، من أمثال من سيقوم بالعمل، وضد من هذا العمل، فقد يحدث في مقهى أو ملهى... من دون أن يكون هناك أي رابطة مقنعة بين العمل والشعارات. هذا هو المعنى المشترك للإرهاب... أشياء وأشياء تقال في هذا الصدد، لكن المؤكد أن مهمة الإرهاب إشاعة حالة معينة تستفيد منها دولة أو منظمة أو مؤسسة أو حتى رئيس مافيا مثل «أل كابوني». قد يقال إن المجتمع المدني نفسه لم يصل إلى تحديد مفهوم الإرهاب، فهناك من يعتبر التدخل في تحديد النسل، أو فرض قانون الرأفة بالحيوان، نوعاً من الإرهاب، لا يختلف عن الأنظمة العسكرية والتوتاليتارية القمعية، بيد أن كل نقاشات المجتمع المدني لا تؤدي إلى نتيجة، فناصية الأمور بيد الدول، والإرهاب في هذه الأيام صناعة دولية، ازداد بعد إعلان قيام «النظام العالمي الجديد» بلسان جورج بوش الأب. قبل أن نسمع بالإرهاب قبل الثورة الفرنسية لم نكن نسمع بالإرهاب. كانت القوانين تبيح الرق والعبودية، ومع ذلك لم نسمع بهذه الكلمة عندما ثار عبيد روما بقيادة سبارتاكوس. نعم سمعنا بالإرهاب الذي يمارسه هذا الدكتاتور أو ذاك، ولكن لم يكن يسمى إرهاباً، كان يسمى استبداداً، ومنه خرج علينا أرسطو بـ«الاستبداد الشرقي»، أي استخدام العنف بأساليب غير قانونية. والفرق بين الاستبداد القديم والاستبداد الحديث أنهم كانوا يسمون المستبد القديم طاغية، بينما يسمون المستبد الحديث دكتاتوراً، الطاغية لا يتقيد بقانون، والدكتاتور يضع قانوناً متشدداً أين منه استبداد الطاغية الشرقي، فالفرق أشبه بالفرق بين ذبح النعاج بالسكين، وذبحها بالطريقة الحديثة. والعبيد لم يكونوا إرهابيين، فلم نسمع عن حادثة واحدة في اليونان القديمة أن عبداً عمد إلى أسلوب الإرهاب، بل يقال إن إيسوب كان عبداً، فلما تعلم وتثقف أعطاه سيده وثيقة الحرية، والرومان، على قساوتهم وجبروتهم، كانوا في أول يوم من أيام عيد الساتورناليا يغسلون أرجل عبيدهم، وينفذون طلباتهم كما لو صار العبيد سادة والسادة عبيداً، وفي اليوم التالي تعود الأمور إلى ما كانت عليه، بعد أن يعرف السيد معاناة العبد، ويعرف أيضاً كيف يخفف منها حتى لا يقع المحظور. بلى كان هناك الكثير من أنواع المزعجات: قطاع طرق وقراصنة بحار، وعصابات سرقة، وعصابات مأجورة، وجمعيات سرية تنفذ سياسة معلنة أو غير معلنة... ولكن لا يقال عنها ما يقال عن الإرهابيين في هذه الأيام. صحيح أن الإرهاب كان الجوّ العام في أيام الإغريق الغابرة، فعندما أراد تيسيوس أن يسافر إلى أثينا كان مخيّراً بين الطريق البحري المليء بالقراصنة، والطريق البرّي المليء بقطاع الطرق. كان إرهاباً حقيقياً مسيطراً على الجو والبحر، ولو كان عندهم طيارات في ذلك الوقت، ربما كان الإرهاب يطال السماء أيضاً. وعندما اعتلى تيسيوس العرش وضع القوانين الصارمة ضد قطاع الطرق وقراصنة البحار، وتراجعت جداً حوادث الطرق البرية، إلا أن قراصنة البحار استمروا في نشر جوّ الإرهاب في كل البحار اليونانية، وما أكثرها! فالدولة لم تكن قادرة في ذلك الوقت أن تمنع ذلك. وفي دولة الرومان لم يتكاثر القراصنة، إلا عندما نشب الصراع بين روما وقرطاجة، فصارت كل دولة تستخدم القراصنة، لتحقيق غايات مضمرة. وفي العصور الوسطى تراخت المؤسسة التي كانت تسمى الدولة، فكثرت التنظيمات والجمعيات التي تعمل لمصالحها الخاصة، وازداد عدد القراصنة ازدياداً عجيباً، حتى أن أغرب القصص في ذلك الوقت كانت تروى عن القراصنة، وكان بعض القراصنة يكتبون مذكراتهم حول مغامراتهم والكنوز التي حازوا عليها فاستغلها الكتاب، كما استهلت السينما الناطقة عملها بإنتاج الكثير من أفلام القراصنة. أيضاً محاكم التفتيش لم تظهر إلا في فترة تراخي الدول، فوضعت القوانين ضد «الهراطقة» و«السحرة» وما أسهل أن تتهم خصمك بالهرطقة أو السحر، فليس لديه دليل مادي يثبت العكس، فحتى الأباطرة في ذلك الوقت كانوا يخشون الاتهام، فاستغلوا التفتيش بدلاً من قمعه، وما نشرته هذه المحاكم من جوّ إرهابي لم يعرف العالم له مثيلاً، جعل الأمور تجري والخوازيق تنصب وأكوام حطب المحارق تنتشر في كل مكان تقريباً على يد مدنيين يرتبطون بالمؤسسة الدينية ولا علاقة لهم بالدولة، فلم تكن الدولة تجرؤ أن تنال منهم. الإرهاب والقضاء عليه أمران منوطان بالدولة، كما تدل الوقائع في كل العصور. أول ما سمعنا بالإرهاب أول إرهاب سمعنا به، وقد ظهرت الكلمة علانية في ذلك الوقت، كان في أعقاب الثورة الفرنسية، فقد مرت عشر سنوات بقيادة روبسبير تعتبر الأعنف في تاريخ السلطة الداخلية في الدولة، ولما انتهى روبسبير انتهى عهد الإرهاب... فنحن هنا إما إرهاب دولة لا إرهاب مؤسسة أو عصابة أو قطاع طرق أو قراصنة بحار. وبما أن الدولة هي التي تمارس الإرهاب، فلا بد من أن يكون لها قانون «إرهابي» وبالفعل فقد وضع روبسبير بعض البنود التي تجعل المحققين يدفعون بأي معاد للسياسة القائمة إلى المقصلة، فدفعوا بالكثيرين إلى الموت، حتى أقرب المقربين. ولأول مرة سمعنا بحماية «الثورة» وعدالة «الثورة» ومحكمة «الثورة»، وهو إرث استغله العسكر صناع الانقلابات وأعلنوه ليعطلوا بهذه الحجة أي دستور وأي محاكمة قضائية، فانتشرت المحاكم الثورية والعدالة الثورية، واستلم الرفاق الثوريون السلطة... ومع كل القوانين الصارمة والاستبدادية التي أصدروها لحماية الاشتراكية، فرضوا قانون الطوارئ الذي يبيح لهم، مثل روبسبير تماماً، زج كل من يشكون بولائهم في السجون، أو يرسلونهم إلى الإعدام، وإن لم يكن بمقصلة روبسبير العلنية. وتطور الأمر في هذه الدول الإرهابية، فصار زعيم الانقلاب يزج بزعماء العهد السابق في السجون من دون أي محاكمة، لا قضائية ولا ثورية ولا عرفية... ويبقى هؤلاء حتى يزورهم الموت، وتسلم جثثهم لأهاليهم، والعالم كله، بمنظماته ومؤسساته، وهيئة الأمم وهيئة حقوق الإنسان... الجميع يتفرج...أحياناً يحتج... ومقصلة روبسبير شغالة جداً، حتى باتت أقبية الاستخبارات تسلم الجثامين مباشرة، من غير حاجة إلى محكمة، فالدولة الإرهابية تمارس الإرهاب بقانون، أو من دون قانون، وهناك طرق باتت تربية الاستبداد خبيرة بها، يمكنها أن تضفي نوعاً من الشرعية على إرهاب الدولة. وبحسب قوة هذه الدولة تنجح الحملة الإرهابية... لكن السؤال هل يمكن لحكم إرهابي أن يستمر؟ إن التاريخ لا يثبت ذلك، ولكنه أيضاً لا يثبت أن من الممكن منع قيام نظام إرهابي في دولة من الدول، بل يثبت أن بقية الدول تحاول أن تستغل هذا النظام لا أن تقضي عليه، إلا إذا صار هناك إجماع، أو ما يشبه الإجماع، أو عملت قوة كبرى على إزاحته. سقوط الملائكة في الأديان القديمة قصة كيف أن لوسيفر كان ملاكاً، فلما تمرد طرد وصار زعيماً للشياطين، وفي الأنظمة الحديثة يجري الشيء ذاته، فكل متمرد على النظام يطرد وينبذ ويعاقب ويقتل... والمنتصر دائماً هو القوي، فالقوة، كما يقول نيتشه، هي المتحكمة إلى أبد الآبدين، قال الرئيس ريغان عن المقاتلين الأفغان ضد السوفييت إنهم «ملائكة السماء»، وقال بوش الابن إنهم «أبالسة الجحيم» فجارى العالم هذه الدولة القوية، وحتى الآن لا تزال حادثة البرجين لغزاً. إذا كانت حادثة البرجين وقعت بهذه السهولة بأميركا، فما بالك في بقية دول العالم؟ وكيف يقتنع المرء أن في مقدور فرد، مهما كان «إرهابياً» أن يدخل كمية من المتفجرات إلى فرنسا أو بلجيكا أو بريطانيا أو أميركا، أو أستراليا، من دون معونة أجهزة استخبارات تابعة لدولة ذات مأرب في إحداث الانفجار؟ ما ثمن هذه المتفجرات؟ من أين يحصل عليها «الإرهابي» والدول وحدها هي التي تحتكر صناعتها، وهي وحدها التي تملك المشاغل والمعامل والمصانع والمختبرات؟ كيف ينقلها «الإرهابي» عبر عدد من نقاط التفتيش، أو كيف يصعد بها إلى الطائرة، من دون مساعدة أجهزة استخباراتية تابعة لهذه الدولة أو تلك، ومن دون حقائب دبلوماسية، ورشاوى بأرقام خيالية، وتخطيط في الغرف السرية...الخ؟ يجب أن نكون أطفالاً حتى نصدق ما يروى لنا. التعريف الحقيقي والحل لا يمكن أن يكون هناك إرهاب من دون مؤسسة راعية، وأن الإرهاب ينتشر لدى ضعف الدولة، وأن من الممكن للدولة أن تكون راعية للإرهاب، فترعى عصابات وأفراداً يقومون بالإرهاب لصالحها، وأن من المستحيل، في العصر الحاضر، أن يكون هناك إرهاب خارج نطاق مؤسسة الدولة، التي تقوم به مباشرة أو تقوم به عن طريق مؤسسات تنشئها وتنفق عليها وتديرها بالريموت كونترول... إن الدولة والإرهاب شيء واحد، فرع من أصل، فقد كانت عصابة «الكوكلوكس كلان»- شبيحة الولايات المتحدة- تسرح وتمرح، إلى أن استغنت الدولة عن خدماتها فأجهزت عليها ولم نعد نسمع بها، وكذلك اللجان المكارثية. وما دامت اللعبة مكشوفة عند الدول، وما دامت الأمم المتحدة، بنظامها الحالي، أعجز من أن تحلّ أمراً من الأمور، إلا إذا اتفقت الدول الكبرى، فإن أقرب طريق لمنع الإرهاب يكون بالوصول إلى اتفاق بين هذه الدول على تعريف الإرهاب، وتحديد التصرفات، وتحديد بنود المعالجة، وتحديد لجان المراقبة... وبقية الإجراءات المعروفة لدى الخبراء... لكن اجتماع هذه الدول يذكرنا بقصة اجتماع القطط لاقتسام الجبنة، إنهم يتنازعون على الحصص، وفي كل مرة يقتسمون يختلفون حول النسبة، فتندلع الاشتباكات ويستعينون بالإرهاب... أما عندما يرفع الغطاء عن الدول ذات الأنظمة الإرهابية، والدول المستغلة للإرهاب، فعندئذ يبدأ الحل، وعندئذ ترى كروم التين قد أقلعت، فتسقط الأوراق، وينكشف المختبئون، ويعلق يوضاس نفسه بفرع تينة عجفاء. ما أطول الدرب يا بيكيت! إن اللعبة لم تنته... والثمن على الضعفاء. فتِّش عن الاستخبارات كيف يقتنع المرء أن في مقدور فرد، مهما كان «إرهابياً» أن يدخل كمية من المتفجرات إلى فرنسا أو بلجيكا أو بريطانيا أو أميركا، أو أستراليا، من دون معونة أجهزة استخبارات تابعة لدولة ذات مأرب في إحداث الانفجار؟ ما ثمن هذه المتفجرات؟ من أين يحصل عليها «الإرهابي» والدول وحدها هي التي تحتكر صناعتها، وهي وحدها التي تملك المشاغل والمعامل والمصانع والمختبرات؟ كيف ينقلها «الإرهابي» عبر عدد من نقاط التفتيش، أو كيف يصعد بها إلى الطائرة، من دون مساعدة أجهزة استخباراتية تابعة لهذه الدولة أو تلك، ومن دون حقائب دبلوماسية، ورشاوى بأرقام خيالية، وتخطيط في الغرف السرية...الخ؟ يجب أن نكون أطفالاً حتى نصدق ما يروى لنا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©