الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عادل فاخوري: الحداثة الشعرية العربيّة ولدت ناقصة

عادل فاخوري: الحداثة الشعرية العربيّة ولدت ناقصة
12 يوليو 2017 19:44
في بيروت، وفي مطالع الثمانينيات من القرن الفائت، كنت أول من قدّمه شاعراً ومنظراً في مضمار«القصيدة الإلكترونية»، ومن بعد كرّت سبّحة الاهتمام الإعلامي بظاهرته الإبداعية في مختلف المنابر الصحافية اللبنانية والعربية. بدأ ذلك في أسبوعية «الكفاح العربي» اللبنانية، وفي إطار من الاهتمام بفانتازيا التجريب الشعري البصري، الذي كان يلحّ عليه عادل فاخوري، الفيلسوف والشاعر اللبناني الذي فقدناه في 13 مايو الفائت عن عمر يناهز الـ78 عاماً، قضى معظمها في التأليف الفلسفي والألسني والسيميولوجي وابتكار القصائد الإلكترونية وفق تصميمات طوبوغرافية تتداخل فيها خطوط وإشارات هندسية دالّة، فضلاً عن تجسيدات بعض الأشياء الحياتية اليومية، مثل قصائد: النارجيلة والغليون وكأس الشراب والمفتاح.. إلخ. كما استخدم حتى الرأس الآدمي «رأسه» كقصيدة بصرية تقول كلمات واحدة منها: «شعري ثورة الحروف/&rlm أذنيّ علامة استفهام/&rlm العينان فاصلتان/&rlm قيل في المثل: أنفي خطّ التعجّب/&rlm والفم/&rlm يا انتحار الجُمَل». كل ذلك وغيره حوّل شاعرنا وفيلسوفنا عادل فاخوري إلى ظاهرة ثقافية لبنانية يعرفها الكثيرون ويألفها الكثيرون، إذ على الرغم من شغبه المفتوح وتنقله الدعائي الفانتازي بين مقاهي شارع الحمرا في بيروت، مع أصدقائه من صعاليك المدينة الآخرين، وفي طليعتهم الإعلامي المميز في مجال التحقيقات الصحافية: عبد الأمير عبدالله، كانوا أكثر من مسالمين ومتودّدين للجميع. في أول مشواره الفني والإبداعي، كان عادل فاخوري يبدو لاهياً، عابثاً، «متهكّماً» ومتحدّياً تجارب شعراء الحداثة العرب الكبار، خصوصاً من جيلي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ومحاولاً فرض تجربته عليهم، وعلى الجميع، هكذا بقوة المشاكسة والمقارعة والتفلّسف الإبداعي الصوري المغاير. أتذكر كان يضع على الواجهة الزجاجية لأحد المقاهي الملازمة تماماً لمدخل العمارة التي يسكن فيها الشاعر أدونيس في بيروت، صوراً لقصائده الإلكترونية. ومنزل أدونيس في المناسبة، هو في منطقة اليونيسكو في بيروت، وتحديداً في الوسط من مباني كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية. ومرة جمعتنا المصادفة البحتة في ذلكم المقهى الضيّق: أدونيس، عادل فاخوري، عبد الأمير عبدالله وكاتب هذه السطور. ودار حوار جدّي، ولكن بشكل مبهج ولطيف للغاية، دام مدة ساعة تقريباً، شرح فيه عادل فاخوري لأدونيس تجربته الشعرية الكونكريتية، التي تشي بأن الفلسفة، هي فن العيش الذي يوصل أيضاً إلى ممارسة الشعر الفانتازي الهادف والمؤثر، بل الأكثر تأثيراً في الأسلوب من سائر الأساليب الكتابيّة الشعرية الأخرى. وكان أدونيس متفهّماً لكل ما كان يشرحه عادل فاخوري وقتها، ولكن على طريقته الخاصة أيضاً (أقصد أدونيس)، التي تترك للتجارب الإبداعية البصرية أّنّى كان وضعها، مبتكراً أم مستعاداً من التاريخ، أن تقدّم نفسها بنفسها عبر صاحبها، ويحكم عليها الزمن الإبداعي والنقدي لاحقاً. وعادل فاخوري كان يقدم قصيدته الكونكريتية التي تخاطب البصر والحواس الإدراكية المجسدة، انطلاقاً من عقله الفلسفي والشعري أيضاً، مدركاً أن ليس للفلسفة حقيقة تقدمها، وكذلك ليس لها طريقة معيّنة في التفكير، ولكنها تستطيع أن تستعمل الفن، كما العقل الكامن وراء الفن في عرضها لأسئلتها وحوارها الخصوصي بحثاً عن المطلق. وأجمل ما دار في ذلكم الحوار، الذي ندمت على عدم تسجيله بين الرجلين وقتها، أنهما تحدثا عن الخطاب الشعري إجمالاً، انطلاقا من خلفيتهما الفلسفية. ولا غرو، فكلاهما درس الفلسفة واختصّ بها، وكلاهما كان ينطلق من التفلّسف الخبير، حتى وإن كان يتحدث عن خطاب آخر يريد أن يهيّئ له معرفة مغايرة باستثمار مغاير. وكان عادل في الحوار مثل أدونيس يجتهد للإفلات من المنطق الرتيب في العلاقة بالأفكار التي يتحدّث بها، ضارباً عرض الحائط بمسألة الانضباط اللغوي والخيال اللغوي، ومركّزاً على التركيب السحري لقصيدته الكونكريتية، الذي ظلّ مصرّاً على تسميتها بـ«القصيدة الإلكترونية»، وهي في رأيي تسمية خاطئة، وقد ناقشته بأمرها مراراً وتكراراً، ولكنه كان قد ابتكر التسمية ومضى بها شوطاً، بل رسّخها في الإعلام، ومن غير الممكن له بالتالي أن يتراجع عنها، خاصة ونحن كنّا، لبنانيين وعرباً، على أبواب عصر انفجار ثورة التكنولوجيا والمعلومات الذي كان ينظّر له شاعرنا قبل أوانه.  القصيدة البصرية كان عادل فاخوري بالفعل، ودون غيره من الشعراء والمفكرين والأكاديميين اللبنانيين، يركّز في أولويات خطابه الثقافي منذ مطلع السبعينيات من القرن الفائت على ثورة التكنولوجيا واستفحال شياطينها وتموضعها حقيقة قارّة ولاغية لما قبلها. وقد أرسى في عقول طلابه في الجامعة اللبنانية هذا الأمر.. كما أرساه أيضاً في أحاديثه الكثيرة حول تجربته في القصيدة الكونكريتية التي تعتمد، وكما أسلفنا، التشكيل والتبئير الطباعي والحروف المخطوطة والمسترسلة بعلاماتها الصورية والتجسيدية على اختلافها. ولم يكن لدى عادل فاخوري أي مانع حين كنت أخاطبه وأناقشه بتنويع تسمية قصيدته الإلكترونية بتسميات أخرى، مثل: القصيدة الكونكريتية، القصيدة البصرية، القصيدة التشكيلية والقصيدة الكاليغرافية... إلخ. وكان يجيب: «كله واحد.. كله واحد». وكذلك لم يكن يتحسّس حين كنت أقول له: لستَ أنتَ من ابتكر هذا الاتجاه، بل هو موجود في التراث العربي القديم؛ وقد تحدث عنه ابن رشيق القيرواني (1000 - 1071م) في كتابه الشهير: «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده»، ذاكراً أن أشكالا شعرية بصرية أتى بها شعراء ذلك الزمان، وعُرفت بأسمائهم، أو بأسماء ما كانوا يوصّفونه في شعرهم. يقول ابن رشيق: «ومن الشعر نوع غريب يسمونه القواديس، تشبيهاً بقواديس الساقية لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضها في الجهة الأخرى». وكذلك هناك شاعر صقلي شهير من أصل مصري إسكندراني (ومن مواليد عام 1138) يدعى ابن قلاقس، قام برسم قصائد مجسّمة بطريقة التربيع والتختيم والتفريع التشكيلي... إلخ ضاع معظمها، كما يقول الناقد والخبير بالتراث العربي، د. إحسان عباس. واستطردت مخاطباً الشاعر عادل فاخوري: إن ما قمت به، إذاً، سبق وقام به غيرك من شعراء عرب وغير عرب في الحقبة العثمانية أيضاً، خصوصاً في مدينة إسطنبول، التي عرفت، ومن موقعها كعاصمة مركزية للسلطنة العثمانية، اتجاهات أدبية وثقافية وفنية متقدمة على غيرها من مدن العالم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، حيث نعثر في كتب شعرية عدة تعود لتلك الحقبة التاريخية على قصائد مشجرة وأخرى ملولبة، وأخرى على شكل طير وشكل قلب وشكل غصن وشكل سمكة وشكل ختم وشكل سفينة... إلخ. وكذلك عرف الغرب، وعلى أبواب الثورة الشعرية الدادائية والسوريالية في سويسرا وفرنسا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، شيئاً من هذا الشعر البصري، خصوصاً مع الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير في ديوانه المعروف «كالليغرام»، إذ نطالع نصوصاً مجسّمة من مثل «قصيدة برج إيفل» و«قصيدة الحمامة» و«قصيدة النسر». كما عرف الشعر الفرنسي قصائد كونكريتية أخرى، وإن قليلة، لشعراء كبار من أمثال ستيفان مالارميه وبول إيلوار وآرثر رامبو وجوزيف نوريه.. وميشال تيلار وغيرهم. كنت أتعمد أن أذكر ذلك كله أمام الشاعر عادل فاخوري، وذلك من باب العلم بالشيء والنقاش فيه، ومرة أجابني بالحرف الواحد: «نعم أنا انطلقت في تجربتي مع القصيدة الإلكترونية من سحر وحي تجارب أجدادنا العرب في الأندلس، الذين عرفوا ظواهر القصائد البصرية على أشكالها وأنواعها، وأبدعوا فيها، ولكنهم كانوا أبناء عصرهم، وأريد أنا أن أكون ابن عصري وزمني المتسارع في كل شيء». وأردف: «من قال لك إن هذا الأمر يحرجني.. على العكس هو يؤكد لي أننا أبناء حضارة عربية عريقة في كل شيء، فلسفياً وشعرياً وفكرياً ونقدياً. ويكفيني اليوم أنني أثرت شيئاً فنياً بصرياً في بيروت يواكب مسار ثورة الشعر العربي الحديث، الذي ظلّ منذ منطلقه وحتى اليوم، ناقصاً، خجولاً ومتردداً، على عكس ما كان يُنظّر له روّاده المعروفون، والذين كان عليهم وحدهم أن يلتفتوا إلى أمر القصيدة البصرية، ويبتكرونها ويطورون من إبداعيّتها، تجريباً وتنظيراً نقدياً... إلخ، حتى وإن تحدّث البعض منهم عن القصيدة المدورة، والقصيدة المرآوية، والشعر المقطّع والشعر الملمّع والشعر الأرقط والأخيف والمستبدل والمحذوف... إلخ. ولكن هذا البعض لم يكن جادّاً حتى في قصيدته، التي كان يتصوّر أنها جديدة وطليعية بما فيه الكفاية، بل دعني أقول لك كان هذا البعض»الطليعي«جباناً ومتردداً، وكان يحسب حساباً كبيراً للإيديولوجيا وطغيانها عليه». وأي أيديولوجيا هنا؟.. سألت عادل فاخوري، فأجاب: «إيديولوجيا الصراع بين مجلة»شعر«بقيادة يوسف الخال من جهة، ومجلة (الآداب) بقيادة سهيل إدريس من جهة أخرى. وكلاهما كان على خطأ في ما خصّ النص الشعري الذي شرطه الأول والأخير إبداعيته، ولا أي شيء آخر يعلق فيه من أنساق إيديولوجًّية ومحمولات حزبيّة... إلخ». وما الجديد الذي رميت إليه جرّاء ابتكارك القصيدة الإلكترونية؟ أجاب الشاعر فاخوري: أنا جئت بتجربة تبشّر بالعصر الإلكتروني.. عصر الكمبيوتر، الذي عرفه الغرب منذ الأربعينيات من القرن الفائت، ولم يكشف عنه إلّا حديثاً، وهو عصر لم تشهد له البشرية مثيلاً، خاصة لناحية انطلاقته الفاصلة عن العصور السابقة كلها، وسرعة هذا الانطلاق الذي ستستتبعه مفاجآت لا حصر لها على مستوى الحياة البشرية ومستوى الكوكب نفسه. والعقود القليلة المقبلة ستنبئ وبوضوح عما أقصده. ودعوتي للقصيدة البصرية أو الإلكترونية، هي دعوة مستقبلية في الأساس، دعوة صدم بريء للناس، وهذا هو دور الشعر في جوهره من وجهة نظري. ولكنك جئت به بقالب ساخر وهزلي ويحمل طابع التهكّم على كل شيء من حواليك؟.. سألته فأجاب: لا أعتقد أنني أسخر البتة بقصائدي الإلكترونية، بل أنا جدّي عبرها وفي أقصى ما تكون عليه الجدية. ولو استعرضت قصيدتي «زنبرك الحياة»، المتجسّدة على شكل ساعة: القاف فيها مقام كل الأرقام، واللام في وسط الساعة بمثابة العقارب و«زنبرك الحياة»، وهو يتكّ.. يتكّ كما تتكّ الساعة: قلق قلق قلق قلق قلق قلق.. لأدركت مدى جديتي والتزامي بدعوتي لاحترام الزمن وتهيّب مساره في انعكاسه علينا جميعاً، إنسانياً وحضارياً. وكذلك في ما خص قصيدتي «أوهام الكيمياء»، والتي جسّدتها على شكل نارجيلة «شيشة». وإذا فككت مشهديتها، لوجدت أنها تتضمن العناصر الأربعة التي تؤلف كينونتنا، وربما سبب ونتيجة وجودنا داخل هذه الكينونة: الأرض، الماء، الهواء والنار، أي العناصر الأربعة التي تحدث عنها الإغريق قبل مرحلة فيلسوفهم سقراط، وقدّسوا اتحاد وظائفها بعضها ببعض، لتوليد الحياة نفسها ومنحها معناها وقياميّتها الحيوية على هذا الكوكب.  وهناك أيضاً «قصيدة الأرزة» التي ترمز إلى الخلود، وهي بالفعل قصيدة أكثر من جدية في معناها ورمزيتها. وقد ابتكرها الشاعر عادل فاخوري وأهداها إلى صديقه الصعلوك: عبد الأمير عبد الله، قائلاً له: «بما أنك نسخة بشرية لا مثيل لها، ولن تتكرر، فسوف أهديك قصيدة الأرزة هذه، ولن أكرر رسم نسخة أخرى منها أبداً. وفي هذا تكريم كبير، بل استثنائي من شاعر لصديقه، ودليل على أن صداقتهما شامخة وخالدة خلود الأرز وشموخه. ولقد شاهدت، شخصياً، هذه القصيدة البصرية أكثر من مرة في منزل عبد الأميرعبدالله الذي قرّر، وهو الإعلامي، ألّا ينشرها في أي وسيلة إعلاميّة لأسباب مجهولة، ويقال إنها فُقدت من بيته بعدما اشتدّ عليه المرض الخبيث، والذي كان قد استقبله عبد الأمير (أي المرض)، بمزيد من الواقعية والجسارة، وراح يحاوره يومياً إلى أن صرعه المرض.. أو العكس هو الصحيح، كما أخطرني بذلك صديقه الشاعر عادل فاخوري بنفسه». مشروع «أفكر: إذن أنا كمبيوتر» وأهمية عادل فاخوري كشاعر لا تضاهيها - إن لم تكن تتجاوزها - إلّا أهميته كفيلسوف استثنائي ومتفوّق في علم المنطق والرياضيات والسيميولوجيا واللسانيات.. وكذلك كان ملماً بعلم الكمبيوتر وعالم المعلوماتية وتشعّباتها المعقدة والسريعة، قضى أكثر من عشر سنوات في تأليف كتاب كان بمثابة مشروع عمره، كما ردد ذلك أمامي أكثر من مرة، وهو كتابه الذي يحمل عنوان: «أفكر إذن أنا كمبيوتر»، والذي صدر في طبعته الأولى في بيروت في عام 2010.  يجمع الكتاب ما يبدو أنه لا يجمع من مختلف جواهر العلوم والمعارف والفنون والآداب في سلك ذهبي يبلور الجواب عن السؤال: هل يستطيع الكمبيوتر أن يضاهي الذهن البشري؟ وذلك بأسلوب يتسم بالإمتاع والطرافة، وهو بالتالي يشكّل عقداً فريداً يثير اهتمام مختلف القراء. وقارئ الكتاب يستنتج في المحصّلة، أن المؤلف لا يرى بديلاً حتى اللحظة عن الذهن البشري في ما بات يسمى الذكاء الصناعي أو العقل البديل، وأنه لا داعي لتصديق كل الأصوات - بما فيها العلمية الخبيرة - التي ظهرت منذ خمسين سنة، وحتى الآن، متحدثة عن المخاطر التي ستنفجر عن تطور الآلة لتحلّ محلّ الإنسان.. وأن تقنيات الذكاء الصناعي، تهدّد، مثلاً، مستقبل الجنس البشري. وإذا كان من السهل، بحسب د. فاخوري، على البرامج التقنية الحالية حلّ كثير من المسائل بالنسبة إلى الإنسان العادي، والتي تتطلب جهداً متواصلاً وزمناً طويلاً، حتى من الإنسان المتخصص، كالعمليات الحسابية المعقدة والاستشارات التي ترتكز على خبرات عالية؛ فبعض الأمور مثل التواصل الحقيقي والتعرّف إلى وجوه الأشخاص، التي هي من صلب الفهم البشري، تبدو في غاية الصعوبة بالنسبة إلى الكمبيوتر، هذا إن لم تكن مستحيلة عليه. لنتصور مثلاً، كائناً ذكياً من كوكب آخر، ومن حضارة أخرى لم تعرف الزيّ أصلاً، هبط فجأة على الأرض وقرأ خبراً عن الأزياء، وحضر معرضاً للأزياء، فما علّه يا ترى يفهم من هذا الخبر أو من هذا الحدث، بل إن الحاسوب «بفطرته» يبقى أشد غباء من هذا الكائن، إذ أنه لا يعرف حتى القضايا الأولية البديهية التي يعتقد أنها مغروزة في الذهن، مثل أن الشيء لا يكون في مكانين معاً في آنٍ واحد؛ وأن الجزء أصغر من الكل. فحتى يتوصل الكمبيوتر إلى فهم حقيقي شامل مشابه للفهم البشري، لا بدّ أن يستوعب سلفاً كل المعارف المشتركة التي تخوّل الإنسان أن يتدبر أموره الأساسية في هذا العالم. هذه المعارف التي يُجمع عليها الناس، والتي لا تخفى على الأولاد، يُطلق عليها اسم «الفهم العام» common sense، فالفهم العام يشتمل على القضايا الأولية والتعريفات الشائعة والأشياء المشهورة والحقائق البدهية، والأمور المبتذلة التي يفترضها كل فرد، ومع ذلك يُعتبر الإفصاح عنها ضرباً من الغباوة. من هذا القبيل مثلاً:  العصفور حيوان/&rlm الطير له ريش/&rlm يأكل الإنسان بفمه/&rlm الأنف ظاهر للعيان، بينما القلب خفي/&rlm الأمهات أكبر سناً من بناتهن/&rlm لكل فرد أم واحدة/&rlm عندما يموت الإنسان يظلّ ميّتاً/&rlm عادة لا يمشي الناس عراة/&rlm يشتري الناس المعلّبات من المتاجر/&rlm الحيوانات لا تحب العذاب/&rlm أثناء قيادة السيارة، لا حرج على السائق إن لم يلتفت إلى من يخاطبه/&rlm نصف قطعة جبنة هو جبنة، بينما نصف طاولة ليس طاولة. وكذلك تنتمي إلى «الفهم العام» المعارف المتداولة عن الطبيعة والزمان والمكان التي يكتسبها الإنسان بالخبرة اليومية، والتي يُطلق عليها علم الذكاء الصناعي اسم الفيزياء الكيفية qualitative physics، من أمثلة ذلك:  ان الأجسام تسقط للأسفل وليس للأعلى/&rlm أن الطابة إذا وقعت على الأرض، فسوف تقفز مرات عدة قبل أن تستقر/&rlm وأن القنبلة التي يقذفها المدفع في اتجاه ما، سوف تسير في هذا الاتجاه ثم تنحني رويداً وتقع على الأرض/&rlm وأنه إذا الكتاب فوق العلبة، وكانت العلبة على الطاولة، فالكتاب فوق الطاولة/&rlm وأنه إذا كان عادل في البيت، فرجلاه أيضاً في البيت. إن حقائق ما يُسمّى بـ «الفهم العام»، من وجهة نظر فيلسوفنا عادل فاخوري، تبدو من الضخامة بحيث يصعب حصرها؛ ومع ذلك لا غنى عنها لأي برنامج أو روبوت يطمح لأن يرقى إلى درجة من الفهم الشمولي الذي يتصف به كل ولد؛ إذ دون هذه الحقائق، تظلّ كل البرامج مهما تنوعت حذلقتها، وكل الأنساق الخبيرة مهما علت خبرتها، شديدة الهشاشة؛ فما أن تواجه أموراً خارج معرفتها الضيّقة، حتى تظهر حماقتها ولامعقوليتها. لا شك في أن تنظيم هذا العدد الهائل من حقائق «الفهم العام»، هو مغامرة كبرى يعتريها الكثير من الصعوبات. لذلك حاولت كل التجارب السابقة تجنبها والالتفاف عليها. لكن في سنة 1984 تجرأ دوغلاس لينت، وهو أستاذ شاب من ألمع علماء الكمبيوتر في جيله على القيام بالمغامرة، وانطلق بمشروع ضخم سمّاه «سيك» CYC اختصاراً لإنسيكلوبيديا، يعاونه فريق من الباحثين، ليس في علم الكمبيوتر فقط، ولكن في ميادين أخرى جذرية، كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا واللسانيات... إلخ. هؤلاء الباحثون لقبوا أنفسهم بالسيكليين Cyclists نسبة إلى«سيك»، أو أيضاً بالفلاسفة ذوي القبّة الزرقاء، لأنهم يعتبرون أنه لا مناص من تزويد الكمبيوتر بكل معلومات «الفهم العام» إلّا بالجهد اليدوي الشاق. يقول لينت وزميله جوهاGUHA: «ربما أصعب حقيقة يواجهها الذكاء الصناعي، بعدما حاول طيلة 34 سنة أن يشقّ طريقه بالمواربة والتملّص، هو أنه لا يوجد على الأرجح طريقة لبقة وهيّنة للحصول على هذا الأساس الهائل من المعرفة. لذلك يجب أن تتكتّل كل الجهود - أقله في البدء - لإدخال خبر وراء خبر بطريقة يدوية». مهمة مستحيلة مقطع القول، «سيك» هو المشروع الأكثر طموحاً والأكثر ضخامة والأشد صعوبة في أودية السيليكون، بل إن معظم النُظّار في الذكاء الصناعي، يعتبرون أن تكويد من code «الفهم العام» مهمة مستحيلة.. هذا نوع من الجنون، يعلّق ماك درمت، أستاذ علم الكمبيوتر في جامعة يال على طموح دوغلاس لينت: «لقد أمضى الفلاسفة سنوات طويلة في التباحث حول (الفهم العام)، وما زالوا يجهلون طريقة عمله حتى الآن. مع ذلك يدّعي لينت أن بإمكانه أن يجعل (الفهم العام) يسري في الكمبيوتر. من هؤلاء النُظّار يسخر لينت، ويتهمهم بالتشبث بالنظريات للهروب من القيام بالعمل الشاق والهائل الذي تتطلبه معالجة (الفهم العام)». «سيك»، ليس دائرة معارف بالمعنى الشائع، بل هو، كما يقول لينت، تتمة أو ملحق دائرة معارف؛ لأن «سيك» مثل جبل الجليد، يُظهر جزءاً صغيراً بمحتوى موسوعة موجزة، ولكنه يخفي تحت الماء قاعدة ضخمة من المعلومات البدهية التي لا تخفى على الأولاد والتي لا يُفصح عنها أي كتاب أو حديث. هذا المشروع الضخم والمكلّف، تمّ تمويله من قبل شركة تكنولوجيا الميكرو- إلكترونيات والكمبيوتر MCC، حتى سنة 1955، حين استقل دوغلاس لينت وأسس شركة دعيت باسم سيكورب Cycorp. خلال الأعوام العشرة الأولى جرى الإدخال اليدوي لحوالي مليون قضية أو خبر من قضايا «الفهم العام»، تشمل مختلف الأمور. وهذا العدد هو أقل من ثلث القضايا التي كان يُتوقع إدخالها يدوياً قبل أن يبدأ «سيك» مرحلة التعلّم الذاتي. انطلق السيكليون بشكل عملي جداً: أخذوا يلتقطون قصاصات من مقالات الصحف والمجلات، ومن المعلومات ومن القصص وينكبّون على تحليلها، همّهم الأول، ليس إدخال المضمون الصريح للجُمل، بل انتزاع وتكويد (Codification) الحقائق الكامنة وراء هذا المضمون، والتي يفترض الكاتب أنّ كل قارئ على علم مسبّق بها؛ إذ الناس في تواصلهم بعضهم مع بعض، يعتبرون كثيراً من الحقائق من الأمور المفروغ منها التي ينأون عن الإتيان على ذكرها. تكويد أو تشفير الجملتين الأوليين فقط: «مات نابليون في سانت هيلانة.. حزن ولنغتون»، استغرق ثلاثة أشهر من عمل الفلاسفة ذوي القبّة الزرقاء، إذ لفهم الجملتين، كان على «سيك» أن يعرف مسبقاً أن نابليون هو شخص، وأن الشخص هو عنصر من المجموعة التي يطلق عليها لينت اسم الفاعل - الفرد (Individual Agent)، وأن المصير المحتوم لكل فاعل - فرد هو الموت. أما الموت، فهو ينتمي إلى مجموعة الأحداث التي من خواصّها أن يكون لها امتداد في الزمان؛ وفي حال الموت لها امتداد غير محدود، بحيث أن من يموت، يبقى ميّتاً إلى الأبد.  كذلك كان لا بدّ له أن يفترض، بخصوص ولنغتون الذي هو بدوره فاعل - فرد، أن الحزن أو التأسّي، هو جزء من الانفعالات، التي غالباً ما يستدعيها الموت. بالإضافة إلى ذلك، كان على الفريق أن يغرز في ذهن «سيك» أنه من الممكن التأسّي، حتى على عدو لدود، على الرغم من أن الحرب قد ولّت منذ أمد بعيد. وهذا الأمر يستدعي إخباره عن الحرب وعن فرنسا وعن إنجلترا؛ وهي أمور تنتمي إلى ما يطلق عليه السيكليون اسم الفاعل - الجمعي (Collective Agent). وأيضاً إخباره عن وسائل الإعلام، إذ من الأرجح أن يكون ولنغتون قد علم بموت نابليون عبر الصحف. كذلك وجب على «سيك»، حتى يعرف ما هي سانت هيلانة، أن يكون قد كوّن فكرة موسّعة عن الجزر، وبالتالي أن يكون على علم بطبيعة الأرض والبحر والجغرافيا.. إلخ. وهكذا بدا للوهلة الأولى لدوغلاس لينت وفريقه، أن هذا التوسّع والتشعّب بالمفاهيم لن ينتهي أبداً. وأنهم لا محالة سوف يصطدمون بالعوائق الفلسفية التي أقامها بوجه العقل الصناعي هربرت درايفوس؛ فكل مفهوم كان يتطلب مفهوماً جديداً، وكل حقيقة كانت تُفضي إلى كل الحقائق، كأنما كل عالم صغير ينطوي على العالم الأكبر. لكن في أواخر عام 1987، بلغ «سيك» المرحلة التي سمّاها لينت «التقارب الدلالي»، إذ أصبح بالإمكان ردّ المفاهيم الجديدة إلى المفاهيم القديمة؛ وبالتالي أصبح إدخال المعارف على «سيك» أكثر سرعة وسهولة. وكما يأمل لينت، فإن ازدياد المعلومات بهذا الشكل المترابط سوف يؤدي إلى نمو الفهم اللغوي عند «سيك»، بحيث إنه سيصبح في النهاية قادراً على تعلّم القراءة، إذ إن التعلّم، كما يقول لينت «يجري على حافة ما سبق لك معرفته، وكلّما كنت تعرف أكثر، كنت قادراً على التعلّم أكثر».  خلافاً لسائر البرامج المعهودة التي تقتصر على مجال محدود من المعلومات، يشكل «سيك» نوعاً من الذكاء الصناعي الشامل؛ فهو يقوم على أساس هائل من المعرفة يشمل جميع الميادين. لذلك يجري تقسيم هذه المعرفة إلى نظريات فرعية عدة من أجل تسهيل عمليات التنقيب والاستدلال.  هذا غيض من فيض تنظيرات عادل فاخوري الفيلسوف والشاعر والمثقف العلمي الكبير، ليس على مستوى محلي وعربي فقط، وإنما على مستوى دولي أيضاً، وهو في كتابه: «أفكر، إذن أنا كمبيوتر»، يضاهي البروفسور الأميركي من أصل ياباني«ميتشيو كاكو» (مبدع نظرية «الأوتار الفائقة») في كتابه «ما بعد آينشتين.. كيف سيغيّر العلم مستقبلنا في القرن الـ21؟»، على حد تعبير العالم الألماني مارك ديشتاين، خاصة أن فاخوري يتقن لغات شتى، ليس بالمعنى الفيلولوجي البحت للإتقان هنا، وإنما بمعنى استيعاب ثقافات هذه اللغات في الصميم: الألمانية والإيطالية واللاتينية واليونانية القديمة وتحصيل حاصل الإنجليزية والفرنسية. عادل فاخوري الأكاديمي الذي كسر مؤسّسة الأستاذيّة الجامعية بينه وبين طلابه، واستحال هو طالباً بينهم في كثير من الأحيان، هو أيضاً ذلك المثقف الشعبي جداً والمنفتح جداً على غير المثقفين أكثر بكثير من انفتاحه على المثقفين؛ كان رجلاً يؤمن بأن الفلسفة والعلوم الإنسانية وثورات العلم الوضعي وانفجار شياطين التكنولوجيا، هي كلها من أجل حياتنا نحن البشر، فالحياة أمّنا جميعاً، كما هي أم الكوكب كلّه والكون برمته... يكفي ما قاله لي ذات يوم في باريس عبد الرحمن بدوي، فيلسوف العرب الأكبر في هذا العصر، والذي لم يكن يلفته أحد من المفكرين والمتفلسفين العرب الأحياء، مغرباً ومشرقاً: «لديكم في لبنان فتى نابغة في الفلسفة والتفكّر الفلسفي اسمه عادل فاخوري.. فانتبهوا له». قوة المشاكسة في أول مشواره الفني والإبداعي، كان عادل فاخوري يبدو لاهياً، عابثاُ، «متهكّماً» ومتحدّياً تجارب شعراء الحداثة العرب الكبار، وخصوصاً من جيلي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ومحاولاً فرض تجربته عليهم، وعلى الجميع، هكذا بقوة المشاكسة والمقارعة والتفلّسف الإبداعي الصوري المغاير. أريد أن أكون ابن عصري «نعم أنا انطلقت في تجربتي مع القصيدة الإلكترونية من سحر وحي تجارب أجدادنا العرب في الأندلس، الذين عرفوا ظواهر القصائد البصرية على أشكالها وأنواعها، وأبدعوا فيها، ولكنهم كانوا أبناء عصرهم، وأريد أنا أن أكون ابن عصري وزمني المتسارع في كل شيء» فاخوري مشروع عمره أهمية عادل فاخوري كشاعر لا تضاهيها - إن لم تكن تتجاوزها- إلّا أهميته كفيلسوف استثنائي ومتفوّق في علم المنطق والرياضيات والسيميولوجيا واللسانيات.. وكذلك كان ملماً بعلم الكومبيوتر وعالم المعلوماتية وتشعّباتها المعقدة والسريعة، قضى أكثر من عشر سنوات في تأليف كتاب كان بمثابة مشروع عمره، كما ردد ذلك أمامي أكثر من مرة، وهو كتابه الذي يحمل عنوان: «أفكر إذن أنا كومبيوتر»، والذي صدر في طبعته الأولى في بيروت في عام 2010.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©