الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نيتشة: اكتب بدَمكَ تعلم أن الدمّ روح

نيتشة: اكتب بدَمكَ تعلم أن الدمّ روح
12 يوليو 2017 19:46
هذا عمل فكري وأدبي ترك منذ كتابته أثرا كبيرا في البشرية سواء اتفقنا معه أو اختلفنا حوله. يقول صاحب الكتاب عن كتابه: «من بين كل كتاباتي فإن كتاب (هكذا تكلم زرادشت)، يحتل مكانة خاصة، فإنني به قد أعطيت رفاقي أعظم هدية قد جرى إسباغها عليهم، وهذا الكتاب الذي يدوي صوته عبر العصور ليس هو أرق كتاب في العالم وحسب، بل هو الكتاب الحق لهواء الجبال. إنه الكتاب الأعمق المتولد من الامتلاء الأقصى بالحقيقة، إنه بئر لا ينضب ماؤه، والذي ما من غطاس يغطس فيه إلا ويرتفع ثانية وهو محلى بالذهب والخير». مؤلف الكتاب «فريدريك ينتشه» (1844 - 1990) فيلسوف ألماني، ناقد ثقافي، شاعر لغوي، باحث في اللاتينية واليونانية، وقد كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث، ومن ابرز الممهدين لعلم النفس، كما كان عالم لغويات متميزا. النسخة التي بين أيدينا من الكتاب والصادرة عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، هي طبعة جديدة لأول ترجمة من اللغة الألمانية إلى العربية عام 1938 علي يد المترجم اللبناني القدير «فليكس فارس»، وهي ترجمة راعى فيها وباقتدار شديد طريقة نيتشه في التعبير الذي يأتي على شكل «ومضة» والذي يأتي أحيانا أخرى في جملة ليس لها فعل، وأحيانا في جملة ليس لها فاعل، على غرار قولنا: «يا للهول» فلا نعرف طبيعة هذا الهول، ولا نعرف الهول ممن ومن ماذا. سرّ الكتاب يعن لنا أن نتساءل: ما الذي كان «نيتشه» يسعى إليه في كتابه هذا؟ يبدو جليا أن المترجم وضح تماما هذا الغرض فـ «نيتشه» يريد خلق الإنسان المتفوق الجبار كشمشون والشاعر كداود والحكيم كسليمان، وقد أبرز المترجم أن «محور الدائرة» في فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوق على الإنسانية، كما أن «فليكس فارس»، توقف عند جملة ربما تعد أعظم ما كتبه الفيلسوف الألماني «إنني لم أجد المرأة التي تصلح أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها». يصف عضو المجمع العلمي الفرنسي «إميل فاكيه» نيتشه، بأنه مفكر لم يتجاوزه أحد من مفكري عصره إخلاصا في سبر الأغوار بحثا عن الحقيقة، دون أن يبالي بما يعترضه من مصاعب لأنه ما كان ليرتاع من اصطدامه بالفجائع في قراءتها أو من انتهائه إلى لا شيء. إن نيتشه المفكر الجبار في هذا الكتاب يفتح أمام الفرد آفاقا واسعة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة، والذل، تائقا إلى إيجاد إنسان يتفوق علي إنسانيته بالمجاهدة والتغلب علي العناصر والعادات والتقاليد وما توارثته الأجيال من العقائد الموهنة للعزم. يختلف البشر حول «نيتشه» وهل هو مفكر متجاوز لما عرفته البشرية من تقاليد وآداب وأفكار أخلاقية أم أنه باحث عن جوهر الإنسان الحقيقي، القادر على استدعاء قواه الإنسانية غير المستغلة والمعطوبة بالفعل البشري غير الخلاق. إن نيتشه يقف وقفة الحائر المتردد عندما يحاول إقامة مجتمع لأفراده المتفوقين، بل هو يضطر إلى نقض أولياته القائمة على احتقار الرحمة حيث ينتهي إلى قوله:» إن العالم الذي يتفوق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأصاغر والمتَّضعين». وهكذا ترى زرادشت الداعي إلى تحطيم الواح الوصايا جميعها وإلى إنكار الشريعة الأدبية لإقامة شرعة جديدة ما وراء الخير والشر يعود مفتشا بين أنقاض الألواح التي حطمها على كلمات قديمة يجعلها دستورا لإنسانيته المتفوقة. إن نيتشه الذي ذهب إلى أبعد مدى في تفحص سرائر الإنسان وأهوائه يضيق به المجال عندما يتجه إلى حل المعضلات الاجتماعية، لأنه إذا ما أمكن للفرد المنعزل أن يختط لنفسه منهجا يوافق هواه باعتقاده أنه هو المبدع لذاته والحركة الأولى لها، فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضوا حيا في المجموع إذا هو لم يعترف في علاقته مع أخوته بأنه ليس مصدرا لذاته. مشاغبات عقلية يقع كتاب «هكذا تكلم زرادشت» في نحو ثلاثمئة صفحة من القطع الكبير، مقسم إلى أربعة أجزاء، وكل جزء يحتوي على قراءات فكرية، ومشاغبات عقلانية مثيرة. خذ ما يقوله عن «القراءة والكتابة» على سبيل المثال: «إنني استعرض جميع ما كتب، فلا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه، أكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح، وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دما غريبا. إنني أبغض كل قارئ كسول لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وبعد مرور قرن آخر على طغمة القارئين لابد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير. ويضيف: «إذا أعطي لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمان فحسب، بل إن الفكر نفسه سيفسد أيضا. لقد كان الفكر فيما مضى إلهاً فتحول إلى رجل، وها هو ذا الآن كتلة من الغوغاء. إن من يكتب سوَرا بدمه لا يريد أن تتلى تلك السّوَر تلاوة، بل يريد أن تستظهرها القلوب». يسعى «نيتشه» في واقعه الحياتي وعالمه الفكري إلى العظمة وإلى تقديس الفكر، ذلك أن أقرب الطرق بين الجبال إنما هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة، غير أنه لا يمكنك أن تتبع هذا السبيل إذا لم تكن لك رِجْلا مارد. يجب أن تكون التعاليم شامخة كهذه الذرى، وأن يكون لمن تلقن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم. يعتبر العسكريون حول العالم أن «نيتشه» صاحب رؤية استراتيجية، فيما خص الحروب والمحاربين، ذلك أنه يوصي في كتابه قائلا:» لتكن أنظاركم منطلقة، تفتش لكم على عدو، وقد لاحت في لمعاتها بوادر البغضاء. عليكم أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربا تناضلون فيها من أجل أفكارهم، حتى إذا سقطت هذه الأفكار في المعترك، ينتصب إخلاصكم هاتفا بالظفر. أحبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب، وخير السلام ما قصرت مدته، إنني لا أشير عليكم بالسلم، بل بالظفر، فليكن عملكم كفاحا وليكن سلمكم ظفراً. لا اطمئنان في الراحة، إذا لم تكن السهام مسددة على أقواسها. وما راحة الأعزل إلا مدعاة للثرثرة والجدال. فليكن سلمكم ظفراً. تقولون إن الغاية المثلى تبرر الحرب، أما أنا فأقول لكم إن الحرب المثلى تبرر كل غاية، فقد أتت الحروب والإِقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس، وما أنقذ الضحايا حتى الآن إلا إقدامكم لا إشفاقكم». ألهذا يعتبر العديد من كبار المثقفين الأوروبيين أن أفكار نيتشه كانت وراء ظهور الفاشية والنازية في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين؟ إن قلب الدائرة الفلسفية عند «نيتشه» إنما هو إيجاد إنسان يتفوق على الإنسانية؛ لذلك تراه يهزأ بكل من عدَّه التاريخ عظيما بين الناس قائلا إن الجيل الذي يلد العظماء لم يولد بعد، وإنه لا رجل في هذا الزمان يمكنه أن يتفوق على ذاته، وكل ما بوسع الناس أن يفعلوه في سبيل المثال الأعلى هو أن يتشوقوا إليه ليخرج من سلالاتهم في مستقبل الأزمان. ويرى قارئ الكتاب ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقين في هذه الحقبة الشاملة لعصره ولعصرنا، فهو يعتبرهم نماذج فاشلة للإنسان الذي يتوقع نشوءه، غير أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة الآمر الناهي يرسم للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت حروفا منتثرة لا معنى لها. لا يقول لنا نيتشه بصراحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدودا لأحفاد تصلح بهم الحياة، ولكن من يعوّد بصيرته على مجاراة نيتشه في الاراء التي يهيم فيها يستوقفه قوله: «إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائنا يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل». ثم قوله:» إنني لم أجد أمرأة تصلح أما لابنائي إلا المرأة التي أحبها». فإذا ما وقف المفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة للإنسان للتفوق على ذاته وأنساله. وما تكون الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجتذب الزوجين إلى اتصال يشدّ أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر. هل كانت الالام والأوجاع التي عاشها «نيتشه» هي السبب المباشر وراء كتاباته وفي مقدمتها هذا العمل الذي نحن بصدده؟ الشاهد أنه ليس في حياة هذا الفيلسوف الألماني القصيرة المليئة بالالام من الحوادث ما يستحق التدوين غير المراحل التي مر عليها تفكيره فتأثر بها، وهل نيتشه إلا فكرة وهل حياته إلا وقائع ميادينها السطور والصفحات؟ فلسفة القوة  كان فردريك نيتشه، مجسم القوة المفكرة التي دارت بها النائبات وحاصرتها الأوجاع، وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهب في ذلك العهد في ألمانيا وفي أوروبا بأسرها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وتهز المجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام الإنسان غاية لحياته. فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعا ناشرة في أوروبا مزيجا من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود والإرادة الحرة، فقال شوبنهور إن روح الوجود قوة طائشه عمياء أدركت نفسها في عقل الإنسان وشعوره، فوجم حائرا وفي نفسه ظمأ في صحراء لاماء فيها غير وهج السراب، ولم يجد هذا الفيلسوف من علاج لهذه العلة غير التمرد على الحياة نفسها بترك ملذاتها والاتجاه إلى الزهد، وانتظار العناء في ما يشبه النيرفانا وهي القوة التي تتلاشى كل شخصيته فيها. يرى «فليكس فارس» أن نيتشه قد فاق كل ما كتب في تصويره واجب الإنسان نحو الحياة الدنيا لأن العلماء الماديين من جهة اعتبروا الحياة زائلة فما اهتموا لرقي الإنسان الأدبي قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيلائه التنعم الأوفر بالجهد الأقل، لأن المفكرين المؤمنين، من جهة أخرى، ما كان بوسعهم أن يفكروا للأرض ويحصروا كل جهد فيها كأنها دار قرار لأن العمل للأرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف إيمانهم، أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السماء، وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه الأرض - كما يقول - جاعلا هذا التراب وطن الإنسان الدائم، لم يسعه إلا توجيه كل قواه لتصور إنسانية تتمتع بكل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من الرقي مرتبة أقرب إلى الألوهية. لم تغب روح الأبدية عن فكر «نيتشه» فقد داعبته وشغلته، ويبدو أن طفولته في بيت رجل دين وواعظ تركت أثرا بالغ القوة، مهما حاول أن ينكره ففي مقدمة الجزء الثالث نراه ينشد ما يسميه «نشيد البداية والنهاية، الألف والباء، وهو في واقع الحال اقتباس واضح جدا من آخر أسفار التوارة... سفر الرؤيا». لكن الغالب أن أقدامه تاهت في الطريق فغلب إلحاده إيمانه، فنيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصرية، وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد رأى أن التكامل لنوال عطف الألوهية الراسخة في الأذهان والتخلص من عقابها الصارم يقتضي الإعراض عن الزائلات والاستكانة إلى السلطة واعتبار العاطفة الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة الأصلية؛ فثار على هذه الألوهية المزيفة التي ما عرفها الشرق في أي دور من أدوار وحيه. هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت وهو في تقديرنا، إذا نحن استنرنا بالدين الحق، كما تدركه ذهنيتنا السامية، جحود يتجه إلى غير الإله الواحد الأحد رب الناس أجمعين. أحبّك أيتها الأبديَّة لم تغب روح الأبدية عن فكر «نيتشه» فقد داعبته وشغلته، ويبدو أن طفولته في بيت رجل دين وواعظ تركت أثراً بالغ القوة، مهما حاول أن ينكره ففي مقدمة الجزء الثالث نراه ينشد ما يسميه «نشيد البداية والنهاية، الألف والباء، وهو في واقع الحال اقتباس واضح جداً من آخر أسفار التوراة... سفر الرؤيا». يناجي «نيتشه» الكون بقوله :» أنا العراف الممتلئ بالروح الكاشفة الذاهب صعداً علي السلة المتعالية بين بحرين، السائر بين ما مضى وما سيأتي كغمامة كثيفة متملصة من جميع الأعماق الحانقة والمعادية لكل متعب ليس له أن يحيا وليس له أن يموت.. كيف لا أحن إلى الأبدية، وكيف لا أضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج.. إلى دائرة الدوائر، حيث يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء.. إنني أحبك أيتها الأبدية». الضعف سرّ الافتتان بالقوّة ولد هذا العبقري الثائر سنه 1844 في بلدة روكن من أعمال ألمانيا وكان أبوه واعظا بروتستانتيا من أسرة بولونية هجرت بلادها في القرن الثامن عشر على إثر اضطهاد شرد منها أشياع كنيسة الإصلاح. وما أن بلغ فردريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه فكفلت أمه تربيته وتربية أخته فأرسلته إلى مدرسة «نوميورغ» ثم انتقل منها سنة 1864 إلى كليتي «بون وليبسيك» حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره سنه 1869 تجلى نبوغه فعين أستاذا للفلسفة في كلية بال. بعد سبع سنوات أي في سنة 1876 ظهرت عليه أعراض «الزهري الوراثي» فحكمه صداع شديد أضعف بصره فبقي يلقي الدروس حتى سنة 1879 إذ اضطر إلى الاستعفاء ليذهب متنقلاً بين روما وجنوا ونيس وسيل ماريا، وهو يعمل الفكر ويكتب مصارعا علته عشر سنوات، فلا هو يبرأ منها فيحيا، ولا هي تجتاح دماغه الجبار فيموت إلى أن جاءته سنة 1889 بالفالج مقدمة للجنون، فتوارى سنه 1900 بعد أن سبقته إلى الموت عبقريته العليلة، وإرادته الوثابة الجبارة. ضد العطب البشري يختلف البشر حول «نيتشه» وهل هو مفكر متجاوز لما عرفته البشرية من تقاليد وآداب وأفكار أخلاقية أم أنه باحث عن جوهر الإنسان الحقيقي، القادر على استدعاء قواه الإنسانية غير المستغلة والمعطوبة بالفعل البشري غير الخلاق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©