الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إلفين توفلر.. البشرية إلى «موجة ثوريَّة ثالثة»!

إلفين توفلر.. البشرية إلى «موجة ثوريَّة ثالثة»!
31 أغسطس 2016 19:35
إميل أمين قبل أن تغرب شمس شهر يونيو حزيران الماضي، غيبت يد المنون أحد أشهر علماء المستقبليات (Futurology) الأميركي «إلفين توفلر» عن عمر يناهز السابعة والثمانين، بعد حياة طويلة مثمرة، لا على الصعيد الأميركي فحسب، وإنما على الصعيد العالمي، سيما وأن كتاباته ورؤاه المستقبلية، قد تجاوزت الحدود الجغرافية لبلاده، وبخاصة كتابيه «صدمة المستقبل» و«الموجة الثالثة»، عطفاً على العديد من الكتب الأخرى. باكراً جداً، أي في منتصف ستينيات القرن المنصرم، استخدم توفلر تعبير «صدمة المستقبل» في مقال كتبه في مجلة «هورايزن» تنبأ فيه بالتغيرات الجذرية التى ستطرأ على شكل الحياة البشرية، والاتجاهات المستقبلية، وبعدها بخمسة أعوام كان الرجل يبلور مقاله الذي وجد أصداء واسعة في كتاب يفصل فيه تفصيلاً أفكاره وقراءته التي تحقق الكثير منها بالفعل حتى الساعة. بدأ «توفلر» كعالم اجتماع أميركي غير اعتيادي في النظر إلى أبعاد الثورة المعرفية والتكنولوجية والتي كانت بشائرها قد بدأت تهل على العالم، باعتبارها تغييراً جذرياً سيؤدي إلى نسق حياتي مغاير لما عرفته الإنسانية عبر تاريخها الطويل. ورغم أهمية كتاباته المتعددة فإن الانقلاب الحقيقي الذي أحدثه الرجل حول العالم تمثل في كتابه الذي صدر عام 1980 تحت عنوان (الموجة الثالثة - Third Wave). ما الذي يقصده توفلر بهذا المصطلح المثير؟ يرى «توفلر» أنه منذ بدء الخليقة حتى الآن، عرفت الإنسانية موجتين كبيرتين من التغيير، كل منهما ألغت إلى حد كبير، ثقافات ومدنيات سابقة، وأحلت محلها صورَ حياةٍ لم تكن تدركها الأجيال القديمة. أما الموجة الأولى، أي الثورات الزراعية، فقد امتدت آلاف السنين، وأما الموجة الثانية، التي تعني انطلاق الحضارة الصناعية، فقد اقتضت نحو ثلاثمئة سنة، وكانت كافية. ونظراً لتسارع خطوات التاريخ، اليوم، فمن المرجح أن تقوم «الموجة الثالثة» وتصبح واقعاً مقرراً، خلال عدة عشرات من السنين، وعلى ذلك فإن الذين سيكونون على هذا الكوكب في مثل هذه اللحظة الحرجة، سيعيشون ويشهدون صدمة الحضارة الثالثة. صورة مخيفة يرسم توفلر منذ أوائل الثمانينيات صورة غريبة أحياناً، مخيفة في أحيان أخرى عن عالم الغد، وحضارة المستقبل، إنها حضارة ناتجة عن الموجة الثالثة، الحياة فيها تتجدد بأصالة وتستند إلى موارد متنوعة من الطاقة، قابلة للتجدد، وطرق إنتاج تستبدل بأكثر سلاسل التصنيع المعهودة في المصانع الحالية نموذجاً جديداً للصناعة، وصورة من الحياة العائلية تتميز بعلاقات أكثر رخاوة (أو حرية)، وبمؤسسة لم يرها أحد من قبل يمكن أن نسميها باسم «البيت الإلكتروني» وصورة من التربية طريفة جذرياً. إن الحضارة الجديدة الناشئة عن «الموجة الثالثة» تقدم صيغة جديدة للسلوك، تدفعنا بعيداً عن طريق الإنتاج الموحد، ونوعاً من التزامن والمركزية، وإن شئت قل التمركز، يتخطى بدرجة كبيرة ما نسميه تكثيف الطاقة والمال والسلطة. وباختصار غير مخل، تملك هذه الحضارة الجديدة، مفاهيمها الخاصة، في الزمان والمكان، والمنطق والسببية، وكذلك تملك مبادئها الخاصة فيما يتصل بسياسة الغد. لماذا ينظرون إلى «توفلر» في الغرب عموماً، وليس في أميركا فحسب، نظرة ملؤها التقديس والإعجاب الفائقين؟ الجواب يسير، ذلك أن هذا «التروتسكي» قد رأى، مثل زرقاء اليمامة، مستقبل الاشتراكية وكيف أنها لابد وأن تصطدم بآليات وفاعليات حضارة الموجة الثالثة، وكان بالفعل أول من تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه بعقد من الزمان، وقدم دلائل علمية وذكية تؤيد تصوراته وتدعم بقوة احتمال انهيار وشيك. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف رأى الرجل حتمية انهيار الاشتراكية كمنطلق رئيس للشيوعية العالمية؟ في تقديره؛ فإن انتهاء الاشتراكية في الشرق أو زوالها، لم يكن أمراً من قبيل المصادفة، إذ دخلت الاشتراكية في مرحلة الاصطدام بالمستقبل، ولم تسقط الأنظمة الاشتراكية بفعل المؤامرات التي حاكتها الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، أو بسبب محاصرة رأسمالية، ولا بسبب اختناق اقتصادي أعد من الخارج. ثم إن حكومات أوروبا الشيوعية في الشرق، تخلت عن مبادئ نظرية الأقنعة منذ أن أعلنت موسكو أنها لن ترسل بعد الآن كتائب عسكرية لحمايتها من شعوبها، غير أن أزمة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي والصين وأماكن أخرى، تقول إن هذه الأزمة قضت على الاشتراكية من حيث هي نظام بفعل عوامل أكثر عمقاً. ركز «توفلر» على الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، وقد ذهب إلى أنه بعد نحو ربع قرن من انهيار الاتحاد السوفيتي فإنه على العالم أن ينتظر انهيار الولايات المتحدة الأميركية نفسها وتفككها إلى ولايات مستقلة.. لماذا؟ ربما يتعين علينا قراءة رؤية توفلر لأميركا بشكل خاص في زمن الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ تقودنا إلى فهم عميق للإشكاليات التي تواجهها واشنطن مؤخراً. يقول «توفلر» إن قائمة المشكلات التي تجابه مجتمعنا لا نهاية لها، ونحن نعاني من التفسخ الأخلاقي لحضارة صناعية شبه ميتة، نرى فيها مؤسسات تنهار واحدة بعد أخرى بسبب الطبقية والفساد المتشابكين تشابكاً عنيفاً، وهكذا فإن الجو العام يميل إلى الجفاف والمطالبة بتغيرات سياسية. ويستدرك «توفلر»: كان لدينا رد على كل هذا البؤس؛ آلاف من الاقتراحات التي تحسب كلها أنها أساسية، بل وثورية أيضاً. ولكن يبقى أولاً وأخيراً أن القواعد والقوانين والتنظيمات الجديدة، والخطط والممارسات التي يقدر أنها ستحل مشاكل أميركا تحمل في طياتها باستمرار آثار ردود الفعل المتبادلة، ولا تؤدي إلى زيادة خطورة الأوضاع، فضلاً عن أنها تغذي الشعور بالعجز، وتقدم الانطباع بأنه ما من شيء سليم في حياتنا. تستلفت الانتباه رؤية «توفلر» للحياة السياسية الأميركية وكيف أنها باتت معركة دائمة بين «سيافي حزبين سياسيين»، غير أن الأميركيين يصبحون أكثر انزعاجاً، يعضهم الإرهاق بأنيابه، ويتضايقون من الصحافة والساسة معاً، أما السياسة المنحازة، فإنها تبدو لأكثرية الناس مسرح ظلال غير نزيه، ومكلفاً ومفعماً بالفساد. بل إن هؤلاء الأميركيين يتساءلون: «أحقاً يملك اسم الظافر أهمية ما؟»، والظافر هنا بالطبع هو من يظفر بالانتخابات ويتولى الحكم. قراءة «توفلر» تفك لنا شيفرات الصراع الدائر بين مرشحين، جمهوري لا دالة للعمل السياسي أو الحنكة الدبلوماسية عليه: فترامب ليس أكثر من رجل عقارات، وهيلاري إحدى أشهر مئة محام في الداخل الأميركي، لكن علامات الاستفهامات القضائية من حولها عديدة، سياسياً ومالياً وإجرائياً، الأمر الذي يقدم لنا رؤية استشرافية عن مزاجية الناخب الأميركي، وكيف أنه بات غير مكترث بالمشهد السياسي الأميركي الداخلي، وربما تحدث المفاجأة التي لا ينتظرها أحد، ونشهد ترامب سيداً للبيت الأبيض. مصير الإمبراطورية الأميركية هل تزعج تنبؤات «توفلر» الأميركيين بالفعل؟ الإجابة نعم، فالمفكر الأميركي الراحل يسوق في إطار نظرياته المستقبلية احتمالات عدة لسيناريوهات تفكك وانهيار الولايات المتحدة الأميركية، وفي مقدمتها الصراع العرقي وثورة الأميركيين الأفارقة على نحو خاص، وهو ما نراه بشكل واضح في الأعوام الأخيرة، عطفاً على مطالبة بعض الولايات الكبرى مثل تكساس بالانفصال عن الاتحاد الفيدرالي، وهي رؤية لا تختلف كثيراً عن ما رآه من قبل بول كيندي في تنظيره لنهاية زمن الامبراطورية الأميركية. يوجه «توفلر» انتباه العالم إلى ازدواجية الحياة السياسية الأميركية، تلك التي تحمل شعارات من أجل دمقرطة العالم، في حين يرى في رسالة مجازية كتبها إلى الآباء المؤسسين أن الديمقراطية الأميركية الحالية منقوصة، وأن واشنطن ليست «امرأة قيصر»، أي المرأة التي لا تخطئ. في رسالته يطالب «توفلر» الآباء الأميركيين بأن يتفهموا الحاجة الماسة إلى تغييرات، ليس سببها اقتطاعات واضحة في الموازنة الفيدرالية، أو لإبراز هذا المبدأ المحدود أو ذاك، ولكن من أجل توسعة مجال إعلان الحقوق، مع الأخذ بعين الاعتبار تهديدات كانت خارج دائرة التصور. وكانت سيئة تثقل كاهل الحرية. ومن أجل خلق بنية جديدة لحكومة قادرة على اتخاذ قرارات ذكية وديمقراطية لا يستغنى عنها...«إذا أردنا البقاء على قيد الحياة في أميركا... أميركا الموجة الثالثة.. أميركا القرن الواحد والعشرين». تسليع الإنسان أما عن المعرفة، والنقيض منها، أي الجهل أو الأمية، فإن توفلر لا يصف الشخص الأمي في القرن الحادي والعشرين بوصفه ذاك الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الأمي في القرن الحالي هو الذي ليست لديه قابلية تعلم الشيء، ثم مسح ما تعلمه ثم تعلمه مرة أخرى. فيما الإنسان يبقى تحدياً حقيقياً بالنسبة له، ذلك أن الرأسمالية المتوحشة، والسوق الحرة، واتفاقيات التجارة الدولية والمؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى، جميعها جعلت من الإنسان «سلعة» تباع وتشترى، ولذا يصح أن يقال إننا نحيا في زمن «تسليع الإنسان»، ولهذا السبب يحثنا توفلر على قيام مجتمع يهتم بالمسنين وكبار السن على نحو خاص، وهذه معضلة تواجه دول الغرب بصورة خاصة، فمع تقدم فنون مداواة جراحات البشر وآلامهم الجسدية، وكذا التحدي والتغلب على الأمراض المستعصية والخطيرة، ارتفع معدل عمر الإنسان في أوروبا وأميركا، إلى الحد الذي بات معه المسنون مشكلة في التعاطي معهم والاهتمام بهم بوصفهم قيمة حقيقية، لا عالة على أبنائهم ومجتمعاتهم. وقد يبدو غريباً على منظر اجتماعي واستشرافي أميركي أن يتحدث عن مجتمع أفراده رحماء فيما بينهم وصادقون مع بعضهم، يحتاج لأشخاص يعملون في المستشفيات، مجتمع يرأف بالمرضى والمطحونين والمهمشين، والذين ليس لهم أحد يذكرهم، وهي لغة رجل دين أكثر من كونها لغة عالم اجتماع، وإن كان ذلك يدل على شيء فإنه يدل على أثر رؤيته المستقبلية للحضارة القادمة، والموجة الثالثة التى تحدق بنا، هي كل لا يتجزأ، فيها الإنساني والروحاني، بقدر ما فيها من الاقتصادي والاجتماعي، السياسي والعسكري، إنه مجتمع يحتاج إلى كل أنواع المهارات والمعارف التي لا تكتفي بكونها مهارات فنية لا غير، بل إن يكون حاملو هذه المهارات والفنيات بشراً يتمتعون بعواطف ووجدان، لا تستطيع إعمار المجتمع بالأوراق والكمبيوتر وحدهما. الحديث عن «إلفين توفلر» ومناقشة أفكاره في حاجة إلى مؤلفات قائمه بذاتها، فهو يضع البشرية أمام استحقاق تاريخي في العقود الأخيرة، ذلك أنه إذا كانت هناك أجيال قدرها أن تخلق، وأن تبدع حضارة، وأخرى قدرها أن تبقي على هذه الحضارة، فإنه في اللحظة الحاضرة تكاد تكون الخليقة بأكملها من أقصاها إلى أدناها، وفي كل المجالات الحياتية، سواء تعلق الأمر بالأسرة، أو بالمدرسة، أو بشركة ما، أو بالدين، أو بأنظمة الطاقة، أو بشبكات الاتصال، نجد أنفسنا، نحن أيضاً، أمام ضرورة خلق أشكال ملائمة جديدة للموجة الثالثة، والبداية مسيرة إنسانية حضارية عنوانها: «الإنسان هو القضية... الإنسان هو الحل». بصمة «توفلر» لم يترك «توفلر» بصمته الواضحة على الأمريكيين فحسب، فالذين تأثروا به وبكتاباته كثيرون، لاسيما عندما تحدث عن الاقتصاد العالمي الجديد القائم على المعرفة، والذي سيحمل الاقتصاد الرأسمالي الصناعي الآتي، ومن أمثال هؤلاء: الزعيم السوفيتي «ميخائيل غورباتشوف»، والأمين العام للحزب الشيوعي الصيني تشاو جيانغ، والثري المكسيكي من أصل لبناني «كارلوس سليم»، إضافة إلى الرئيس الهندي الأسبق أبو بكر زين العابدين عبد الكلام، ورئيس ماليزيا السابق مهاتير محمد. الإنسان والمعرفة ضمن كتابات «توفلر» الغنية بالمعاني والمباني، نجد أيضا كتاب «إعادة التفكير في المستقبل»، وفيه يتناول الكثير من القضايا الإنسانية، التي تحملها الموجة الثورية الثالثة، ويركز بنوع خاص على علاقة الإنسان بالمعرفة. وعلاقة الإنسان بالإنسان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©