الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النفط.. حكاية منسية

النفط.. حكاية منسية
24 ديسمبر 2009 00:32
السؤال الأول الذي طرحته عندما بدأت تقديم برنامجي “الذهب الأسود” عام 1971 هو: ـ لماذا تأخر اكتشاف النفط في أبوظبي حتى عام 1958 وتأخر الإنتاج حتى عام 1962؟ عدت إلى سجلات الشركات، وبحثت في الأرشيف، وقرأت بعض ما كتبه معالي الدكتور مانع العتيبة الذي كان أول مسؤول عن الإدارة الوطنية للنفط في الإمارات لأجد أن أعمال التنقيب عن النفط في أبوظبي بدأت في الحادي عشر من يناير 1939، عندما استطاعت شركة تطوير الساحل المتهادن أن تحصل على امتياز مدته خمسة وسبعون عاما يشمل جميع مناطق أبوظبي البرية. خليل عيلبوني عندما قامت الحرب العالمية الثانية توقفت الشركة عن أعمال التنقيب التي لم تزد عن أعمال المسح لتحديد المناطق التي يمكن أن تكون حقولا بترولية، وفي مثل هذه المناطق عادة يمكن للشركة أن تبدأ عمليات الحفر. البئر الأولى وأول عملية حفر قامت بها تلك الشركة كانت في منطقة رأس الصدر في أبوظبي، شرق أبوظبي وذلك في عام 1947. ومن خلال استقراء الوثائق والسجلات لهذه الشركة التي ما هي إلا شركة نفط أبوظبي المحدودة (A.D.P.C) والتي أعطيت امتيازا شمل جميع أراضي إمارة أبوظبي نجد أن نتيجة الحفر لهذه البئر كانت إيجابية. بكلمة أوضح، لقد تم العثور على النفط في بئر رأس الصدر رقم 1، وبكميات تجارية وعلى عمق 14500 قدم. فلماذا بدلا من الإعلان عن الاكتشاف الهام اتخذت الشركة قرارا غريبا وحتى اليوم لا أجد له مبررا منطقيا؟ قررت الشركة إغلاق البئر، وسده بالإسمنت وترك المنطقة كلها والانتقال إلى منطقة أخرى. المبرر الذي قدمته الشركة في ذلك الوقت كان ما يلي: ـ المنطقة، منطقة البئر المحفورة هي منطقة صخرية صلبة، وحفر المزيد من الآبار في تلك المنطقة سيكون مرتفع التكلفة، ولذلك فإنه لا جدوى اقتصادية ترجى من استمرار الحفر والأفضل البحث عن مناطق أخرى. الرجل الذي كان يمثل الشركة المالكة لامتياز المناطق البرية في أبوظبي لا يزال على قيد الحياة، وهو صديق حميم لي ولكثير من المسؤولين في إمارة أبوظبي، واسم الرجل ديفيد هيرد. ديفيد هيرد موسوعة تاريخية، ويعرف تاريخ أبوظبي البترولي ولديه مشروع كتاب يتناول السيرة الذاتية لمعظم الرجال الذين كان لهم دور في مسيرة هذا الوطن. ورغم ثقل السنوات التي يحملها فإنني لا أزال أجده في مجالس الشيوخ، يتكلم باللغة العربية أحيانا ولا يجد صعوبة في التحدث باللغة الإنجليزية مع الجميع. ديفيد هيرد، رجل من ذلك الزمن الأول، من أولئك الذين أسسوا شركة نفط أبوظبي المحدودة للمناطق البرية، وهو بالفعل مستحق للاحترام الذي يجده لدى كل من يزوره ويحضر في مجلسه. وقد سألت ديفيد هيرد، لماذا قامت الشركة في نهاية الأربعينات بسد بئر رأس الصدر رقم واحد بالإسمنت، بدلا من الإعلان عن اكتشاف النفط. ابتسم ديفيد وقال: ـ الحكم على الماضي بمقاييس الحاضر فيه كثير من الإجحاف، الإمكانيات اليوم غير الإمكانيات أمس، لقد تطورت التكنولوجيا كثيرا، ومن الطبيعي أن تقرر الشركة إغلاق البئر والانتقال إلى أماكن أخرى عندما تجد أن الصعوبات المتوقعة تفوق الفوائد المرجوة وهذه ليست المرة الوحيدة التي تفعل فيها الشركة ذلك، بل إن هذا حدث عندما قامت الشركة بحفر بئر باب رقم 1، فرغم اكتشاف النفط فيه، إلا أنها توقفت ولم تكمل الحفر، وانتقلت إلى موقع آخر. ثم عادت إلى حقل باب والذي كان أول حقل يعلن عن اكتشاف النفط فيه في المناطق البرية. من خلال هذه الوقائع، ندرك أن البحث عن النفط في أبوظبي لم يبدأ عمليا إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأن عمليات البحث الجاد استمرت من عام 1947 حتى عام 1958. ورغم أن اكتشاف النفط لأول مرة كان في المناطق البرية إلا أن الشحنة الأولى التي صدرت من البترول كانت من المناطق البحرية التابعة لشركة مناطق أبوظبي البحرية المحدودة (أدما). تم تكوين هذه الشركة في عام 1953 وحصلت على منطقة امتياز شملت جميع مناطق أبوظبي البحرية. وكان من السهل عليها تصدير الشحنة الأولى من النفط قبل الشركة العاملة في المناطق البرية رغم أنها اكتشفت النفط بعدها بسنتين على الأقل وذلك لوجود حقولها في البحر حيث يسهل بناء منصات الإنتاج والتصدير من الحقل مباشرة إلى الناقلات التي ترسو بالقرب من تلك المنصات ومن خلال القاعدة التي أقامت فيها منشآت الإنتاج والتصدير في جزيرة داس القريبة من تلك المنصات. قرار الشيخ زايد أعود إلى السؤال الذي طرحته منذ عام 1971، العام الذي بدأت فيه العمل في المسيرة الإعلامية البترولية: لماذا تأخر الإنتاج البترولي من إمارة أبوظبي إلى عام 1962؟ حتى بعد اكتشاف النفط عام 1958 تأخر التصدير حتى عام 1962 من البحر وعام 1963 من البر. وأستطيع الآن أن أجيب عن هذا التساؤل بكل بساطة بعد معايشتي للأحداث لأكثر من ثلاثين عاما. كانت الشركات العاملة في أبوظبي منذ الاتفاقية الأولى عام 1939 جزءا من شركات كبرى أخرى عاملة في مناطق أخرى من العالم، وكان هناك ما يشبه المنظمة أو التجمع المصلحي لهذه الشركات، مثل كارتل الأخوات السبع المعروف، وهذا الكارتل كان يتحكم بالإنتاج والأسعار، وهو الذي يقرر كم ينتج من هذه المنطقة وكم ينتج من تلك حسب مصالحه وحسب برنامجه، ورغم إدراك الشركة التي عملت في مناطق أبوظبي لأول مرة لوجود البترول بكميات كبيرة فيها إلا أنها تمهلت وأرادت أن تجعل منها مجرد خزان احتياطي تنتج منه في الوقت الذي تشاء وبالكمية التي تحتاجها هي. ولقد تنبه المغفور له الشيخ زايد لهذا الأمر حتى قبل أن يتقلد زمام الأمور ويتولى مسؤولية الحكم في أبوظبي في أغسطس 1966. ولذلك كان أهم ما فعله بعد تسلمه للسلطة هو العمل على تسريع عمليات الاستكشاف والإنتاج للاستفادة من عائدات الثروة البترولية في بناء دولة الإمارات العربية المتحدة. وهذا ما يفسر بشكل واضح وجلي كيف تطور الإنتاج خلال سنوات قليلة من أقل من ثلاثمائة ألف برميل في اليوم إلى حوالي ثلاثة ملايين برميل يوميا. لقد تأخر اكتشاف النفط وإنتاجه في دولة الإمارات ولكنه كان بعد أن تسلم المغفور له الشيخ زايد مقاليد الحكم في البلاد المركبة التي أوصلتنا إلى بناء دولة عظيمة بسرعة غير مسبوقة لدى أي شعب من شعوب العالم، ولقد شهدت ذلك بنفسي. إن أبوظبي التي أعيش فيها اليوم غير أبوظبي التي وصلت إليها في الأول من يناير 1971 تغير كل شيء. الشيء الوحيد الذي لم يتغير، هو الروح، الروح التي غرسها الشيخ زايد “رحمه الله” في جيلنا، وفي الأجيال الحالية وفي أجيال المستقبل. روح الوفاء، روح العطاء، روح الطموح، روح الأمل، روح الإيمان، بالله، وبالوطن، وبالإنسان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©