الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«روح الروح» مجهول النسبْ بين باريس وحلبْ

«روح الروح» مجهول النسبْ بين باريس وحلبْ
24 ديسمبر 2009 00:33
قد نتساءل دائماً، لماذا المختارات في الشعر؟ وجوابه يحمل عدة أسباب، أهمها أن جامع الشعر، ولتعدد قراءاته وتنوعها، تراه يعمد إلى تدوين ما هو جميل ورائع من الشعر قرأه، واطلع عليه، وكأنه بذلك يختار درراً في لجة بحر واسع، فيدون هذا الجميل من الشعر، هذا القليل من الدرر، لتتراكم في مدوناته الأبيات المفردة والمقطعات المزدوجة، لتكون في نهاية الأمر كتاباً يسميه المنتخب فيشيع بين الناس، وربما ندعو هذه الطريقة باللاقصدية في التأليف. في الجانب الآخر هناك طريقة أخرى نرى فيها القصد واضحاً، والعلة بائنة، وهي توخي الاختيار في باب الغرض الشعري، كأن يجمع الجامع الشعر الذي قيل في هذا الغرض دون غيره كمنتخبات الحماسة، أو الغزل، أو المديح، أو الرثاء، أو شعر النساء، أو شعر الغلمان، أو شعر المغنيات، أو شعر الجواري، فيكون فيها التأليف واضح المقاصد، جلي الغاية، وربما نجد سبباً ثالثاً لتوخي مبدأ الجمع والانتخاب في الشعر العربي خاصة عندما نعد هذه الطريقة تسهيلاً على المتلقي الذي يريد أن يقرأ ما سطع ضوؤه في الشعر العربي معتمداً على ذائقة حساسة ونفس مرهفة، ومعرفة مكتشفه. فيأتي إلى منتخبات كبرى، أسهم في وضعها علماء اللغة والشعر والمعرفة في كل مفاصلها، ومن الغرابة أن من هؤلاء من اشتهر في تاريخنا الأدبي وأي شهرة عظيمة هي من خلال منتخباته حتى عدّوا عناصر فاعلة في تاريخنا الثقافي، لا بسبب ما قدموه من كشوفات إبداعية بل بسبب روعة منتخباتهم وقدرتها على أن تكون ساحة جامعة مانعة لتاريخ الشعر العربي. ومن فضيلة المنتخبات، أننا نقرأ فيها شعراً أو مقتطفات لشاعر ضاع اسمه ونتاجه فلا أثر له ولها إلا في المنتخبات وبذلك سجلت لنا هذه الكتب التي تعد أمهات التأليف، تاريخ هذا الشاعر وزمنه وجزءاً من شعره، بعيداً عن الامّحاء الكامل الذي لولا هذه المنتخبات لما بقي له أثرٌ. أنواع المنتخبات كل هذه المقدمة سقناها لنطلع على موضوعة غريبة مفادها أن للتأليف ثلاثة أركان وهي المؤلف والمؤَلف (الكتاب) والقارئ، أما المؤلف فلا يضيع إلا على يدي المدون عندما يستنسخ كتاباً، ولأن المؤلف يحمل اسماً له ولأصوله وكذلك لقباً له ولأصوله، مفاده أن يستبدل هذا بذاك، إذ تارةً ما يكتب الاسم وتارة ما يكتب اللقب، وربما يختلط أحدهما باسم أو لقب مؤلف آخر فتشتبك الأصول ولكن الطامة الكبرى أننا نجد ضياع الاسم واللقب، فلا هذا موجودا ولا ذاك، ليصبح الأمر في عداد “المؤلف المجهول”. أما المؤلف/ الكتاب فقد عرف عن العرب اختصارهم لأسماء الكتب كونها طويلة حيث يقال لكتاب “المنتخب في محاسن أشعار العرب” بـ “المحاسن” و”كتاب جمهرة أشعار العرب” بـ “الجمهرة” وغيرها بـ “الحماسة” إسقاطاً لكثير من كلمات عنوان طويل وصفة المؤلف، وهذه قد تدخل المحاسن ببعضها والجمهرة بغيرها والحماسة بمثلها. أما القارئ فقد انقسم إلى قسمين قارئ باحث عارف بالأمر وآخر لا يعنيه إن اختفى اسم المؤلف أو اسم كتابه، ويبدو القارئ الباحث هو الذي يتتبع الأصول والغايات ولكن أطرف ما في الأمر أننا عندما نتوخى في المنتخبات قصائد شاعر ضاع شعره وذكر هنا “في المنتخب” نصادف بأن جامع هذا الشعر يضيع اسمه أيضا، كما يجده الباحث ابراهيم صالح الذي حقق كتاب “روح الروح” لمؤلف مجهول من القرن الخامس الهجري، وهو من إصدارات دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ضمن السلسلة التي صدرت بمناسبة احتفالات أبوظبي بمئوية المغفور له الشيخ زايد الكبير “زايد الأول” 1909-2009 حاكم أبوظبي. لقد ابتدأت أولى الاختيارات الشعرية في أدبنا على يدي “المفضل الضبي” وتعاقبت الاختيارات أو المنتخبات فمنها ما جمع على اسم صاحبها مثل “المفضليات” نسبة إلى المفضل الضبي “والأصمعيات” نسبة إلى الأصمعي، وبعضها حملت اسماً لغرض بطولي وهي “الحماسة” ومنها حماسة البحتري وحماسة أبي تمام وحماسة ابن الشجري والحماسة البصرية والحماسة المغربية، وبعضها ظهرت تحت اسم التذكرة، كالتذكرة السعدية والتذكرة الفخرية وبعضها الآخر تحت أسماء مختلفة، كالزهرة وجمهرة أشعار العرب، والمنتخب في محاسن أشعار العرب، والمنتخل، والمحب والمحبوب، ومنتهى الطلب، ومجموعة المعاني، وتأهيل الغريب. ولم تنقطع سبل هذا التوجه في ثقافتنا العربية حتى الحديثة منها وخير مثال على ذلك مختارات البارودي وأخيراً مختارات الشعر العربي لأدونيس، ولا تزال كثير من الاختيارات مخطوطة في أرفف المتاحف والمكتبات العالمية وإن اعتمدت في الدراسات إلا أن ظهورها محققة كاملة أصبح أمراً لابد منه. تخير الشعر كتاب “روح الروح” غريب في اسمه وفي غياب مؤلفه ولكن هذا لا يعني ـ وبخاصة الأمر الثاني أي غياب اسم المؤلف ـ أن يطمس الكتاب ولا يقدم للقارئ. إذ أصبح وجود الكتاب ضرورة لإكمال سلسلة المنتخبات، إلا أن الثابت حقاً بحسب المحقق إبراهيم صالح أن الكتاب جاء بجزئين أولاً وأن مؤلفه عاش في القرن الخامس الهجري. ويوعز ابراهيم صالح أهمية هذا الكتاب إلى تظافر أمور عدّة وهي: أنه من أوسع المجوعات الشعرية كماّ وكيفاً فهو يضم 2790 قطعة شعرية ونثرية ولا تتجاوز نسبة القطع النثرية فيه أكثر من اثنين في المئة. القطع الشعرية في كتاب “روح الروح” تتراوح ما بين قصيدة وقطعة ونتفة وبيت، في ثلاثمئة وستين باباً من أبواب الشعر، وليس للباب حد يقف عنده، فقد يطول ويقصر. أما السبب الثاني فهو أن الجامع قصد معظم اختياراته على شعراء القرنين الرابع والخامس الهجريين تحديداً، إذ ليس في شعرائه من تجاوز القرن الخامس الهجري ولم يورد من أشعار الجاهليين والإسلاميين والأمويين والعباسيين إلا القليل النادر وكان همّه كما يقول “أن يتخيّر الأحاسن من المحاسن ويلتقط النتف من الطرف”. أسباب الجمع توخى الجامع أن ينتقي ويضم الأشعار الكثيرة التي لا توجد في مصدرٍ من المصادر المطبوعة، بحسب علمه كما جاء في مقدمته التي كانت أشبه بالرسالة حيث ابتدأت بـ “أما بعد”. ثم يستبقها بالمبرر الرئيسي الأول الذي يغلب مجيئه على لسان الجامعين وهو: “أن الشعر ديوان العرب، ومحارة الأدب، وصقل الأذهان والإفهام، ومرآة العقول والأحلام، يقوم لقائله مقام لسان الصدق، ويشهد لأهله شهادة الحق..”. وبعد ذكر تلك الأسباب قال: “فحداني مثل هذه الأسباب، على الاستهداف بهذا الكتاب، لأجمع فيه بين فرائد نظم المحدثين، وشوارد نثر المطبوعين والمتكلفين، في كل باب يتجارى فيه أهل الفضل في محافلهم، ويتمثل به الظرفاء في مجالسهم، ويوشح به الكتاب مخاطباتهم، ويتداولونه بينهم في محاوراتهم”. وهذا هو الغرض الذي تحدثنا عنه في مقدمتنا لهذه المقالة، عندما قلنا أن بعض غرض المنتخبات هي الإفادة أو التسهيل على المتلقي في الرجوع للأصول المجموعة في كتاب واحد لغايات وأسباب أوردها “المؤلف المجهول”. ويقول ابراهيم صالح في مقدمته لكتاب “روح الروح”: وقد اتضح لي أن بعض الباحثين من صناع الدواوين الشعرية، لم يطلعوا على هذا الكتاب لبعد متناوله، فجاء عملهم خديجاً (ناقصاً)، كالذي نراه في ديوان أبي بكر الخوارزمي، فقد أخل الديوان بـ (207) أبيات رويت صراحة لأبي بكر الخوارزمي في “روح الروح” ولم يذكرها ديوان الخوارزمي. ويضيف صالح: ومثل ذلك كثير. ضياع المؤلف عندما يختفي اسم مؤلف كتاب ما، يعمد إلى القرائن، وإلى ما جاء في الكتاب وزمنه ومناسبة ما قيل فيه من مادة شعرية وفترة حياة الشاعر بعد معرفة انتساب القصيدة أو الأبيات المستشهد بها له. وعبر هذه الطرق يكتشف زمن الكتاب، أما اسم مؤلفه فربما تكون هناك إشارات قليلة عنه كأن يذكر أسماء ما ألف من كتب أو حادثة ما مروية كان طرفاً فيها وأمور أخرى كثيرة. إذ ليس من سبيل هنا لمعرفة اسم مؤلف كتاب “روح الروح” كما يقول إبراهيم صالح، إذ لم يذكر اسمه على غلاف النسختين المعتمدتين، ولم يقف المحقق على ذكر الكتاب أو مؤلفه في الكتب العربية التي تعنى بهذا الحقل المعرفي ـ الشعر ـ لا تصريحاً ولا تلميحاً، ويقول صالح: “ولكنه ـ على كل حال ـ لا يخرج عن دائرة القرن الخامس الهجري، فاختياراته تأتي ضمن إطار شعراء هذا القرن”. مصادر كتاب “روح الروح” لمؤلفه المجهول هي “يتيمة الدهر” للثعالبي وبقية كتبه حيث يكن المؤلف المجهول كبير الاحترام والإجلال للثعالبي، فلا يذكره حيث يذكره، إلا بكنيته، فيقول: قال أبو منصور. ومن المصادر أيضاً كتاب “حماسة أبي تمام” صراحة في بعض المواطن، كما أنه ينقل عن مصادر غير معروفة لدينا الآن، وربما كانت شائعة في العصر العباسي إبان القرن الخامس الهجري. غير أن إبراهيم صالح يقول: يغلب الظن أنه (أي المؤلف المجهول) من تلاميذ الثعالبي، وأنه من علماء بلاد فارس. ولا يعطي إبراهيم صالح الأسباب التي جعلته يظن هذا الظن، وإنما يقول: لم يورد في كتابه أي “روح الروح” شعراً ينسبه لنفسه صراحة، ولكنني ـ والقول لصالح ـ أظنه كان يخفي شخصه تحت عبارة “وقال بعض أهل العصر” إذ ليس من سبيل إلى قائل هذه القطعة بعد عبارته تلك، وكذلك كان يفعل الثعالبي في كتبه الأولى قبل ذيوع صيته. وربما نقول عن أن هناك دليلين يمكن من خلالهما التنقيب عن اسم هذا “المؤلف المجهول” الذي ألف كتاب “روح الروح” وهي أولاً كونه تلميذ الثعالبي وثانيهما أنه يستخدم عبارات معينة يمكن تعقبها في مؤلفات مريدي الثعالبي. ويصف إبراهيم صالح المؤلف المجهول بأنه صاحب ذوق وأدب ومحب للشعر واسع الاطلاع دقيق الترتيب والتصنيف، لم يدع باباً من أبواب الشعر إلا وذكره وذكر كل ما قيل فيه. والمؤلف المجهول نفسه يصف منهجه في قوله: “ولم يزل أهل هذه الصناعة، يجمعون من الشعر قديمه وحديثه، وينقدون مختاره ورذيله، بأقصى جهدهم، وغاية حشدهم، ويذكرون الشعراء على طبقاتهم، ويدلون على نوادرهم وسرقاتهم”. نسخ الكتاب لكتاب “روح الروح” نسختان، إحداهما في المكتبة الأحمدية بحلب وهي الأقدم والتي انتقلت إلى مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، والثانية في المكتبة الوطنية بباريس. ولعل النسختين نقلتا من مصدر واحد حيث انتقل التصحيف والتحريف الذي كان في نسخة الأصل إليهما معاً. وكلا النسختين سقط منهما الباب السابع والثمانون بعد المئتين ولعله صفحة واحدة. النسخة الحلبية نسخة تعود لمحمد أفندي طه زاده أوقفها إلى المدرسة المحمدية، كما جاء في ختم الواقف نفسه، وقد ذكر اسم الكتاب على صفحة الغلاف في الزاوية اليسرى العلوية ما يأتي “كتاب روح الروح” وتحت ذلك بخط حديث “كتاب روح الروح” وتحت هذا ختم الوقف برقم 14476 ت1، أما كتابتها فبخط فارسي، دقيق، قليل الإعجام، نادر الضبط، والتصحيف والتحريف فيها كثير وفي بعضها سقط وهي تقع في 341 ورقة وفي كل صفحة 25 سطراً وكتبت عام 648هـ بيد عبداللطيف الفاخوري. النسخة الباريسية وهي نسخة خزائنية، كتبت في بلاد فارس ورقمها 6624، وفي صفحة الغلاف عبارة “كتاب روح الروح” بخط دقيق وتحتها نص فارسي كتبه محمد بن كاظم بن محمد بن محمد بن رضا البرهمي في 973هـ بخط نسخي تام الضبط والإعجام. وعلى حواشي الصفحات شروح مستمدة من القاموس المحيط لألفاظ تصعب على القارئ معانيها، وهي مكتوبة بخط فارسي دقيق وتقع في 295 وفي كل صفحة 19 سطراً. الأكثر دقة يقول ابراهيم صالح: كان الناسخ في الباريسية أكثر دقة وأمانة وكان يضع علامة فوق الكلمة ذات الإشكال، تدل على عدم فهمه لها وهي (.......) ويضع مثل ذلك في الهامش، وكان هناك خلط من المؤلف المجهول حين ينسب بعض القطع إلى شعراء غير قائليها. روح الروح والعسكري جاء في كتاب “سبحة المرجان في آثار هندوستان” للسيد غلام علي البلكرامي في طبعة جامعة عليكرة الإسلامية بالهند المطبوع 1980م وفي الصفحة 2 على 3 ما نصه: وقال أبو هلال العسكري في “روح الروح” لما أنشد النابغة الجعدي قوله: (الخبر رقم 3 في صفحة 19 إلى 20 من كتاب روح الروح) وهذا ما يوحي أن الكتاب لأبي هلال العسكري. نفي الانتساب يرى ابراهيم صالح أن كلام غلام علي البلكرامي في كتابه “سبحة المرجان في آثار هندوستان” غير صحيح بقرائن عدة وهي أن أبا هلال العسكري الذي نسب إليه كتاب “روح الروح” توفي في حدود 400 هـ بينما امتدت وفاة مؤلف الكتاب إلى ما بعد وفاة الثعالبي سنة 429هـ لأنه ينقل عن كتب الثعالبي مثل “اليتيمة” و”تتمة اليتيمة” و”المبهج” و”سحر البلاغة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©