الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يغرق النصّ

عندما يغرق النصّ
24 ديسمبر 2009 00:36
يعدّ عبد الحميد شكيل من أهمّ الكتّاب الجزائريين المنتمين الى جيل ما قبل الثمانينات بقليل، وهو من الذين أضافوا للقصيدة العربيّة بالجزائر، وحاولوا التّجديد والتّجريب مع المحافظة على شروط الكتابة الشعريّة وضوابطها المتعلّقة بصيانة اللّغة العربيّة من التّشويه والخلط بينها وبين اللّهجات خارج الأقواس والمعقّفات، ودون ضرورة تدعو إلى حشرها بين السّطور. وفي ديوانه “تحوّلات فاجعة الماء” يحاول عبد الحميد شكيل منازلة الماء والزمن من خلال رغبة الإنسان العاديّة في التمسك بالحياة والتشبّث بالوجود، بعيدا عن المتاهات الغامضة والإغراق في التّعتيم وتغليف الحقائق بزخارف لغويّة تخدع القارئ وتضلّله عن الهدف المرجوّ من قراءة ذلك النصّ الذي هو بصدد الإبحار فيه طمعا في إيجاد جوهرة نادرة يرصّع بها معرفته، ويثري بها ذاته التوّاقة إلى المزيد من البحث والتّجربة. فلسفة الماء يمثّل الماء في هذا الدّيوان نقطة البداية التي منها تنطلق الكلمة وإليها تعود بطريقة مغايرة للسّابقة لكنّها تحمل المفهوم ذاته يقول: “نقتحم الماء ـ النّرجس ـ عطاءات الفرح الغافي في عين الشمس، مرايا من حقول الغيث، رذاذ الزبد المقطور يأتي اليومي مكتسيا بهاء القول، خيبات طيور الزرزور.. نجيء مع الماء فراخا زغبا، مضمخة بزقو النورس خطوات الوعل المذعور”. نلاحظ هنا كيف طوّع الشاعر الماء، تلك القوّة المتدفّقة التي تخصب وتهدم إلى قوّة الإنسان وتجلّى ذلك من خلال مفردة “نقتحم”، التي تحيل على العنفوان والمقدرة والطاقة والشاعر يعشق الثّورة والانتصار لذلك عكس الصورة وجعل الإنسان يقتحم الماء، كما أنّه لم يكتف بوجه واحد للماء، بل طوّع له المرايا ليكون الغيث، الرّذاذ، الزّبد والمادّة المقدّسة التي منها تنبعث الحياة. يعدّ الماء أيضا أداة للطّهارة في مفهوميها المادي والمعنويّ، فهو يطهّر الجسم والنّفس معا وينبع من عمق الأسطورة مع أسماء آلهة قديمة مثل عشتار وأفروديت ويمتزج بالفرح والعشق وبالنّار. يقول: “مسكون ـ أنت ـ بالفرح، بالعشق الفوري، مصباح النار. فانهض مؤتلقا كيما تؤجج، شبق النّخل سهوا نسقط، سهوا ننهض، سهوا يدمرنا الإعصار، فاكتب فاتحة للوقت المائل بين دبق الشجر النوار”. الذات المبدعة والآخر يتجلّى في هذا الديوان صراع الذات المبدعة على واجهتين، ترتد في الأولى إلى دواخلها باحثة في أدغالها عن أجوبة شافية وتقف في الثانية وسط أتون العيون الحارقة مرتجفة، ليس خوفا ولكن ألما، ذلك الألم الذي يدفعها إلى الانطواء والتّقوقع والعودة إلى النّفس. يقول: “سلمني شهقته الأخيرة، وامتطى موجة الضياء الرغام عدّل ربطة العنق السّميكة، خلخل صوته الغافي، سحبا نفسا، قال: من يملك شهوة الماء القتيل؟ يرتدي جبة من نسيج الضياء الجليل، يدخل جنّة من رخام وغيد”. يتمثل الآخر في هذا الديوان في الإنسان فردا ومجموعة وفي الطبيعة التي حضرت عبر الماء والنار، وهي المتناقضات التي يسبح في تيارها الشاعر ويحاول أن يصل من خلالها إلى الحقيقة، حقيقة تراوغه وتلاعبه، تلوح له من بعيد ثمّ عندما يعتقد أنّه وصل تتبخّر وتنقشع غيمة ذائبة. الشاعر والبلاد لكلّ شاعر أمنية يسعى إلى تحقيقها ويعيش على إيقاع ترديد اسمها والجهر به من طرفه ومن طرف غيره، لكن حين يتعلّق الأمر بالحريّة والكرامة تحضر صورة البلاد أو الوطن، ذلك العش الذي يولد فيه الفرد وينمو ويتعلّم الحب. يقول: “أيا هذي البلاد التي أوقدت دمها في دم الزعفران واستطالت أنوار فضّتها في أزقة هذي الطّلول.. وتسلت وحشتها بأنداء الكلام المحلّى بأصداء الأغاني واكتوت بصوت الماء، صدى البرتقال العنيف”. نلاحظ هنا كيف أن الشاعر يبحث عن صورة مغايرة للواقع، فهو لا يرى البلاد بعين الإنسان العاديّ، بل يراها في حلمه جميلة، يانعة كما يشتهيها ويريدها. قاموس قديم استعمل الشاعر في هذا الديوان قاموسا قديما يزدحم بالملفوظات الغريبة، غير المتداولة، ووظّف عناصر الطبيعة وخصوصا الماء الذي غمر كل شيء في هذا الكتاب، استحضر الأسطورة وحاول التعمّق في المفردات جاعلا إياها تحيل وتلد وتحضن معاني متعدّدة. كما يزأر الزمن معلنا سيطرته على الإنسان، مشيعا فيه ذلك الخوف الذي أثاره فيه الماء، ولأن الخوف يولد مع الإنسان فهو يتعود عليه ويتعود مراوغته وتجاوزه. لذلك أوقف الشاعر الزمن في مداره وبدل أن يمنحه حريّة الانسياب، جعله رهين رغبته، يمطّطه متى شاء ويبتر مسافاته المتّصلة به متى شاء أيضا، ونجاح الشاعر في محاصرة الزمن، جعله ينجح في تطويق الماء وتسخيره لفائدة إنسان القصيدة يقول: “على مرمى حجر، من باب الغواية التي تصادت في ارتعاشاتها: فصدت دم نشيدي ما تقرّح في القلب”. يرتدي الزمكان في هذا المقطع جبّة الإيحاء ويتوارى خلف وشاح المستحيل، من خلال تحويل الكاتب وجهته والابتعاد به عن العاديّ المألوف وتجلّى هذا في قوله “على مرمى حجر” وهو زمن مستتر يلمسه القارئ لحظة القراءة في الملفوظات الحبلى بمعان مغايرة لما تبديه ظاهريّا وتفيد الجملة ذاتها في تمثّل المكان، الذي بدا في هذه النّصوص لصيقا بالزمن يمثّلان وحدة متكاملة يحيل أولها على آخرها ويسكن الزمن المكان أو بالعكس. صدر هذا الديوان عن منشورات اتّحاد الكتّاب الجزائريين بالجزائر في 140 ص من القطع المتوسّط.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©