الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الهجرة النبوية.. دروس مستمرة تجددها أحداث الزمان

الهجرة النبوية.. دروس مستمرة تجددها أحداث الزمان
24 ديسمبر 2009 22:22
الهجرة النبوية لحظة فارقة وواحدة من أهم المحطات في حياة الإسلام والمسلمين فهي باستمرار تتدفق بالمعاني والعبر ، وتجدد ودروسها بتجدد الزمان. فالهجرة مليئة بالأحداث التي تحتاج لإعادة قراءة ليستعين بدروسها المسلم في هذا العصر حيث تتزايد المخاطر التي تحيق بالإسلام والمسلمين. ولهذه الذكرى العطرة معانٍ مستمرة سواء كان المقصود بها الانتقال من مكان إلى مكان أو من حال إلى حال. بل إنها تستوعب مفهوماً واسعاً يتيح الفرصة للمسلم المعاصر بأن يكون من المهاجرين وإن لم يترك وطنه! فقد شاء الله أن تكون الهجرة النبوية هي الحدث الثاني المهم بعد البعثة النبوية الكريمة ونزول القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ينظر بعمق في خطوات الهجرة النبوية وترتيباتها يلاحظ أنها لم تتم بصورة عفوية ولا بتحرك عشوائي، ولكنها كانت نقلة استراتيجية مهمة حرص فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على حماية الدعوة بعد أن اشتد الضغط عليها في مكة المكرمة، وازداد عناد قريش وقسوتها عليه وعلى اتباعه رضوان الله عليهم. ومن هنا فإن دروسها وعبرها كثيرة علينا تدارسها ونحن نحتفل بقدوم عام هجري جديد، وهنا يشير الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية إلى قول - صلى الله عليه وسلم - في شأن الهجرة المخصوصة التي أكرمه الله بها من مكة إلى المدينة « لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا « (البخاري)، فبعد فتح مكة، خرجت من عبادة الأوثان ودخلت في التوحيد الخالص فلم يعد هناك حاجة للفرار بالدين منها إلى المدينة المنورة كهجرة إيمان أو إلى الحبشة من قبل كهجرة أمن، فقد آمن الناس وشعروا جميعاً بالأمن. هجرة الأنبياء ويقول إن للهجرة معنى مهماً في ذاته نراه عند جميع الأنبياء، فإبراهيم عليه السلام يهاجر طلباً للإيمان، قال تعالى في شأنه :»وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ» الصافات :99، وموسى -عليه السلام -يهاجر إلى أرض مدين طلباً للأمن، ويعقوب- عليه السلام - يهاجر إلى مصر للحاق بيوسف وأخيه، وهكذا لو تتبعنا هجرة الأنبياء لوجدناها كانت لأغراض كثيرة فأصبحت منهج حياة لطلب الرزق أو لطلب العلم أو الأمن أو الأيمان أو غير ذلك. ولذلك كان لابد أن يكون للهجرة معنى مستمر لمكانتها المهمة من الدين سواء أكان أحدنا ينتقل من مكان إلى مكان أو من حال إلى حال، أما الانتقال من مكان إلى مكان، فقد ورد أنه إذا رأى المرء منكراً فليزله أو فليزُل عنه، وهو معنى قوله تعالى : «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ»الأنعام :68، وهذا منهاج قوي في مقاومة الفساد وعدم الرضا به، يرتبط ارتباطاً عضوياً مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما طوره المسلمون قديماً في نظام الحسبة وحديثاً في المؤسسات الرقابية كأجهزة المحاسبات والرقابة الإدارية والغذائية، فالبعد عن أماكن المعاصي قد أمُرنا به ونهينا عن السكوت عنه و إلا أصابنا العذاب مع المجرمين. قال تعالى: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» الأعراف :164- 165. الهجرة المعنوية وفيما يتعلق بالمعنى الآخر للهجرة وهو الانتقال من حال إلى حال، يوضح مفتي الديار المصرية أنه يتمثل في التوبة والرجوع إلى الحق وعدم اليأس، لافتاً إلى أن التوبة هي أساس الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه على حد قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خطبته : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر ، يوم تعرضون لا يخفي منكم خافية»، وهو مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله (أورده الترمذي في سننه). والهجرة بهذا المفهوم أمر مستمر يدخل في الحياة اليومية للمؤمن، أصبحنا في أشد الحاجة إليه في عصرنا الحاضر بحسب الدكتور جمعة،الذي يوضح أنه يشمل أولاً: مقاومة الفساد والإفساد، سواء أكانت هذه المقاومة بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو التغيير الواجب بكل وسائله أو كانت توبة نصوحة ينخلع فيها المفسد من فساده ويرجع إلى الله بمحاسبة النفس والهجرة بعد العصيان، قال تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» الذاريات :50، وقال تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» آل عمران :133. ويلفت فضيلته إلى أن هذا المفهوم الواسع المستمر للهجرة يجعلنا من المهاجرين وما أدراك ما ثوابهم ومرتبتهم عند الله، إذا ما قمنا بما نسميه في عصرنا الحاضر بالتنمية، فهناك ارتباط وثيق بين معنى الهجرة الشرعي وبين مقاصد التنمية الشاملة وأهدافها، ويرتبط ذلك أيضاً بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» الرعد :11. ويبين أن القراءة الصحيحة لهذه الآيات والأحاديث ،كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقتصر على الحالة الروحية ولا الدلالات اللغوية الضيقة ببعض الألفاظ وإنما تمتد لتُكون معنى واسعاً يتناسب مع مراد الله من خلقه ومع مراد الله من شرعه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ » (صحيح مسلم) أبرز عبر الهجرة وتتجدد دروس الهجرة وعبرها بتجدد الزمان ،فيكفي أن يتوقف المسلمون أمام واحدة من أبرز عبر الهجرة النبوية ودروسها وهي مواجهة الخطط التي تحاك للمسلمين، بحسب المفكر الإسلامي الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد أخذ المهاجرون يتركون مكة تباعاً، حتى كادت تخلو من المسلمين، وشعرت قريش أن الإسلام أضحت له دار تحميه، فتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في الدعوة، فقررت قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . خطّط المشركون لقتل رسول الله، و للقضاء على دينه . وخططوا للوقوف في وجه قضاء الله سبحانه وتعالى. فماذا كانت عاقبة خططهم التي لم تَنْقُصْها أداة من أدوات المكر؟ يقول الله عز وجل: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» الأنفال: 30. ويقول أيضاً في المعنى ذاته: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلَى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» الزخرف: 79-80. أي أحكموا خِطتهم، وأحكموا مكرهم، فنحن أيضاً أبرمنا وأحكمنا خِطتنا. فأي الـحُكْمَين الـمُبْرَمَين ينفذ؟ ما قيمة مكر المشركين وخِططهم التي وضعوها للقضاء على الإسلام، رحمة الله المُهداة إلى هذه الإنسانية عامّة؟ باءت خِططهم بالفشل والزوال. وأنفذ الله عز وجل حُكْمَه. المسلمون اليوم مطالبون بأن يستفيدوا من هذه العبرة وأن ينظروا كم يكرر بيان الله سبحانه وتعالى هذا المعنى؛ لكي لا ننسى، أن أعداء الله عز وجل لا تخلو منهم الأرض. تلك سُنَّة قضى الله عز وجل بها ومن ثَمَّ فإن خططهم مستمرة لا تنقطع. لكن أي الخِطَّتَين تنفذ؟ وأيهما تبوء بالزوال والمحو ؟ ولوعدنا إلى تاريخ المسلمين مع الإسلام لوجدنا جوانب الدنيا توقِّع على بيان الله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} ويوضح الدكتور البوطي أن المقصود بذلك أن الله تعالى رَدَّ عليهم مكرهم بما مَحَقَه. ثم قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}. فليس عند الله مكر يُشْقِي. وليس عنده مكرُ يسيء. وإنما مكر الله عز وجل هو تطهير الأرض من مكر الماكرين. وما تحقق بالأمس لا بدّ أن يتحقق اليوم. ومَنْ ذا الذي يرتاب في ذلك؟ وهو عز وجل يقول : «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ». ويضيف من يرتاب في قرارات الله وحُكْمِه فلْيَعُد إلى سيرة الهجرة النبوية. فليعد إلى ظاهرة الهجرة في مقدماتها ثم لينظر إلى نتائجها. فقد نَفَضَ المسلمون أيديَهم عن الدنيا وزخارفها ومتاعها ومتاع الغرور كما وصف الله سبحانه وتعالى واتّجه كلٌ منهم إلى ربه وكأنه يقول: «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى». فماذا كانت النتائج؟ كانت أن أعاد لهم الله الوطن الذي سُلب ومعه أوطان كثيرة أخرى. أعاد لهم الله الأموال التي اسْتُلِبَت منهم بل التي تركوها وراءهم ومعهم كنوز من الأموال والـمُدَّخَرات الأخرى، وجعل لهم من هذا الدين شعاعاً كشعاع الشمس يمتد يميناً وشمالاً شرقاً غرباً شمالاً جنوباً في كل أنحاء العالم. تلك هي شجرة الهجرة في جذعها الراسخ وتلك هي ثمراتها في نتائجها المورقة المثمرة العظيمة. فليعتبر المسلمون. وهناك عبر أخرى من الهجرة من أبرزها: أن الدعوة الإسلامية كانت تساير الأحوال العادية للناس، وتجري على حسب الأحداث الطبيعية للبشر التي ترتبط فيها الأسباب الظاهرة بمسبباته، ويظهر فيها التفكير والاجتهاد، ويوضح الدكتور أحمد الطيار الأستاذ بجامعة الأزهر، الذي يوضح أنها لم تكن تعتمد على الآيات الكونية الخارقة للعادة، التي تفوق مقدور البشر، ومن ثم فإن النتيجة الطبيعية لمقاومة الدعوة، مع الغلو في إيقاع أشد الأذى للداعي، هي الهجرة إلى البلاد التي تفتح صدرها للدعوة، وتكرم صاحبها. وتجلت أيضاً رباطة جأش النبي – صلى الله عليه وسلم- وثباته وحسن تدبيره وقت ترقب الشبان إياه حول داره، فقد اختار علي - رضي الله عنه - لينام مكانه، ويتضح حسن التدبير والتخطيط أيضاً في تلطفه في الخروج حتى لا يشعر به الراصدون، وسلوكه طريقاً غير مطروقة كثيراً، واختباؤه في الغار ثلاث ليال، وهي المدة التي يغلب على الظن أنهم يطلبونه ثم يتسرب اليأس إلى نفوسهم.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©