الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يضم أعمالا لبيكاسو وماتيس وجياكوميتي وغوغان

يضم أعمالا لبيكاسو وماتيس وجياكوميتي وغوغان
8 أكتوبر 2008 23:26
بادن بادن (ألمانيا) - منحوتات لرسامين عنوان لمعرض كبير واحتفائي يستضيفه حاليا متحف فريدر بوردا في مدينة بادن بادن الألمانية، ويستمر حتى السادس والعشرين من شهر أكتوبر الحالي، يحمل المعرض عنواناً فرعياً هو (حوار القرن العشرين) ويضم أعمالا نحتية لقامات الفن التشكيلي العالمي، أسماء وتجارب واتجاهات لرسامين جذبهم هوس التجسيد والخروج من إطار اللوحة، لتكثيف خيالاتهم الخصبة في أعمال نحتية، يمكن وصفها بالولادات القاسية لفكرة الخلود الفني، وتطويع المواد الصلبة كالخشب والحجر والرخام والبرونز من أجل حيازة النشوة المفتقدة في الألوان الزيتية· حفل المعرض بأعمال منتقاة حفرت حضورها وطبعت حساسيتها الفنية في المشهد التشكيلي للقرن العشرين وما تلاه من انعكاسات فنية واضحة في نتاجات القرن الجديد، ساهم منتجو تلك الأعمال في تكوين مدارس كبرى، وانعطافات ملهمة في مسيرة البحث والتجريب في فضاء التشكيل اللامنتاهي، أسماء كبيرة مثل ديجاس وماتيس وبيكاسو وجياكومتي وغوغان وشاغال وميرو ودوبوفي اجتمعت تحت قبة واحدة لعرض ابتكارات نحتية متباعدة شكلا وأسلوبا ومتقاربة في المعنى العام لهاجس التجديد واختراق الثوابت الفنية البائدة· فعند اقترابك من متحف فريدر بوردا على أطراف (بادن بادن) المسترخية فوق ظلالها، ستشعر بأن قيمة ما هو معروض في المتحف قد انعكس تماماً على المحيط الخارجي للمكان، فهذه النصب والمنحوتات المزروعة حول المبني، تبدو وكأنها في حوار أبدي مع صمت فاتن ومتدفق وسيّال، صمت يشبه الترنيمات الخافية للرهبان وحملة أسرار الكون، إنه الامتلاء المفرغ من كل ثقل، هو ما يستدرج القادم إلى المتحف للدخول إلى أرض تضج بكائنات غرائبية، وبموسيقا بصرية متوالدة، تلغي موت صانعيها! ميراث الدهشة في إحدى شهاداته الفنية وصف بيكاسو النحت بأنه: ''الملاحظة القصوى للرسام على رسوماته''، وهذا الوصف كان ملاصقاً للفترة التي كان فيها العمل النحتي للرسامين محاطاً بالشكوك وعدم اليقين، فمنذ بدايات القرن العشرين أدرك بيكاسو أن الحس الواقعي للأعمال الحديثة لابد وأن يتضمن إمكانية العمل المباشر مع المادة والمحيط، وهذا التمهيد النظري بدوره كان مستنداً على انجذاب الرسامين في تلك الفترة لأعمال مايكل آنجلو الذي برع في مجالي الرسم والنحت معا، دون أن تكون هناك تنازلات فنية لجانب على حساب الجانب الآخر، ورغم أن البعض رأى أن الجمع بين مجالين مختلفين تماماً يعود إلى عبقرية مايكل آنجلو التي لا تتكرر، إلا أن رسامي العهد الجديد لم يقنعهم هذا التبرير، وآمنوا أن العمل النحتي يمكن له أن يوازي ويقارب العمل على اللوحة، رغم اختلاف المواد والتقنيات المستخدمة في كلا المجالين، وكان رهانهم منصباً على أسلوبية الفنان ومخيلته الخاصة، لا على الوسيط الفني أو الشكل التعبيري فقط· واقتحام كبار الرسامين لمجال النحت آنذاك كان مصحوباً بفكرة الروح الحرة وغير المؤطرة لدى الفنان، وتم تعزيز هذا الشعور من خلال الثورة الإبداعية واستثمار الهامش الذهبي للتجريب والضراوة الفنية المتجاوزة لتابوهات ومذاهب القرن التاسع عشر· بدأت أولى شرارات التمرد على النحت التزييني والإحتفائي المقترن بعصر النهضة، من خلال عمل الفنانين الجدد على جماليات التشويه، واختراق عصر النهضة للذهاب عميقاً نحو الفنون البدائية والسحيقة، تلك الفنون التي أضاءتها التنقيبات والمسوحات الأثرية، حيث عبرت المنحوتات عن أفكار ومعتقدات فطرية مرتبطة بالسحر والماورائيات وهيمنة الطوطم والتماثيل الغامضة والأقنعة والتعاويذ وغيرها من فنون نحتية لم تنشد الكمال بقدر ما عبرت عن دهشة يستحيل القبض عليها إلا بوسيط فني يموج بالرعب والرجاء· وهذه العودة لفنون النحت الفطرية شغلت مساحة كبيرة في معرض (منحوتات لرسامين) وتجلت بقوة في أعمال الفرنسي جان دو بوفي، ومارك شاغال وماكس إرنست وخوان ميرو، وهي أعمال استفادت تماما من ميراث الدهشة البدائية، واستطاعت أن تحاور تلك العهود القديمة والمعتمة، دون أن تستنسخها، فكل فنان من هؤلاء استطاع أن يبث روحه الخاصة في عمله النحتي، وأن يعيد رعشة النداءات القديمة إلى العمل الفني المعاصر، وكأن ثمة حوارا هنا لا ينقطع مع الصوت الذاهل والنظرة العطشى للرجل البدائي وسط طبيعة بكر لم يفك أحد شيفرتها، ولم يطلع أحد على أسئلتها وأسرارها الكبرى· المنفى والإبادة الطريق الآخر الذي سلكه فنانو القرن العشرين لتجاوز فنون عصر النهضة تمثل في هجرة اللون واللوحة وحدود القماشة والباليته، والتعامل مباشرة مع النحت الذي لم يعد مرتبطاً بالأحداث التاريخية والشخوص البطولية والمناسبات الكبرى فقط، بل تجاوز التكنيك الثابت إلى فهم مختلف للنحت من حيث استغلال الحيز أو الفراغ الذي يسبق ولادة المنحوتة، ولا يهم بعد ذلك موضوع النحت أو المادة المستخدمة في تكوين العمل النحتي· كان هاجس الفنان الجديد في تعامله مع النحت منصباً على العاطفة الذاتية والابتكار واللعب والتنويع والمصادفة والارتجال المربك لقوانين النحت الكلاسيكي· فكان العبث النحتي الخلاق، رديفاً لعصر ممزق بين التكنولوجيا والحرب، وبين متطلبات الأنا المبدعة والحرة، والشروط القاسية للأيديولوجيا العسكرية، والكولونيالية، ومعارك الإبادة البشرية، كان على العمل النحتي في زمن الاضطرابات الروحية هذا أن ينفتح أكثر على أسئلة الداخل، وأن يعبر عن تأملات الكائن الهش والمذعور والمحاصر بعزلته الشاهقة، ولعل المثال الأبرز لهذه التأملات الدامية هي أعمال الفنان ألبيرتو جياكوميتي التي احتضنها المعرض، فأعمال جياكومتي في مرحلة النحت صورت الإنسان في هيئة الكائن الذاوي والذابل والمنزوي في سعير وحدته الوجودية، فتماثيل جياكوميتي النحيلة هي غبار مكثف وصدأ متراكم وذاكرة محطمة، والكائن العدمي في منحوتاته، هو إنسان مهدور وموبوء ومهان ومدمر، أو هو الإنسان في منفاه الأخير والمنزوع من الأمل، ولكن المدافعين عن يأس جياكوميتي وجدوا أن منحوتاته تعمل وبشكل عميق واحتجاجي ضد فكرة التلاشي، وتقاوم تذويب الإنسان في أتون الحروب وجحيم الإقصاء· على ضفاف الأسطورة اتسمت الأعمال النحتية المعروضة في المتحف بتنويعات أسلوبية وكثافة تجسيدية غامرت في اتجاه التقليل من القصد الفني، والإعلاء من شأن اللحظة الملهمة، وربط الخامة المستخدمة في النحت مع الموضوع الفني، ومع الحالة الذهنية للفنان، ففي منحوتة مودلياني مثلا والتي حملت عنوان (رأس امرأة) تحتفي مادة الرخام بفكرة التأملات الناعسة، وجماليات الفن الإغريقي، ولكن العمل في النهاية يربك مقاييس هذا النحت الإغريقي، لأنه يجمع بين الملامح الأفريقية لامرأة غافية ومسترسلة في أحلامها، مع خلخلة الأبعاد الطبيعية للوجه الإنساني، فأعمال مودلياني تذهب باتجاه المديح الفني للوجوه والملامح التي تتجاوز الانطباعات المباشرة، وتذهب إلى المناخ الداخلي والروحي المنعكس على الوجه· في عمل آخر للفنان إرنست لودفيج كيرشنر يعود للعام 1911 نرى منحوتة لامرأة سمراء مستلقية ومشمولة بحس شبقي هادئ، وكأنها مستلقية على ضفاف الأسطورة، المنحوتة نفسها مشغولة بمادة الخشب، كي تستدعي الحالة الإكزوتيكية للمكان، وكي تبعث الطقس الأنثروبولوجي المحيط بالمنحوتة والمعاكس لمواضيع الفن الأوروبي السائد آنذاك· أما أعمال الفنان هنري ماتيس فتذهب باتجاه القسوة عند التعامل مع خامة البرونز، هذه القسوة كانت واضحة في ضربات الأزميل وفي الحفر والخدش واللمسة الضارية، مع معدن قاس هو الآخر ومرتبط بالكتلة العصية على الترويض، ومن هنا جاءت منحوتات ماتيس كي تحيل الجمال الأنثوي إلى صراع مع الجمال ذاته، وإلى نبذ الحساسية التزيينية لفن النحت، من أجل التغريب والتشويه وخلق نوع من الصدمة الجمالية والفنية لدى المتلقي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©