الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استقبال بريطاني حار لفيلم التونسي عبد اللطيف كشيش

استقبال بريطاني حار لفيلم التونسي عبد اللطيف كشيش
8 أكتوبر 2008 23:34
من يذكر بطل فيلم المخرج التونسي نوري بو زيد ''بزنس'' أوائل التسعينات، يتذكر ولا بد الممثل عبد اللطيف كشيش الذي أدى دور الشاب الذي يبيع جسده للسياح الأجانب على شواطئ المدينة الساحلية، مقابل ان يكون حياته ماديا ويتزوج من حبيبته· هذا الفيلم الذي أثار كثيرا من الضجة وقتها وحقق لبطله أكثر من جائزة، كان علامة فارقة في تاريخ هذا الممثل الذي تحول الى الإخراج بعد عدة أدوار مميزة في المسرح والسينما· وها هو يحضر الى لندن ليفتتح فيلمه ''كسكسي بالبوري'' بحضور حاشد من الجمهور الخاص في المعهد الفرنسي الذين صفقوا له طويلا، وهو مؤشر على نجاح الفيلم تجاريا بعد ان حقق في فرنسا نجاحا كبيرا في شباك التذاكر· الغريب في هذا الاستقبال ليست الحفاوة اللندنية، ولكن حضور هذا المخرج على المستوى العربي، إذ يبدو أنه غير معروف تماما في المنطقة كمخرج، رغم أن هذا ليس فيلمه الاول، إذ انه أنجز فيلمين سابقا وحصل على جائزة سيزار الفرنسية عام ،2004 اضافة الى سيزار العام الحالي كأحسن اخراج وتصوير وبطولة نسائية، واعتبره النقاد ولجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا العام الماضي اكتشاف المهرجان· ينتمي كشيش الى جيل المغاربة الذين نزحوا مع عائلاتهم الى فرنسا لأسباب اقتصادية منذ عدة عقود، وهو من خلال أفلامه يريد ان يثبت أن أبناء جلدته ليسوا غرباء ومجرد مهاجرين بعد كل تلك الاجيال التي عاشت هناك، بل مواطنون فرنسيون لهم ثقافتهم المتميزة التي لا تتصادم مع المواطنة بل تكملها وتضيف إليها· من هنا يمكن فهم فيلم ''كسكسي بالبوري'' الذي ينطلق من استغلال طبق تونسي شعبي حملته معها عائلة مهاجرة ليكون أساس مشروع مطعم في مدينة ساحلية جنوب غرب فرنسا· المطعم الذي سينوع الوجبات في المدينة المختلطة ويقدم خدمة اضافية في عالم هذه المطاعم· الوطن داخل الغربة سليمان بيجي الذي تجاوز قليلا الستين من عمره بات ضعيفا في أدائه في مجال صناعة السفن، فتحيله الشركة على التقاعد· لكن رب العائلة الذي يملك كبرياءً حادا لا يريد ان يتقاعد مبكرا من انشطة الحياة، يتوصل الى فكرة استثمار سفينة قديمة كمطعم لتقديم وجبة الكسكسي بالسمك، وهو هنا سمك البوري المشهور في فرنسا وتونس معا· سليمان المنفصل عن زوجته والذي لا يزال يقيم صلة قوية مع عائلته، يقرر أن يجد الحلول حيث هو موجود الآن، ولن يعود الى مدينته كما نصحه ولداه ''حيث الاصحاب والشمس الساطعة''، بل هو باق في المدينة التي منحها ذروة شبابه، الى جانب أبنائه وأحفاده· لكن قبل ان يصل سليمان الى هذا القرار يكون المخرج قد هيأ المشاهد لأجواء تلك الوجبة وما تعنيه من حميمية اللقاء العائلي· في بيت سليمان الذي غادره قبل سنوات لأنه انفصل عن زوجته، يجتمع كل يوم أحد الابناء والاحفاد والصهران الفرنسيان كذلك زوجة الابن الفرنسية الاصل، وينضم الى هذه الجمعة احيانا اصدقاء وصديقات للعائلة· وتصل وجبة الى الاب الذي يقيم في فندق متواضع تديره امرأة مهاجرة وابنتها ريم الشابة الصغيرة· وجبة الطعام الشعبية هذه تحقق نوعا من التواصل بين المجموعة، وربما هي شكل التواصل الوحيد المتبقي بين سليمان وزوجته السابقة التي تجيد صنع الكسكسي وتتلقى تقريظ الجميع، حتى ان الفتاة ريم تتلمظ وهي تشاركه الوجبة· هذه الفتاة هي التي ستساند العم سليمان في مشروعه وتذهب معه الى بلدية المنطقة لإتمام الاوراق الرسمية، فهي تتحدث الفرنسية بطلاقة بصفتها من الجيل الثاني من المهاجرين، وقادرة على تفنيد أي معوق للمشروع· بعد تردد البلدية والجهات الرسمية في منحه الترخيص تتم الموافقة، ويقرر سليمان دعوة هؤلاء المسؤولين الى حفل الافتتاح الذي ستقدم فيه الموسيقى العربية والوجبات ايضا على رأسها الكسكسي بالسمك الذي ستنجزه ام اولاده· كل العائلة كانت موجودة للمساعدة، حتى اصدقاء الاب من الموسيقيين المهاجرين المقيمين في الفندق المتواضع، يقررون احياء الحفلة من غير مقابل، دعما له· لكن المفاجأة المحبطة تأتي في نهاية الحفل عندما يتبين ان الابن الأكبر غادر بالسيارة التي تحمل وعاء الكسكي ليلتقي بعشيقته تاركا العائلة في حيص بيص وهم يبحثون عنه· يتنقل الاب بدراجته النارية ويذهب الى زوجته السابقة ليطلب منها ان تقوم بإعداد كمية اخرى، لكن الزوجة موجودة خارج البيت لإيصال كمية من الطعام لمتشرد يقيم في منطقة تبعد قليلا عن مسكنها· وما يزيد الطين بلة ان مجموعة مراهقين من المجمعات السكنية المحيطة استولت على الدراجة النارية في تلك الأثناء، وراح هؤلاء يدورون بها في المنطقة بصخب تاركين سليمان يلحق بهم بقلبه المتعب· أما حيث الحفل فقد بدأ الضيوف يتململون ويحكمون بسلبية على المشروع الذي فشل منذ اليوم الاول في الالتزام بخدمته· في تلك اللحظة يتفتق ذهن الفتاة ريم عن حل فتقدم وصلة رقص شرقي تبدع فيها معها فرقة الموسيقى بألحان شرقية حيوية، فينشغل الحضور بالتصفيق والفرجة· في المقابل تقوم صديقة الاب بتحضير كمية من الكسكسي في فندقها القريب لتنقذ الموقف، وتحاول البنات والابن الترفيه عن الضيوف وخدمتهم بلسان حلو· دور المونتاج يعمل المونتاج بطريقة متناوبة بين ما يجري داخل المطعم لحظة هذه الأزمة وجريان الأب خلف الأولاد لاستعادة دراجته· تتحرك أحداث المشهدين على ايقاع الموسيقى التي تعزف في الحفل، وكأن صوت الطبل هو قلب سليمان الذي يدق خوفا وألما وخشية الاحباط· لكن سليمان يسقط على الارض وينتهي العرض بنزول اسماء المشاركين في الفيلم ولا تزال الموسيقى إياها تدور، ويصفق الجمهور طويلا· هل مات الاب ام سقط من الاعياء فقط؟ الاجابة مفتوحة على الاحتمالين ولكن المشهدية الاخرى الموازية للسقوط تبعد الفيلم عن الاحباط، فمشروع هذا الرجل القادم من مكان ما في تونس قبل عقود لن يفشل، لأن هناك من سيتابعه بحب كبير· ملحوظات عامة يستخدم المخرج تقنية السينما التسجيلية كي يؤكد على حميمية العلاقة بين عائلة سليمان والعالم الخارجي، لذا حضرت اللقطات القريبة جدا التي تركز على ملامح وتعابير الوجه، والكاميرة المتحركة غير الثابتة، ودورانها بين الوجوه المجتمعة حول مائدة الطعام أو أمام باب الفندق· يقول كشيش في حواره مع الجمهور بعد هذا العرض الاحتفائي إنه أراد أن يظهر من خلال تلك اللقطات القريبة انفعالات فئة من الناس غيبت عن السينما الفرنسية، لذا هو يعطيها الفرصة لأن تعبر عن نفسها وانفعالاتها وان تقول الكلام المؤجل· ولكن كثرة اللقطات القريبة والمشاهد الطويلة تتعب المشاهد الى حد ما أثناء المتابعة، من ذلك مشهد هستيريا زوجة الابن وهي تشكو لوالده من علاقات زوجها العاطفية المتعددة وإهماله لها وللطفل، او تأنيب البنت المتزوجة لطفلتها التي لا تريد ان تتعلم الذهاب الى الحمام كي والتخلص من الحفاضات· هذه المشاهد الطويلة التي كان الكلام فيها يتكرر من غير اضافة جعل الفيلم يقارب الساعتين والنصف ساعة، وكان بالإمكان اختصارها قليلا، نصف ساعة ربما، من غير ان يؤثر ذلك على مسار الفيلم· لكن يبدو ان اعتماد الفيلم على سيرة شبه ذاتية لعائلة المخرج ساهم في هذا التطويل، جعله كأنما يميل الى توثيق مسيرتها في فرنسا من خلال عصامية والده وعطائه واندماج العائلة في المجتمع الفرنسي· من الملاحظات الأخرى على الفيلم ان المهاجرين يبدون فيه من غير شوائب تعكر صفو حياتهم في فرنسا، فهناك مساواة وفرص عادلة، وهناك مصاهرة تحدث ببساطة· بالطبع ليس المقصود هنا اظهار المهاجرين كضحايا دائمين في المجتمعات الاوروبية· ولكن الحياة هناك ليست بهذه السلاسة· لكن من إيجابيات الفيلم أيضا، تقديمه العرب في اطار البشر الذين يحتفون بالحياة من خلال الأكل والتواصل العاطفي من خلال الجسد، فهناك أحضان وقبلات كثيرة بين شخصيات العمل كأسرة او غيرها من العلاقات، وهناك رغبة في العيش بسعادة وفرح· كل ذلك مقابل الصورة الرائجة عنهم الآن في كونهم قوم يقدمون الموت على الحياة· كما أن رمزي القمح والسمك بحد ذاتهما تقدمه للفيلم على انه فيلم يحتفي بالحياة وهو رمز مستوحى من تراث المنطقة لطالما تبنته الشعوب· ممثلون غير محترفين الفيلم ممتع جدا رغم تلك المحلوظات، فقد قدم من خلال كوميديا سوداء حرضت الجمهور على الضحك طوال العرض· وما ساعد في تقديم المواقف بعفوية ان الممثلين في غالبيتهم تقريبا غير ممتهنين· الممثلة حفصية حرزي التي أدت دور ريم وفازت بأكثر من جائزة في المهرجانات الاوروبية كممثلة جديدة شابة وموهوبة، بحث المخرج عنها كثيرا حتى عثر عليها، وكان واضحا منذ اللحظة الاولى للقائه بها حجم الموهبة التي تحملها· المخرج عبد اللطيف كشيش اعتاد على العمل مع ممثلين هواة من هذا النوع سابقا، كما في فيلميه السابقين، فأفلامه تركز على حياة المهاجرين ويحتاج أشخاصا ينتمون الى تلك الفئة· فيلمه الأول ''غلطة فولتير'' مثلا كان عن شاب مهاجر وتجربة وجوده في باريس· أما الفيلم الثاني ''لعبة الحب والحظ'' فقد ربط خلاله بين مسرحية فرنسية تعود للقرن الثامن عشر مع واقع فرنسا الحالي، من خلال عرض يقدمه أطفال مدرسة في حي للمهاجرين من احياء العاصمة الفرنسية· فيلم ''كسكسي بالبوري'' حصل على أربعة جوائز من سيزار الفرنسية للعام 2008 التي هي بمثابة اوسكار للافلام الفرنسية· وهي جائزة احسن فيلم، احسن اخراج، احسن ممثلة، واحسن سيناريو بالاشتراك مع زوجة غالية لاكروا التي شاركته كتابة الفيلمين السابقين ايضا وهي ممثلة ظهرت في افلام مثل ''بيزنس'' لنوري بو زيد، و''صمت القصور'' لمفيدة تلاتلي· وأعتقد أن بصماتها واضحة في هذا الفيلم فالحوارات بين الشخصيات النسائية بدت مقنعة كثيرا، وتشي بأن وراءها امرأة تملك حساسية خاصة للاقتراب من عالم النساء
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©