الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحب الأعمى

الحب الأعمى
8 يوليو 2010 19:47
الآن فقط وبعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً اكتشفت صحة المثل الذي يقول «إن مرآة الحب عمياء» فما كنت متلهفة له بالأمس وقاتلت من أجله، وأشهرت كل الأسلحة دفاعاً عنه، هو نفس الذي أشكو منه اليوم وأريد التخلص منه مهما كانت الخسائر. كنت فتاة مدللة، من هذا النوع الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، أحلامي أوامر، لا يوجد في حياتي كلها معنى ولا مرادفات لكلمة الحرمان، هذه الكلمة عرفتها فقط في المسلسلات والأفلام والخيال والدراما أو من بعض الناس الذين قد أتعامل معهم في حياتي العامة مثل عمال النظافة، أو الخدم في بيتنا والحراس والسائقين وحتى هؤلاء لم أكن أشعر بأنهم يعانون من الحرمان لأنهم لا يشكون لي ولا تصل إلى معاناتهم، فأنا أعيش في رغد وكل ما اطلبه موجود، أو يتم توفيره في لحظات والحياة عندي هي الخروج والسهر والتنزه، واقتناء الملابس على أحدث صيحات الموضة، ومعها أدوات الزينة ومستحضرات التجميل، ولست وحدي الذي أعيش هذا في منزلنا، فإخوتي الذكور يجدون أيضا كل الرعاية والاهتمام، وتجاب مطالبهم مثلي تماما، فأموال أبي التي لا نعرف لها مدى أو حدودا كثيرة ووفيرة، كانت تكفي لأن نقضي الصيف في قارة، والشتاء في قارة أخرى حسب درجات الحرارة وفصول السنة، ولا تمنعنا غير الدراسة التي كنا نلتزم بها تماما، فلم يكن هذا الدلال والمال مفسدة بل كان إصلاحا وتقويما، وما دمنا لا نعاني العوز والحاجة فلا مبرر للشكوى، ولابد من التفوق وكنا نحققه ونكون أنا وإخوتي من الأوائل، وفيما بعد اكتشفت أن هذا هو المفتاح السحري وكلمة السر التي تجعل أبانا وأمنا يغدقان علينا إلى حد الإسراف، لانهما يريان في ذلك تشجيعا لنا لنواصل تميزنا في الدراسة، لانه مهما كان لدينا من المال الكثير، وما سنرثه منهما بعد عمر طويل فإن سلاح العلم أقوى وأبقي، وهو الذي يمكن أن ينمي المال والجهل يضيع الكنوز ولو كانت في حجم الجبال. وقد جمعت بين المال والجمال وهذا الجمال يحتاج إلى شهود آخرين، وقد كانوا كثيرين، بل كل من رآني وتعامل معي، يشهد بجمالي، وبأنه غير عادي، جذابة ألفت الانتباه لأول وهلة، ومع أناقتي وملابسي الثمينة، إضافة إلى الأموال التي بين يدي كانت شخصيتي قوية، فدائما أتعامل بحكمة وتأن، وتعلمت من أمي التروي في الرد، والتفكير في الكلمات قبل أن تخرج من فمي، دائما تقول لي انك تملكين الكلمات ما دامت داخلك لم تخرج، ولكنها تمتلكك إذا خرجت، حتى اطلق عليَّ زملائي وزميلاتي في الجامعة لقب «بيت الحكمة» ولا أنكر أنني كنت سعيدة بذلك كله، خاصة بعدما كنت اجني ثماره في نتائج تعاملاتي اليومية، وتزداد سعادتي عندما تلجأ إلى صديقة تطلب المشورة، فأقدم لها ما يأتي بخير ويحقق لها ما تريد، لكن جمالي وثرائي وحكمتي، كانت من ناحية اخرى سببا في تخوف الشباب من الاقتراب مني بعواطفهم، يرون أنني أعلى منهم بدرجات، والفوارق شاسعة، ويفترضون الرفض، لعدم الكفاءة بيننا، فكما هو سائد ومعروف في مجتمعاتنا، لابد من التقارب المالي والفكري والوظيفي، وهذه الأشياء يصعب اجتماعها كلها في شخص واحد ليكون مثلي وكما كانت ميزة، كانت لها آثارها السلبية فلا انكر أنني أنثى ولا يكفي فقط الثناء على جمالي وملابسي وأناقتي، بل ارغب ايضا فيمن تتحرك مشاعره نحوي مثل كل الفتيات. وفي نفس الوقت لست راغبة في علاقات عابرة، ولقاءات طائشة، فأنا من أسرة محافظة وملتزمة بتعاليم الدين، قد تتعجبون إذا علمتم أن كوامن الغيرة كانت تتحرك داخلي وأنا أرى الأخريات يتمتعن بهذه المشاعر، فيما هن يحسدنني على ما أنا فيه، كما هي طبيعة النفس البشرية، لا ترضى بما لديها مهما كان والإنسان دائما ينظر إلى ما في ايدي الآخرين، وجاءني طارق الحب على حين غرة، بلا مقدمات او استعداد، اقتحم قلبي اقتحاما بلا استئذان وتربع فيه، وتملك مشاعري وسيطر على كياني، كأنني مسحورة أو مسلوبة الإرادة، أو نائمة مغناطيسيا، أتلقى الأوامر وانفذها بلا تفكير أو اعتراض، الغريب أن هذا لم يكن من قبيل المراهقة والطيش، وإنما من قبيل الرشد والعقل، وكما تعلمون أنا المعروفة بالحكمة والآن قد تخطيت الثالثة والعشرين، تقدم لي كثيرون، لكن الرفض كان نصيبهم حتى قبل أن أتلقى خبر الخطبة، لأن أبي وأمي يتخذان القرار حيث يريان مواصفات محددة فيمن يستحقني وأنا صاحبة المال والجمال، وربما أكون قد ألمحت لأمي وأنا أعرف كم تحبني، بأنه يجب أن أشارك في القرار لأنه يخصني. أما هذا الزائر الغريب المفاجئ، فهو شاب وسيم ساحر أكثر من نجوم السينما، يعرف كيف يروض الأنثى ويتعامل مع مكنونات نفسها، يأسر بحديثه كل من يلقاه، وصريح وصادق إلى أبعد الحدود، وهذا هو الخيط الرفيع الذي شدني نحوه وتحول إلى حبل غليظ متين، فهو لا يخجل من أن يذكر انه يقيم في منطقة عشوائية ومن أسرة بسيطة او أقل من المتوسط، تكافح من أجل ضروريات الحياة ويعترف بأن أباه وأمه ذاقا الأمرين من أجل تربيته وتعليمه هو وإخوته حتى حصل على شهادته الجامعية، ولا ينكر أنه الآن عند نقطة الصفر، فلا يملك شقة ولا مالا يؤهله لذلك و»سر الخلطة» كما يقولون إنه لم يذكر لي كل هذه المعلومات من قبيل التعرف عليًّ أو الوصول إلى قلبي، وإنما هو معروف بذلك لدى الجميع، ولا عيب في أنني سعيت إليه وعرفته عن قرب، واعترفت له بمشاعري بعد أن عجزت عن إخفائها أو السيطرة عليها، فإذا به يعيدها على مسامعي كأنه يبرئ نفسه من أي اتهام بأنه أخفى شيئا عني، وأبدى استغرابه من أنني سأرضاه زوجا رغم كل هذه الفوارق التي تبدو كالبحر والمحيط بلا شواطئ او حدود، كأنه ينظر إليها بواقعية، بينما انظر إليها بالوهم والخيال. لم يكن تفكيري مطلقا أنني ارتدي ثوب الشجاعة أو الإقدام على التضحية، ولا أعيش دور بطولة وأنا اقدم على هذه الخطوة، بل بقناعة تامة وعن رضا كامل، فهذا هو الرجل الذي أريده، وقد ارتضيته شريكا لحياتي، إذا فأنا لا آمن عليه، بينما يلومني الآخرون على هذا ويرون أنني يمكن أن أتزوج من يفوقه في الإمكانات والمواصفات، وفي ذات اللحظة يحسدونه انه فاز بواحدة مثلي، وأنا ارفض هذين الرأيين معا، فنحن اثنان متوافقان، التقت مشاعرنا وتفكيرنا وهذا يكفي لحياة مستقرة وتفاهم. كأنني ارتكبت جرما غير مسبوق، عندما أخبرت أمي بمواصفات هذا الشاب وأنني أريده، ولم يكن رد فعل أبي وإخوتي بأقل منها، قامت الدنيا من حولي ولم تقعد، اعلنوا الثورة واتهموني بالجنون، بل واتهموه بأنه سحرني، فلا منطق فيما وصل لأسماعهم، كما يرون وكلما ازداد رفضهم ازداد تمسكي به، وكلما عددوا عيوبه، رأيتها مميزات، وهكذا كل شيء يسير عندي وقتها إلى ضده، حتى تفتق ذهن أبي عن فكرة من وراء ظهري عندما التقى به محاولا إقناعه بأن زواجنا محكوم عليه بالفشل مقدما، فأنا وهو مثل قضيبي القطار لن نلتقي أبدا وإذا التقينا فهذا معناه الهلاك، فإذا بأبي يسمع منه كلاما معقولا، قال له انه يحبني ولا يرى في الدنيا واحدة مثلي وان عدم ارتباطه بي يعني الموت، ولكنه في نفس الوقت لن يقبل أبدا أن يجبرني على ذلك، أو حتى يرتبط بي في حال رفض أسرتي، وعندما نما إلى مسامعي ذلك ازداد تمسكي به. وصلت الأمور إلى طريق مسدود، كأنني انطح الصخر ولا سبيل آخر أمامي، فقد استنفدت كل حيل الأنثى، وجفت الدموع من عيني لم يبق فيها ما تجود به، وسجنت نفسي في أحزاني، تغير لوني، ونحل جسدي، أصبحت مثل الوردة الذابلة فقدت نضارتي وحيويتي، والحرب لم تضع أوزارها بعد، لكنها مجرد استراحة محارب لحين ترتيب الخطط وتجهيز العدة والعتاد للمعركة الأخيرة الفاصلة، وبطبيعة هذه الحال لم تكن لي أي رغبة في الطعام، فتوقفت عن تناول أي شيء لعدم استطاعتي ذلك، وهنا جاء الفرج من حيث لا أحتسب إذ اعتبروا أن ذلك إضرابا عن الطعام، وعندما فاتحوني في الأمر ادعيت انه كذلك، فبحثوا الموقف في عجالة محاولين إنفاذي قبل أن أفارق الحياة، وما كان منهم إلا الموافقة التي أعادت روحي مرة أخرى. مع الظروف التي كان يمر بها حبيبي لا مجال للإسراع بالزواج بعد إعلان الخطبة، فهو بحاجة لمزيد من الوقت ليشارك ولو بالقليل في النفقات والتكاليف الباهظة وعندما امتدت الفترة إلى ما يقرب من العامين، اضطر أهلي للتدخل والمساعدة وتحمل العبء الأكبر واهمه الشقة التي اشتراها أبي وسجلها باسمي، فقد رفض أن أعيش في مستوى اقل مما نشأت فيه، وأثثها أيضا بأثاث راق، وبعد عودة الروح عادت إليَّ نضارتي وازداد جمالي بهاء وكنت كأنني عروس في كل يوم، أتعجل الحفل الكبير وان لم تكن هناك زيارات متبادلة بين الأسرتين، لكن خطيبي كان دائم التردد علينا. تحقق الحلم الصعب وتحول إلى حقيقة وكلما تذكرت الأحداث لا اصدقها، واستغرب أنها حدثت معي، وتأكدت أنني كنت محقة في اختياري عندما تبعت نداء قلبي، فأنا مع رجل يستحق من هي أفضل مني، احتواني وملأ حياتي، واشبعني من كلام الغرام وعوضني عن ضيق ذات يده، بالحب والحنان ورضيت لأن ذلك لم يكن خافيا عليَّ واعرفه بكل تفاصيله، وأكون مخطئة إذا قلت غير ذلك، لكن الصدمة الكبرى التي لم استطع تحملها هي التعامل مع أسرته، وهنا لا انتقد الفقر والبساطة، وإنما انتقد التصرفات والدونية، فهم يستخدمون ألفاظا سوقية، قد يكون بعضها خادشا للحياء، أو خارجا عن اللياقة، وكلمات لم تعتد اذني سماعها قط، ولست وحدي التي تستنكرها، وإنما أي شخص في الدنيا يرفضها، وعن تصرفاتهم، حدث ولا حرج، يفتقدون تماما أصول الاتيكيت حتى أنني أكاد أتقيا من طريقة تناولهم للطعام أو حتى شرب الماء، وتحاملت على نفسي من أجله، فهو يوم في الأسبوع ويمر كأنه عقوبة، صحيح انهم يقيمون في منطقة شعبية، لكن ما لم أتخيله أنهم يتعاملون ويتكلمون بهذه الطريقة. ورزقت بالطفل الأول وتلاه الثاني والثالث وبدأوا يشبون عن الطوق، وحدث ما لم يكن لي طاقة به، زوجي نفسه، يتعامل معهم بطريقة أهله وبألفاظهم، كأنه استدعاها من الذاكرة والماضي السحيق، ويريد أن يختلط الصغار بأقاربه اكثر حتى يعرفوهم ويرتبطوا بهم، هنا وقفت لأول مرة في حياتي لأقول له: لا وألف لا. ومعها دخلت المشاكل بيتنا لأول مرة واتهمني بأنني أريد أن أحرم أبناءه من أقاربهم وأنني أتكبر عليه، أو أعيره وباءت كل محاولاتي بالفشل في إقناعه بوجهة نظري وأبدى لي، الوجه الآخر لشخصيته والذي لم أره من قبل وظهرت الفوارق القديمة وعادت على الساحة فلا هو يقبل التغيير ولا أنا أقبل ضياع الأبناء، ووجد الذين تدخلوا للإصلاح بيننا انفسهم في حيرة وعجزوا عن تحقيق مهمتهم. مصلحة أبنائي كانت اكبر من الحب الذي قاتلت من أجله فطلبت الطلاق، ليخرج هذا الرجل الذي اصبح غريبا من حياتنا فأنا املك الشقة، والحضانة من حقي، لكن لو سألتني ما المشكلة؟ أقول إن أسرتي الآن تقف أمام رغبتي للمرة الثانية، فكما وقفوا رافضين هذه الزيجة، يقفون رافضين الطلاق، يرون انه لن يحقق لي ما اريد، ولن اجني من ورائه غير حرمان الأب من أبنائه، وحرمانهم من أبيهم ولا يخلو الأمر بين الحين والآخر من توبيخي وتذكيري بأنه اختياري، وأنني كنت سأموت من أجله، فلا أجد ردا ولا جوابا، غير أن أقول إن مرآة الحب حقا عمياء.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©