الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المتعة.. أن تقرأ «بورخيس» صيفاً!

المتعة.. أن تقرأ «بورخيس» صيفاً!
16 يوليو 2017 00:03
حسونة المصباحي (باريس) ثمة كتاب يمكن قراءتهم في كل الفصول. وبورخيس واحد من هؤلاء. ومؤلفاته تشبه مكتبة كونية فيها يمتزج الأدب بالفلسفة، والنثر بالشعر، والأسطورة بالواقع. وفيها تحضر ثقافات العالم القديمة والحديثة. لذلك أنا لا أمل من قراءة بورخيس في كل الفصول، خصوصاً في الصيف. وكم من مرة، حملت معي في رحلاتي الصيفية المجلد الأول أو الثاني من أعماله الكاملة الصادرة في طبعة «البلياد» الفرنسية المتخصصة في إصدار أعمال عباقرة الفكر والأدب في جميع الصور، ومن جميع الثقافات واللغات. وأول شيء يفتنني عند بورخيس هو دقته، وقدرته السحرية على الإيجاز. ففي صفحتين أو ثلاث،  يقدر أن يقدم للقارئ ما يحتاجه من معلومات عن كاتب، أو عن فيلسوف، أو عن شاعر، أو عن شخصية تاريخية، أو عن بلد ما. وفي قصيدة عن المكسيك، كتب يقول: كم من تشابهات! السهل والفارس، عبادة السيوف، المال والأكاجو، ثم صمْغُ جاوة الورع الذي يعطّر مخدعَ النوم وهذه اللاتينية المُهجّنة التي هي لغتك. كم من مفارقات! ميثولوجيا من الدم المنسوج من آلهتك الميّتة القديمة وعش الظلّ الذي يسبق النهار. لكن كم من أبديّات! قمر باحة البيت بطيئاً، خفيفاً، وغير مرئي، البنفسج الذابل، المنسيّ بين ورقات»ناجارا» والسيل الذي يعودت إلى الرمل من دون توقف والرجل الذي يتدبر أمره في فراشه الأخير لكي ينتظر الموت. هو يريده كاملا. وفي قصيدة يصف فيها استراحة قيلولة الصيف، كتب بورخيس يقول: حشْد من الشموس يحاصر البيت والوقت المذعور راكد خلف النوافذ الخضراء مثل القصب وعلى هامش كل شيء نحن نجد جسدنا مثل شررحات وتعاليق بلا جدوى إلى أن تفيض النواقيس ساكبة المساء والسماء الخاضعة تجثو ونحلم نحن بمشاهد مُتوقّعَة وفي مقال شهير تحت عنوان:«تفاهة عبادة الأنا»، كتب بورخيس يقول:» أريد أن أضع حداً للتبرير الاستثنائي الذي نخصّ به الأنا اليوم، وهو عمل يدفعني إليه يقين جدّ وطيد، وليس الرغبة النزوية لتنفيذ مناوشة إيديولوجية، أو عفرتة مثقف طائشة. أعتقد أن في استطاعتي أن أثبت أن الشخصية خطأ تسبب به الاعتداد والعادة، لكنه مجرد من الأسس الميتافيزيقية، ومن الواقع الخاص. وما أنا أتمناه هو أن أطبق إذن على الأدب النتائج المتمخضة عن هذه المقدمات المنطقية، مستنتجاً منها استيتيقا مضادة للميل إلى علم النفس الذي تركه لنا القرن الماضي». وفي نفس هذا النص، يُجْزم بورخيس بأن «الأنا لا وجود لها». وللتدليل على ذلك هو يروي القصة التالية: «كان عليّ أن أعود إلى بيونس آيرس تاركا في الجزر الخالدات صديقاً عزيزاً جدا. وقد أدرك كلّ واحد منّا أنه لن يكون في استطاعتنا أن نلتقي مستقبلا إلاّ في ذلك الجوار الكاذب والمختلف الذي هو الرسائل. وكان أن حدث ما يحدث في ظروف كهذه. كنا نعلم أن وداعنا سيتضح في ذاكرتنا، بل وجاءت لحظة حاولنا فيها إتمامه وسط انتشار مُلتهب للبواعث، بهدف حنين قادم. واللحظة الحاضرة، حصلت على فتنة الماضي وغموضه. لكن بالإضافة إلى بروز الأنانية، كانت ترنّ في داخلي الرغبة في أن أظهر قلبي عاريا إلى صاحبي. وكم كنت أود لو أنني أتخلّصُ  منه، وأتركه هناك وهو يخفق. ظللنا نتجادل على حافة الوداع قبل أن أدرك فجأة مثل يقين لا يقبل الدّحضَ أو الشك، أن هذه الشخصية التي نحن نُثمّنها، وبها نعتزّ بطريقة مفرطة للغاية، ليست ذات قيمة. وقد وعيت أنه لن يكون في إمكان لحظة مليئة، مطلقة، محتوية على جميع اللحظات الأخرى، أن تبّرر حياتي، وأنها قد لا تكون سوى مرحلة مؤقتة تزيل الماضي، متوجهة إلى المستقبل، وأنه خارج كلّ الأشياء العرضية، الحاضرة والظرفية، نحن لا شيء. وهكذا أصبحت أمقت هذا الافتنان بالألغاز والأحجية». في جميع أعماله، وأيضاً في العديد من المقالات التي كتبها، سوف يلتزم بورخيس بهذا المبدأ: لا وجود للأنا. وسيحاول دائماً أن يبين أن الأنا والآخر هما شيء واحد. بل إنه سينفصل عن ذاته ليكون مرة سارفانتس، مرة دانتي، ومرة هوميروس، مرة أحد السحرة في صحاري الشرق المترامية الأطراف.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©