الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفساد والاستبداد: ترابط بنيوي

9 يوليو 2010 20:28
محمد ديبو كاتب سوري دائما عندما تطرح مشكلة الفساد في العالم العربي، تطرح كقضية جزئية قابلة للحل بفعل إجراءات إدارية بحتة تتمثل بمحاسبة موظفين، ووضع قوانين وتفعيل قضاء.. إلخ، أي أن موضوع الفساد مازال يحارب بطريقة إدارية، بعيداً عن النظر إليه كمسألة سياسية تدخل ضمن إطار ما يمكن تسميته بناء الدولة الوطنية القادرة أو السير باتجاه بنائها على الأقل. وجهة النظر السائدة عربياً في مقاربة الفساد تقول بأن الفساد مشكلة كغيرها من المشاكل الإدارية التي تهدد كيان الدولة والسلطة التي تسعى بصدق لمحاربته، لكنها لا تمتلك الآليات اللازمة لذلك، بسبب عدم تبلور مفهوم واضح للدولة وبسبب غياب الوعي، وتصل وجهة النظر هذه إلى نتيجة مفادها أن السلطة خاصة في الأنظمة الشمولية تريد محاربة الفساد، لكنها لا تستطيع الوقوف عاجزة أمام تغوله وتمدده في كل شرايين الدولة التي اختزلت في مجرد بعض الأجهزة. لكن النظر إلى وجهة النظر السابقة من زاوية نقدية، ربما يوضح لنا أن الإصرار على تعميمها شعبياً، يجعلها نوعاً من أنواع الفساد المعرفي الذي تعممه السلطات وأركانها وأزلامها من أشباه المثقفين لإعطاء شرعية ما لأنظمة مستبدة تجعل من الفساد وتعميمه لعبتها المفضلة، في تدجين وتخريب وتركيع وتقطيع أوصال المجتمع الذي تحكمه هذا من جهة. ومن جهة أخرى تعمل وجهة النظر السابقة عبر تعميمها وترويجها على أنها المقاربة الصحيحة للفساد على إخفاء وتغطية الفساد الحقيقي، مرة عندما تغطيه معرفياً بعدم النظر إليه كما هو، ومرة عندما تحجب النظر عن الترابط القائم بين الفساد والأنظمة السلطوية. وهو ترابط يكاد يكون أبدياً، بحيث يمكن القول إن الاستبداد لا يستمر دون وجود أجهزة ترعى الفساد وتعممه. وفي هذا السياق يتداخل الفساد الشخصي مع الفساد العام في جدلية معقدة ومتراكبة على أكثر من مستوى، جدلية لا تسمح لنظيف يد أن يستمر في سلطة أو منصب. ونظافة اليد هذه هي أكثر ما يربك النظام الشمولي ويحيره، فهو من جهة بحاجة إلى أشخاص نظيفي اليد ليكونوا واجهة تغطيه، ومن جهة أخرى هو يحتاجهم لإدارة اقتصاد أنهكه الفساد ووصل مرحلة الترنح. وهكذا يجد النظام نفسه مضطراً للاستعانة ببعض نظيفي الأيدي، لكن إلى حين فقط، لأن إجراءاتهم تعمل في مرحلة أولى على كشف فساد بعض الرؤوس والإطاحة بها، وليس للنظام الشمولي في هذا مشكلة أبداً، لكن بعدها ستمس هذه الإجراءات البنى والأسس التي يقوم عليها النظام ككل، وخاصة أجهزة الأمن والاستخبارات. وهنا يجد النظام نفسه محاصراً بين من يرعون أمنه و"فساده" ويخربون اقتصاده بذات الوقت، الأمر الذي يدفعه إلى إنهاء المرحلة واختزال محاربة الفساد بإطاحة بعض الرؤوس التي تكون كبش فداء المرحلة. هكذا إذن يستخدم النظام الشمولي الفساد كأداة لإفساد المجتمع وتفتيته حتى يمكن السيطرة عليه وإخضاعه، والنظام يتمنى لو يستطيع إبقاء بيدق الفساد بيده وحده، لكن إحدى صفات الفساد أنه كالزئبق لا يمكن إمساكه، ينتشر في كل أنحاء المجتمع وينشر قيمه الخاصة به، لنجد بعد فترة أن الفئات الأكثر تضرراً من الفساد هي من يدافع عنه ويشرعه، ويصبح الفساد قيمة مجتمعية كاملة. ويصبح الناس عبيداً له مرتهنين لقيمه باحثين عن الثراء السريع بأية وسيلة، لتغيب قيم العمل والجد وتحل محلها الوصولية واللصوصية المشروعة. وهذا يؤدي في النهاية إلى تدمير مؤسسات القطاع العام وخسارتها لأنها تصبح محكومة بإدارة فاشلة وناهبة يضاف لها عمال لا يعنيهم ربحت المؤسسة أم خسرت. مما يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق دولة مشوهة ومعطوبة تعاني من أزمات وانسدادات بنيوية في كل مستوياتها. ويمكن القول أيضا إن الفساد كالماء؛ يتسرب بين الشقوق، بما فيها شقوق النظام نفسه، فيملؤها وينخرها إلى أن تحين لحظة الهتك الكبرى فيسقط كل شيء، لنجد أن الفساد حربة بيد النظام، لكنها أيضاً حربة ضده على المدى الطويل، إذ يعمل خصوم الأنظمة الشمولية على استخدام هذا الفساد لتوجيه حربته نحو نحرها. ربما يساعدنا ما سبق في فهم بعض أسباب فشل كل حملات الإصلاح التي تعلن بين حين وآخر، وبشكل خاص نفهم سبب فشل وجهة النظر القائلة بإصلاح الأنظمة الشمولية من داخلها، لأن الإصلاح الذي يطرح بشكل إداري بعيداً عن نقد المنظومة السياسية القائمة، وطبيعة الدولة، سيكون فاشلا، لأن الإصلاح لا يمكن أن يكون جزئياً، لابد أن يكون كلياً، ينطلق من مقاربة أسباب العطب بشكل جوهري وواضح، أي لابد من المعاينة بشكل كلي لا جزئي لأعطاب الأنظمة وهو غير ممكن في النظام الشمولي. يمكن الخلوص إلى نتيجة مفادها أن الفساد يعمل في خدمة الاستبداد ويسعى إلى تمكينه من السيطرة على مجتمعه وخنق قواه الحرة عبر تجريدها من كل وسائل مقاومتها المدنية، ليغدو الفساد شرطا واجبا لاستمرار الاستبداد، دون أن يكون الاستبداد شرطاً واجباً لاستمرار الفساد، لأن الفساد مرض ينتشر حتى في الدول التي تملك ديمقراطيات عريقة. ويتمثل الفارق بين الأنظمة الشمولية والديمقراطية حول مقاربة الفساد، في أن الأولى تتعامل مع الفساد من وجهة نظر سياسية وكلية، بينما تكتفي الثانية بالنظر إليه كمشكلة إدارية وجزئية. ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©