الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ظن أحداث الفيلم حقيقية

ظن أحداث الفيلم حقيقية
11 أكتوبر 2008 02:11
إذا عدنا اليوم للحديث عن بدايات ظهور السينما في الإمارات، فإن السؤال الذي كان مأهولا بالحيرة يدور حول نقطة واحدة هي: هل فن السينما في الإمارات محصور في الاستهلاك البصري فقط، وبمعنى آخر: هل هو فن مكتف بتواجده في الصالات التجارية، وبالتالي فهو يغطي جانبا من الحنين المفتقد والترفيه اللحظي للجاليات الوافدة والمغتربة؟ للإجابة على هذا السؤال لابد لنا أولا أن نتقصى جذور ومنابع وبدايات ظهور السينما في الإمارات، وهو بحث يستعيد محطات منسية ومهملة في الذاكرة الفنية والثقافية للمكان، فالعودة لهذه المحطات البعيدة أشبه بالتنقيب في صحراء مظلمة، يحار المرء عند محاولة البحث عن معلومات أرشيفية أو أخبار موثقة حول بدايات ظهور دور العرض السينمائية في الإمارات، فالمصادر التي تناولت مثل هذا الحدث الثقافي المهم تكاد تكون شبه معدومة في المدونات التاريخية للمنطقة، إن لم نقل أنها مغيبة تماما من قبل المؤرخين الذين كتبوا وبإسهاب عن بدايات وإرهاصات الصحافة المحلية مثلا، وعن تلك النقلة النوعية في التعامل مع الخبر ومع الثقافة السمعية التي وفرها ظهور المذياع أو (الراديو) في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي، وجهاز (الراديو) خصوصا هو الوحيد الذي حظي باهتمام واسع ومفصّل من قبل هؤلاء المؤرخين لأنه ارتبط بفترة تاريخية تعتبر حساسة ومفصلية في الإمارات وفي المنطقة، وهي فترة الحرب العالمية الثانية وما تلاها من مد قومي وتحرري ومن التفات نخبوي وشعبي كبير تجاه التغيرات الإقليمية والدولية التي أفرزتها النتائج السياسية والاقتصادية للحرب وما بعدها· ويشير الباحث عبدالله عبدالرحمن في كتابه المهم ''الإمارات في ذاكرة أبنائها'' إلى أن المدير الإنجليزي لمحطة مطار الشارقة، وكان يدعى السيد (جيمس) هو أول من أحضر جهاز الراديو في الإمارات في العام 1934 وذلك عندما دعا كل من عبداللطيف السركال، وابنه ناصر، وبحضور خان صاحب حسين ـ الملقب بعماد رجل الدولة البريطانية ــ للاستماع لهذا الجهاز العجيب في استراحة المطار· وستقود المصادفة الغريبة وحدها إلى احتضان ذات المحطة (القاعدة البريطانية في الشارقة) وبعد حوالي عشر سنوات (1945) لأول دار عرض سينمائية في الإمارات وفي الخليج، وذلك عندما فكر المسؤولون عن القاعدة في الترفيه عن طياريهم وأسرهم وعن الأطقم العاملة من خلال عرض الأفلام الإنجليزية الحديثة في الهواء الطلق، ومن خلال أجهزة تعمل بقياس 16 مليمتر· وهذه الدار المفتوحة على فضاء خارجي قاحل معرفيا وثقافيا، ستمثل الصدمة البصرية الأولى للأهالي المحليين الخارجين لتوهم من الصدمة السمعية التي سبّبها ظهور (الراديو)، وستساهم هذه الدار في خلق أول نوع من الاحتكاك البصري مع الشاشة الفضية في مكان لم يكن مهيئا لمثل هذه التجربة الفنية والثقافية الكبيرة، والتي للأسف ونظرا للأمية التعليمية المحيطة بالمكان لم تؤد سوى لترسيخ ثقافة الفرجة، لا ثقافة التذوق والبحث والإنتاج السينمائي، فعندما فتحت قاعدة القوة الجوية الملكية (Royal Air Force) أو كما ينطقها الأهالي اختصارا (إيه آر إف) أبوابها وبأسعار رمزية لمشاهدة الأفلام الأجنبية، تحولت الفرجة إلى طقس مشاهدة سبق ظهور التلفزيون بفترة طويلة ولكنه اختفى وقل تأثيره بعد انتهاء دور القاعدة البريطانية ورحيل الإنجليز وتركهم لإرث عابر ومتبخّر من الوعي البصري والثقافي، والذي اندحر بدوره مع الفيضان التحرري والقومي الرافض لكل ما هو قادم من الغرب ومن البلدان الاستعمارية الناهبة لثروات الشعوب العربية ــ حسب التصور العاطفي والكلاسيكي والشمولي للثورة ــ والذي لم يتح أية فرصة للتقارب والاحتكاك الثقافي مع الآخر الغريب والمختلف، حتى لو كان ذلك من خلال وسائط محايدة كالراديو والسينما· شاشات الصحراء في الخمسينات وما بعدها سيظهر ما يسمى بالقوافل الثقافية التي ستقوم من خلال سيارات (الجيب لاندروفر) المغطاة، بعرض أفلام سينمائية إنجليزية وأميركية، وأفلام أخرى توعوية وثقافية في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية، وفي أواسط الستينيات وبداية السبعينيات، ستظهر في دبي والشارقة ورأس الخيمة وكلباء ومناطق أخرى متفرقة بعض الدور السينمائية التجارية البسيطة والبدائية في وسائل عرضها وأماكنها المخصصة للجمهور كي تعرض أفلاما عربية قادمة من مصر ولبنان، ولم تستمر هذه الظاهرة كثيرا نظرا لفقر الإنتاج السينمائي العربي ودخول الفيلم الهندي الغزير إنتاجا والمتنوع شكلا كمنافس قوي ووحيد لم يزاحمه أي نتاج سينمائي آخر في غزو الصالات المحلية البدائية المحاطة بجاليات هندية وباكستانية والمعززة بقبول محلي وشعبي واسع، نظرا لتوفر الفيلم الهندي على خيارات ميلودرامية وترفيهية مألوفة ومحببة عند قطاع كبير من الشريحة المجتمعية المتعطشة آنذاك لهذه النوعية من الأفلام· فبعد خفوت التواجد الإنجليزي في الإمارات المتصالحة، ظهرت في الشارقة أواخر الخمسينات سينما تسمى بـ (سينما هارون) وكانت تقع في آخر شارع العروبة مقابل السوق المركزي حاليا، وحيث أن هذه السينما لم تكن مسقوفة فإن عروضها كانت تقع تحت رحمة الظروف الجوية، ولكن عشاق الأفلام كانوا يصمدون ويستمرون في المشاهدة حتى لو كانت تمطر بغزارة، وكانت الكراتين والأوراق المقواة هي مظلاتهم البدائية التي يحتمون تحتها، وكانت العروض في هذه السينما تبدأ في الساعة التاسعة مساء، وكان يوم الاثنين من كل أسبوع مخصصا للنساء فقط، وفي الفترة ذاتها تقريبا كانت هناك سينما في دبي تسمى (الوطن) لصاحبها صالح العصيمي، وفي رأس الخيمة ظهرت سينما (النخيل) في الستينات، وفي كلباء كانت هناك سينما أنشأها شخص يدعى (مظفّر)· وكان الفيلم الهندي ''الألوان التسعة'' هو أول فيلم سينمائي طويل يشاهده سكان الإمارات بمناسبة افتتاح سينما (هارون) العام 1958 وكان العرض مجانا وحضر الافتتاح صاحب السمو الشيخ صقر حاكم الشارقة آنذاك وجمع غفير من المسؤولين والأهالي· أما فيلم ''عنتر وعبلة'' من بطولة سراج منير فكان أول فيلم عربي وعرضته سينما (الوطن) بدبي، وسبق هذه الأفلام سيارات الإنجليز التي كانت تأتي لمنطقة المصلى في الشارقة وتعرض أفلاما أجنبية، وكان الأهالي يفترشون التراب في الهواء الطلق، ويشاهدون الفيلم من خلال (بروجكترات) تعمل من داخل السيارة وتعكس صورها على شاشة منصوبة على رمال الصحراء، وكان لهيئة تدعى (مجلس التطوير) بعد ذلك، دور في تفعيل عمل القوافل الثقافية من حيث إشاعة الوعي بين الأهالي من خلال الأفلام الدرامية والوثائقية والتوعوية، وحتى من خلال الأفلام التي تناولت الجانب الصحي والطبي· ثقافة التسامح أما سينما الشارقة الشهيرة التي ظهرت أوائل السبعينات فكان يملكها كل من أحمد الملا وسلطان العويس وكانت صالة عرض سابقة لعصرها، وتعتبر من أفخم وأكبر السينمات التي ظهرت في الإمارات تلك الفترة، كما أنها احتوت على مرافق ترفيهية كثيرة، وساهم وجود السينما وإقبال الناس عليها بكثافة في إنشاء مطاعم يديرها مواطنون ومحال كثيرة شكلت ما يشبه المجتمع التجاري النابض والحيّ في المنطقة المحيطة بالسينما، وبموازاة دور السينما التجارية هذه كانت هناك أندية ثقافية تعرض أفلاما خاصة كما حدث في النــادي الثقــافي العربــي ونــادي شــركة البــترول (البي بي) والنادي الهندي والنادي الباكستاني ونادي الجيش، أما أول من أحضر الأفلام العربية إلى المنطقة فكان شخص من لبنان يدعى (الصابوني) وكان هو الموزع الوحيد لهذه الأفلام في دبي والإمارات الأخرى· وكانت صالات سينما (ميترو) في منطقة البحيرة حاليا بالشارقة، وسينما (النصر) هي الوحيدة التي لم تكن تعرض أفلاما هندية، وكأنها تغرد وحيدة خارج السرب· وفي منطقة السطوة بدبي كانت هناك دار سينما تعرض الأفلام الإيرانية فقط، وكانت هذه الأفلام أكثر واقعية وأكثر تناولا للمشاكل الإنسانية والاجتماعية مقارنة بالأفلام الهندية المليئة بالمشاهد اللامعقولة وبالأبطال الخارقين والأحداث التي لا يمكن أن تتحقق سوى في الأحلام! وسبب طغيان الأفلام الهندية على دور العرض في ذلك الزمان يعود إلى الخلطة السحرية لهذه السينما والتي تجمع بين الميلودراما والأغاني العاطفية والمواضيع الخيالية التي جعلت جيوب موردي هذه النوعية من الأفلام تمتلئ ذهبا! وعن المفارقات والطرائف التي صاحبت الظهور الأول للأفلام يتناول الأهالي قصة ذلك الحارس أو (المطارزي) الذي اعتقد أن الأحداث التي كانت تجري في فيلم ''عنتر وعبلة'' هي أحداث واقعية وحيّة، فقام بتصويب بندقيته على الشاشة كي يدافع عن عبلة قبل أن يهاجمها الأعداء في الفيلم! ومن الطرائف الأخرى التي يوردها الرواة الذين عاصروا تلك الفترة أن بعض الأشخاص كانوا يحضرون معهم أثناء مشاهدتهم للأفلام الهندية في السينما مسجلات (الريل) القديمة، وكانوا يسجلون كل ما يرد في الفيلم من أغان وحوارات، وفي طريق عودتهم الطويلة مشيا على الأقدام كانوا يعيدون سماع الفيلم مرة أخرى ويستعيدون كل أحداثه وبالتفصيل! إن وجود هذه السينمات القديمة في الإمارات ساهم بشكل أو بآخر في خلق مناخ من الحرية والفضول والمغامرة والرغبة في السفر، ورؤية العوالم السينمائية كما هي في أماكن تصويرها الحقيقية، لقد خلقت هذه السينمات ثقافة التسامح مع الجنسيات والديانات الأخرى، وثقافة الحوار والمرونة والتبادل المعرفي مع الآخر، ورغم أن معظم هذه الأفلام كانت قائمة على عنصرين أساسين هما الخيال والمبالغة الدرامية، إلا أنها ساهمت في تكوين الملامح الأولى للتمثيليات والسهرات التلفزيونية والأعمال المسرحية في الإمارات أواسط الستينات وما بعدها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©