الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كونفوشيوس.. الحكمة على ظهر سلحـفاة

كونفوشيوس.. الحكمة على ظهر سلحـفاة
18 يوليو 2017 20:24
ماذا تبقى من كونفوشيوس.. فيلسوف الصين العظيم الذي اغتاله السياسيون ومجَّده الفقراء والبسطاء وعظم فكره العلماء.. فلسفته كانت مصدر دساتير العديد من الملوك، وأثره على الأجيال ما زال يلهم الآباء فيدفعون بأبنائهم إلى معاهد تدرّس فكره: الأخلاق، الإخلاص، الحكمة، والشجاعة.. ذلك الرباعي الذي يهذب النفوس والسلوك ويقوم الإنسان.. كان الإنسان وحيه الوحيد، وسعى إلى رسم طريق الخلاص له في هذه الحياة الفانية.. اقترب من السماء حتى أوشك أن يكون موحداً، في وسط تعددت فيه الآلهة والأديان.. سما بالخُلـُق، وسبق أفلاطون بمدينته الكاملة وفضائلها، كان ملكاً دون أن يتوج أو يحكم، وأرسى «فن الاستدلال».. أسموه «النبي» لكنه كان يرفض ذلك، وكان يكتفي بأن يكون إنساناً.. فماذا تبقى منه؟ في أقصى شرق كوريا الجنوبية، في مدينة كانج ننج الجميلة المحاطة بالجبال، والتي تزينها غابات الصنوبر والبامبو الأسود، وحيث تصدح روائح أشجار الكرز بألوان أزهارها الوردية والبيضاء، وحيث الطبيعة أكثر حناناً على البشر من البشر أنفسهم، يرتكن معهد هيانج جيو منذ 704 أعوام، والذي يتلقى فيه مريدو الكونفوشيوسية تعاليم «المعلم الكبير»، وتنتشر على أحجار قديمة قدم المعهد مفردات أساس الفلسفة الكونفوشيوسة: الأخلاق، الإخلاص، المعرفة، والشجاعة.. تحملها «سلحفاة» الحكمة التي ربما هي العنصر الخامس أو حجر الأساس في فلسفة «المعلم». لكن التاريخ هذا وحده لا يشفع لعظمة الفكر الفلسفي الذي بنيت عليه ممالك بأكملها، فالمعهد بأبنيته القديمة المصنوعة من أشجار الصفصاف والصنوبريات والبامبو الأسود، يجثو يسار مدرسة ثانوية (سونج جن كوانج)، ويبدو خالياً إلا من بعض التلاميذ الذين يحلو لهم أن يشاركوا في الاحتفالات الدينية لما أصبح يسمى بـ«الديانة الكونفوشيوسة» أو لنقل المعتقد الكونفوشيوسي. في المعبد الذي يفتح في منتصف كل شهر، لطقوس كانت عظيمة ثم تقلصت إلى إطلاق البخور وتلاوة التعاليم، ثم تناول النبيذ والطعام، يدرس اليوم 136 تلميذاً، بعدما كانوا 3 آلاف وفقاً للمشرف على المعهد كيم نام تشول، الذي أكد أن «الطلاب لا يدرسون فعلاً الفلسفة الكونفوشيوسية اليوم، بل يشاركون في المراسم الموسمية والتقليدية للمعتقد الكونفوشيوسي»، مضيفاً أن «عدد أتباع هذا المعتقد في كوريا الجنوبية مليون فرد فقط» منهم 300 ألف شخص هم أعضاء اتحاد الكونفوشيوسية، بين 50 مليون كوري. ورغم ذلك تجد الرئيس الكوري يشارك في مراسم الاحتفال السنوي أو ما يسمى بمراسم «سونج يونج»، مها كانت ديانته. كان تشول فخوراً بأن الكوريين قدسوا الفيلسوف الذي استلهمت مملكة جوسون دستورها من تعاليمه، بينما قتله النفوذ السياسي للصينيين الذين هدموا معابده أينما حلوا، ثم عادوا إلى تقديره في العصر الحديث بعدما ملأت شهرته الآفاق. ويؤكد أن الأجيال الجديدة لا تأبه بالتعاليم الكونفوشيوسية، مع سواد اللاديانة في كوريا الجنوبية، والتي يبلغ تعداد مريديها أكثر من 56%، مضيفاً بعبرة توشي كلماته: «إنها الديانة التي تفقد الطاقة»، مشيراً إلى أن القاعات التي كانت تشهد تطبيق تعاليم الكونفوشيوسية وتدريسها، تحولت اليوم إلى صالة للأعراس، لأتباع المذهب. ولم ينس تشول أن يذكر قبيل مغادرتنا المعهد العتيق، أن «كونفوشيوس ولد قبل 500 عام من ميلاد نبي الإسلام».. فهل أراد الإيحاء بأن كونفوشيوس اقترب من التوحيد وأرسى مفاهيم الخلق الرفيع التي أرساها رسولنا الكريم..هل هي رسالة بأنه: «يمكننا اقتسام القيم التي نؤمن بها.. فقد شبت وشابت عليها ممالكنا».. تلك إشارة لا بد من فك رموزها بمفردات حياة الرجل الذي أرسى «الفضيلة الكاملة» وقتل بسببها. الماضي.. عصر الإنسانية الذهبي كان ما ميز كونفوشيوس بين الفلاسفة نظرته إلى الحياة واعتقاده الراسخ بأن العصر الذهبي للإنسانية كان وراءها، أي في الماضي، وهو لذلك كان يحن إلى الماضي ويدعو الناس إلى الحياة فيه. ولقي ذلك معارضة الحكام والعامة، واشتدت تلك المعارضة بعد وفاته خاصة عندما حكم الصين ملوك أحرقوا كتبه وحرموا تعاليمه، ورأوا فيها نكسة مستمرة، لأن الشعوب يجب أن تنظر أمامها، بينما هو يدعو الناس للنظر إلى الوراء. وكونفوشيوس أول فيلسوف صيني يقيم مذهباً يجمع كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي، إذ تقوم فلسفته على «القيم الأخلاقية الشخصية». وقد أثرت تعاليمه المفرطة في مثلها وقيمها، بشكل عميق على الفكر والحياة الصينية والكورية واليابانية والتايوانية والفيتنامية. ووفقاً لمصادر متنوعة، فإن كونفوشيوس أو «كونج المعلم» ولد في عام 551 ق.م. في بلدة شانتونك (شمال الصين) وتوفي سنة 479 ق.م.، أي قبل ولادة أفلاطون (427 - 347 ق.م.) بـ 52 عاماً، ليسبق بذلك أفلاطون في طرح نموذج «الدولة الكاملة»، أو «المدينة الفاضلة».. ولفظ اسم كونفوشيوس هو الصيغة اللاتينية لاسم الفيلسوف الصيني الكبير «كونج فوتسو» الذي يعني «الملك الفيلسوف». وفي سطور قليلة لا تفيه حقه، خاض كونفوشيوس صراع البقاء مع والدته، فكان يعمل بعد الفراغ من الدراسة لإعالتها، أتقن الرماية والموسيقى. تزوج في سن التاسعة عشرة وطلق زوجته بعد أربع سنوات. أنجب ابناً واحداً ترك له حفيداً اسمه «تزوتس» أصبح هو الآخر فيلسوفاً وقام بدور مهم في نشر فلسفة جده. في عمر 22 عاماً، بدأ يشتغل في التعليم وأقام مدرسة يدرس فيها: التاريخ والشعر وآداب اللياقة. كان كونفوشيوس يردد: «وقتما كنت في الخامسة عشرة وقفت نفسي على الاطلاع، فلما بلغت الثلاثين توطدت معلوماتي، فلما أصبحتُ في الأربعين زالت شكوكي، وفي الخمسين ميزتُ إرادة السماء، وفي الستين كنتُ مستعداً للإصغاء إليها، وفي السبعين تيسر لي إطاعة رغبة قلبي دون أن أتجاوز ما هو حق». جال الرجل في الأقاليم الصينية يدعو أمراءها وأهلها لاتباع تعاليمه في المثل والأخلاق والسلوك الفاضل، داعياً إلى أن «الحكومة يجب أن تخدم الشعب»، لكن ذلك كان يجر عليه الويلات، رغم أنه في بعض الأقاليم كان يحظى بوظيفة مهمة كوزير للعدل، لكنه في الإجمال كان يواجه اضطهاد الناس له في رفض تعاليمه. ورغم ذلك أضفى الصينيون هالة من التقديس على المعلم «كونج» بلغ حد المبالغة في نسب جميع ما أنتجه الفكر الصيني في جميع عصوره إليه.. لا بد من الإشارة هنا إلى أن للفلسفة الصينية ستة مراجع عظام تسمى بـ«المراجع الستة»، وهي: كتاب التغيرات، كتاب الأناشيد، السجلات التاريخية، كتاب الطقوس، حوليات الربيع والخريف وكتاب الموسيقى. وكان كونفوشيوس يستخدمها في تثقيف مريديه وتلامذته، لكن ريتشارد ويلهلم الذي ترجم كتاب التغيرات من الصينية إلى الألمانية، وسي جي يونغ الذي نقل ترجمة ويلهلم إلى الإنجليزية، أكدا أن كونفوشيوس استند في كثير من تعاليمه إلى كتاب التغيرات، وقد تأكد ذلك لي بزيارة المتحف التاريخي للقصر الملكي حيث ذكرت المخطوطات المعروضة أن كتاب التغيرات كان سند كونفوشيوس في رسم معالم الطريق إلى المدينة الكاملة. لقد كان غريباً عندما تسأل الجيل الجديد من الكوريين عن كتاب التغيرات «آي تشينج»، أو عن كونفوشيوس، ويجيبونك بأنهم لا يعرفون الكتاب أو الرجل الذي طبقت شهرته الآفاق. وتذكر المصادر، أن كونفوشيوس توفي بين الثانية والسبعين والثالثة والسبعين من عمره، وسمعه بعضهم يوماً من الأيام يغني في الصباح الباكر تلك الأغنية الحزينة: سيُدَكّ الجبل الشاهق دكا، وتتحطّم الكتلة القوية، ويذبل الرجل الحكيم كما يذبل النبات. ولما أقبل عليه تلميذه تْزَه - كونج قال له: «لن يقوم في البلاد ملك ذكي أريب، وليس في الإمبراطورية رجل يستطيع أن يتخذني معلماً له، لقد تصرم أجلي وحان يومي»، ثم آوى إلى فراشه ومات بعد سبعة أيام من ذلك اليوم. تحقق نجاح كونفوشيوس بعد موته، ولكنه كان نجاحاً كاملاً. لقد كان يضرب في فلسفته على نغمة سياسية عملية حببتها إلى قلوب الصينيين بعد أن زال بموته كل احتمال لإصراره على تحقيقها، وإذ كان رجال الأدب في كل زمان لا يرتضون أن يكونوا أدباء فحسب، فإن أدباء القرون التي أعقبت موت كنفوشيوس استمسكوا أشد استمساك بمبادئه، واتخذوها سبيلاً إلى السلطان وتسلم المناصب العامة، وأوجدوا طبقة من العلماء الكنفوشيين أصبحت أقوى طائفة في الإمبراطورية بأجمعها. يتلخص المذهب الأخلاقي والسياسي عند كونفوشيوس في أن أي نظامٍ اجتماعيّ صحيحٍ ومتكامل، إنما يقوم على تزويد الأفراد بالأخلاق الحميدة، وهذا يتحقق بالتربية والتعليم إلى جانب وجود حاكمٍ على خلقٍ قويم، يكون قدوةً لشعبه ونموذجاً يحتذي به الجميع. ويرى كونفوشيوس أن الأخلاق إذا وصلت في المجتمع إلى مستواها المنشود أغنت عن القوانين والتشريعات والقضاء. ويرى أن الفرد إذا ما تم تعليمه وتربيته أخلاقياً، فإنه سينقل ذلك إلى أسرته، ومن الأسرة إلى المجتمع، ومن ثم إلى الإنسانية كلها، كما يرى أن على الحاكم أن يكون «أباً للشعب»، يكرس نفسه له، ويعطف عليه، ويستمع لصوته.  وقد حاول كونفوشيوس أن يرطب حياة الناس الجافة عن طريق الموسيقى، إلى جانب بعض الفنون الأخرى كالشعر والغناء والرقص، لكي يرهف مشاعرهم ويعودهم على الإيقاع المنتظم، بهدف تقريبهم من قانون الطبيعة المتناغم الذي يتوازى تماماً مع القانون الأخلاقيّ في الإنسان الأصيل.  وبهذا الشكل استطاع أن يقدم للصينيين مذهباً تقوم أركانه على الأخلاق والسياسة والطقوس الدينية المتوارثة، ثم الآداب والفنون، وهو الأمر الذي جعلهم يعتبرونه (ديناً) ما زالوا يتمسكون به حتى اليوم. البروفيسور جن جونج شين: المعلم كونج جمع الفضائل المتناثرة في نصه الخاص اهتم الفكر العربي كثيراً بفلسفة وفكر العالم الصيني كونفوشيوس، الذي لم يقتصر تأثير فكره على آسيا، بل انتقل إلى العالم، وبخاصة الفكر القديم، ورغم أن بعض كتب كونفوشيوس ترجمت إلى العربية، فإن الوسط العربي نادراً ما يلتقي بعلماء آسيويين يتحدثون عن فلسفته وتأثيرها في الفكر العالمي. في سيؤول كان لـ«الاتحاد الثقافي» فرصة لقاء البروفيسور جن جونج شين، رئيس قسم الفلسفة الكونفوشيوسية في جامعة «سكّو» (SKKU) التي وجدت أصلاً منذ 600 عام، على أساس معهد يدرس التعاليم الكونفوشيوسية، ثم لم تلبث أن توسعت إلى جامعة كبيرة تدرس كل العلوم الإنسانية، وفيها كلية متخصصة في الفلسفة الشرقية وفرع يختص بفكر وفلسفة كونفوشيوس. كانت اللغة حاجزاً كبيراً في فهم أفكار رجل خصص حياته وعلمه لتدريس فيلسوف كبير مثل «المعلم كونج»، يفخر الكوريون بأنهم احتووا فكره وبنوا له المعابد والمعاهد، ورغم أن المترجمة التي رافقتنا تجيد العربية واجتهدت في محاولة إيصال المعاني، لكنني شككت بالمعاني البسيطة التي نقلتها عن حديث البروفيسور شين، كان غريباً أن يجيب رجل وصل إلى هذه الدرجة العلمية بمفردات بسيطة لا تحمل إجابات شافية عن أسئلة كبيرة بشأن فلسفة كونفوشيوس. وعلى سبيل المثال، لم تتمكن المترجمة من نقل «فن الاستدلال» الذي ابتكره كونفوشيوس، وبقينا نحاول تفسير معنى الاستدلال لتنقله إلى الكورية، فجاء جواب البروفيسور دون أي دلالة على السؤال أو عن «الاستدلال» كطريقة علمها كونفوشيوس لتلاميذه وكانت أساس أسلوبه في الوصول إلى الحقيقة.. ولا بد من الإشارة إلى أن «الاستدلال» هو طريقنا في معرفة الخالق ووجوده، كجزء من الإيمان، فإذا كان كونفوشيوس ابتكره وعلمه تلاميذه، فلا بد أن ذلك ما قاده إلى أن يقول مقولته الشهيرة «إن السماء تسمعني، وأنا قريب منها»، الأمر الذي لم أحصل أيضاً على جواب شاف بشأنه من البروفيسور شين، وأعتقد أن اللغة هي العائق الأصلي في ذلك.. الأمر الآخر الذي كانت اللغة سبباً في عدم الخوض في تفاصيله، كان كتاب «التغيرات» الصيني «إي تشينغ» وهو الكتاب الذي استند كونفوشيوس إليه في كثير من أفكاره، رغم أن البروفيسور حاول أن يوضح أهمية الكتاب بشكل مبسط. ومثل ذلك كانت المقارنة التي ساقها البروفيسور شين بين الأديان في فلسفة «المعلم كونج» بسيطة.. ولم أستطع سؤاله عن مقارنة دولة كونفوشيوس الكاملة بالمدينة الفاضلة لأفلاطون، فقد كان الوقت أكبر كل العوائق. كان اللقاء رغم ذلك مفيداً. جوهر الحكمة * ماذا عن القيم التي تركها كونفوشيوس؟ ** قبل أن أجيب، أتمنى أن تتاح مجالات أوسع لتبادل الفكر، فنحن أولاً أبناء قارة واحدة، كانت من أهم الأماكن التي أنتجت فكراً تأثرت به كل أرجاء المعمورة. وبالعودة للسؤال فإن اهتمامنا ينصب في دراسة الفكر الكونفوشيوسي على التعاليم التي تعطي قيمة للإنسان، فقد اهتم الفيلسوف الكبير بالإنسان، ولذلك ترك له جوهر حكمته وهي: (الحب، العدل، الاحترام، الأخلاق، الحكمة والمعرفة). ورغم اختلاف اللغة، فإن مضمون هذه الحكمة ومفاهيمها، وجدت عبر العصور في حضارات كثيرة ومنها الحضارات العربية، لكنها هنا مع كونفوشيوس تحولت إلى تعاليم تبناها الكثيرون، بل إن ممالك بأكملها بنت دساتيرها على تلك التعاليم. * إلى أي مدى ما زالت فلسفة كونفوشيوس تؤثر في الفكر العالمي اليوم؟ ** إذا عدنا للماضي، نجد أن مملكة جوسون هي دولة كونفوشيوسية إذا صح التعبير، فقد كانت تدار وفقاً لمعتقدات كونفوشيوس. وعلى سبيل المثال، فإن أي موظف حكومي في مملكة جوسون، يجب أن يقرأ كتاب التعاليم الكونفوشيوسية واسم الكتاب (ساسا أو كيون)، ثم يمتحن من قبل المسؤولين بهذه المعتقدات ليدخل في إطار الخدمة المدنية، أي أن يكون موظفاً في الدولة. وفي زمن أسرة هان المالكة درج الأباطرة الصينيون على اختيار موظفي الدولة بطرح امتحان يعتمد إلى حد كبير على معرفة تعاليم وآداب كنفوشيوس. وفي الدولة الحديثة، لا توجد شروط مثل هذه للموظفين الذين يرومون شغل وظيفة ما، فقد ابتعدت الأجيال الحديثة عن هذه القيم والتعاليم الموروثة، وبنيت المجتمعات على قوانين أخرى حديثة. بعض هذه القيم الفكرية ما زالت تؤثر في الناس ولكن بشكل اختياري، إنها تؤثر في مجال الثقافة والفن، تعلقت بها بعض البلدان مثل كوريا واليابان وبالتأكيد الصين التي ينحدر منها الفيلسوف. الحكومة تخدم الشعب * كان كونفوشيوس يؤمن بأن الحكومة هي لخدمة الشعب وليس العكس، هل كان هذا أحد أسباب كره السياسيين له؟ ** هذا هو الفكر الأساسي عند الإنسان الكونفوشيوسي، «سن سن» هي الأخلاقيات المثالية، لذلك فالإنسان يتأثر بالبيئة والظروف.. نعترف بذلك، لكن دولة كونفوشيوس يجب أن توفر البيئة والظروف المناسبة ليكون الشخص مثالياً وعمله مثالياً، لذلك يركزون في تلك الدولة على تحسين ظروف الحياة بشكل خاص، ويركزون على الثقافة الصحيحة للإنسان. إنها الدولة الكاملة. * كونفوشيوس في بعض مراحل حياته كان يقول إن السماء تفهمه وهو قريب إليها، هل اقترب من التوحيد؟ ** بالتأكيد، هناك أبعاد دينية لفكره والقيم التي أرساها، لكن أتباعه ليسوا موحدين.. وأنا منهم.. نحن لا نؤمن بالوحدانية مثل المسيحية والإسلام، نحن نؤمن بأن أحد الأجداد إذا مات فإنه يذهب إلى السماء. نحن في جامعة «سكّو» نكرس تدريس العلماء الذين كرسوا حياتهم لتطوير الكونفوشيوسية، ندرس ما دعا إليه كونفوشيوس من تقويم الإنسان إلى الأفضل، وفقاً لما رآه كونفوشيوس وامتلأت تعاليمه به.. لقد أفلح في إقامة مذهب يتضمن كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي. * إذن، ما الذي قصده بقوله إن السماء تفهمه وأنه قريب من السماء؟ ** كنا نعتقد في القرن الثالث عشر أن السماء وفقاً للكونفوشيوسية الموروثة، شخص هو الذي يختار السياسي القادر على إدارة البلاد، لكن الكونفوشيوسية الحديثة أو لنقل الذين نقلوا الفكر الكونفوشيوسي أوضحوا أن المفهوم مختلف، فالسماء ليست شخصاً، وفي القرن السادس عشر ضعفت هذه العلاقة مع السماء، حتى تلاشت في العصر الحديث. لقد ترك كونفوشيوس معتقدات بأن هناك نظاماً للعالم يدار وفق نمط معين بترتيب، لكن مع تقدم الزمن، انعكست المفاهيم، اتخذت مسارات عكسية. كونفوشيوس سعى إلى تهذيب النفس عبر السيطرة على الغريزة، لكن مع الزمن انطلقت الغريزة وسادت. بحثاً عن التوازن * تقصد فضيلتي (تشن لي) و(إن يو).. ولكن إن كانت إحداهما تمثل الإرادة فلماذا تعمل الأخرى على قمعها، أليست الإرادة من الطموح؟ ** معروف أن الإنسان هو روح ومادة، الروح أثيرية والمادة لحم ودم وعظم، وترتبط المادة بالغريزة وهذه هي (إن يو) وتعبر عن غريزة الإرادة، التي تهذبها (تشن لي) التي تسيطر على الأخلاق. في القرن الثالث عشر كانوا يعتقدون أنه ينبغي أن يوجد شيء ما يحد من اندفاع الغرائز البشرية، شيء ما يعاكسها ويحد من جموحها وكان ذلك (تشن لي) الذي يسيطر على الخلق، أي سيطرة العقل على الإرادة. لذلك فإن (تشن لي) تهذب (إن يو). إن الكونفوشيوسية تسعى لتحقيق التوازن في الإنسان بين «إن يو» و«تشن لي»، ونحن هنا نتحدث عن الإنسان العلماني الذي يحاول تطوير قدراته وتكريس السيطرة على إرادته وغرائزه ليرتقي. إن الكون عظيم جداً، لذلك فنحن ندرس النصوص المفيدة، نختار التدريبات العقلية المفيدة في تحقيق التوازن بين العقل والغريزة، دون اللجوء إلى القوة الخارجية، ففي هذه المرحلة على الإنسان أن يسيطر على نفسه وغرائزه وقدراته، أي خلق التوازن بنفسه المحضة. وأعتقد أن هذا هو الفرق بين الكونفوشيوسية والمسيحية مثلاً، فالمسيحيون يركزون على الروح، بينما تركز الكونفوشيوسية على قدرات الإنسان. * أعتقد ذلك ما قصده كولن ولسن بـ«قدرات الإنسان الخفية»، أو ما يسمونه القدرات الخارقة في الإنسان التي تستند إليها الممارسات الذهنية في الفلسفة البوذية مثلاً؟ ** الكونفوشيوسية تركز على القدرة الذاتية للإنسان، لذلك فهم يتدربون كثيراً على التحمل وتطويع الغرائز، أو تحقيق التوازن بين الحاجة والعقل، فالحاجة غريزة، والعقل هو كبح الجموح. البوذية تؤمن بالتناسخ وبحلول الأرواح في جسد جديد، لكن الكونفوشيوسية، تؤمن بأن الذي يموت ينتهي، ويبقى منه سجله التاريخي، الجيد من أفعاله يكرس للتعلم منه، والسيئ يجري نبذه.. هكذا الإنسان لدينا سجل أعمال ينتهي بموت الإنسان.. كونفوشيوس لا يتحدث عن إله أو السماوات، وإنما مذهبه هو طريقة في الحياة الخاصة والسلوك الاجتماعي والسلوك السياسي. * أليس في ذلك شيء قريب من فرويد، هل تعتقد أن فرويد اطلع على فلسفة ومعتقدات كونفوشيوس؟ -هذا ممكن، لكن ليس لديَّ تأكيد.. * ورد في الأثر أن كونفوشيوس استند في جزء مهم من فلسفته وفكره على كتاب «التغيرات» الصيني «إي تشينج»، إلى أي مدى أثر الكتاب في فكر المعلم «كونج»؟ ** هذا الكتاب مشهور، وكان له أثر مهم في حياة شرق آسيا، وهو يستند إلى عنصري «ين» و«يانج»، وهي متعددة المعاني، فهي الخير والشر، الظلمة والنور، الذكر والأنثى، الحار والبارد، النار والماء، السماء والأرض... إلخ. هذا الكتاب وجد ليساعد الإنسان في حياته، كما قلت أن الكون عظيم، والإنسان في وسطه كنقطة في بحر، لذلك فهو لا يعرف كل شيء، وهذا الكتاب يرشد الإنسان للصالح، الكتاب يضع أمام الإنسان طريق التصرف الصحيح، علينا أن نختار كيف نتصرف، هو يعطينا الصورة الواضحة ويرسم الطرق، لحل مشكلات الإنسان بطريقة عقلانية ومدروسة. التغيرات يعتمد على نظام معين، وهو ليس قدرياً، والعمل عليه يستند إلى طرق كثيرة وردت في أصوله، لتسأله ويجيبك. * كونفوشيوس استند إليه في جزء من فلسفته! ** كونفوشيوس قرأ ما كان في زمانه من فلسفة وحكمة وجمع الفلسفة والحكمة المتناثرة وباختلاف أنواعها في نص خاص به أضفى عليه حكمته، لقد جمع ما تناثر من الفضائل. الكونفوشيوسية الحديثة * كان كونفوشيوس يقول إن «العصر الذهبي للإنسان وراءه، أي الماضي» وقد حورب لهذا، فهل هذا المعنى ما زال ضمن معتقدات الكونفوشيوسية الحديثة؟ ** الكونفوشيوسية الحديثة تأخذ الفكر الكونفوشيوسي وتضعه في قالب حديث، في الكونفوشيوسية الحديثة نعتبر أن المستقبل يمكن بناؤه على الماضي الجيد. الكونفوشيوسية ترى أن الفكر والمعتقدات يمكن أن تتطور، هناك 4 إلى 5 مراحل في الكونفوشيوسية.. نحن نتعامل مع القيم القديمة بروح الحاضر، ووفقاً لشروط هذا الحاضر. * أود السؤال عن «فن الاستدلال»، فكونفوشيوس أول من وضع ذلك العلم وعلمه تلاميذه؟ ** هذا من خصائص فلسفة كونفوشيوس.. نحن نحقق ونتابع ونراقب كل الأشياء، ونستدل بها إلى الحقيقة، «تشن لي» تحقق نتيجة البحث.. وهذا البحث لا يتوقف، إنه كينونة مستمرة. ** هناك روايتان عن موت كونفوشيوس، الأولى تقول باغتياله وهو ما تشير إليه معظم الموروثات، والثانية تقول بموته بشكل طبيعي، فأيهما أدق؟ ** لا أوافق على أنه تم اغتياله لأسباب سياسية، لقد توفي وعمره 73 عاماً. كان يجوب البلدان ناشراً تعاليمه وفكره، صحيح أنه ووجه بالرفض في البعض، لكن أعتقد بموته بشكل طبيعي. * الدراسات تقول إن فلسفته ظلت صينية، لم تتجاوزها إلى دول إقليمية، والدليل أن أتباعه في الخارج قلة، فماذا تقول؟ ** بدأت الكونفوشيوسية في مقاطعة «سان دونج» الصينية، ولكنها وكل الثقافات المرتبطة بها لم تبق في الصين. كان هناك اعتقاد بأن الصين مركز العالم، لكن ذلك تبدد، فالكونفوشيوسية تعتبر تراثاً وثقافة مشتركة في آسيا، لذلك فالكثير من البلدان تعتنقها، وتطورها وفقاً لظروفها وثقافتها. عندما بدأت الصين باعتناق الشيوعية، دمرت العديد من الثقافات، والكونفوشيوسية من ضمنها، لذلك خلت الساحة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من الموروث. لكن مؤخراً في القرن الحادي والعشرين، حاولوا تطوير الثقافة الكونفوشيوسية. ولا بد من الإشارة إلى أن الفلسفة بعامة لا تنسجم مع العصر الحالي. العقاب لا يربي شرفاء «إذا حكمْتَ الناس وفق قوانين إجبارية وهدّدتهُم بالعقاب، فقد يحاولون اتقاء العقاب، ولكن لن يكون لديهم شعور بالشرف. ولكنك إذا قدتهم بالفضيلة ونظمت شؤونهم بالتربية، فإن علاقاتهم ستقوم على أساس الشرف والاحترام». كونفوشيوس الماضي الذهبي مما ميز كونفوشيوس بين الفلاسفة نظرته إلى الحياة واعتقاده الراسخ بأن العصر الذهبي للإنسانية كان في القدم وراءها، أي كان في الماضي، وهو لذلك كان يحن إلى الماضي ويدعو الناس إلى الحياة فيه. ولقي ذلك معارضة الحكام والعامة، واشتدت تلك المعارضة بعد وفاته خاصة عندما حكم الصين ملوك أحرقوا كتبه وحرموا تعاليمه، ورأوا فيها نكسة مستمرة، لأن الشعوب يجب أن تنظر أمامها، بينما هو يدعو الناس إلى النظر إلى الوراء. لحظة الذبول تذكر المصادر أن كونفوشيوس توفي بين الثانية والسبعين والثالثة والسبعين من عمره، وسمعه بعضهم يوماً من الأيام يغني في الصباح الباكر تلك الأغنية الحزينة: سيُدَكّ الجبل الشاهق دكا، وتتحطّم الكتلة القوية، ويذبل الرجل الحكيم كما يذبل النبات. ولما أقبل عليه تلميذه تْزَه - كونج قال له: «لن يقوم في البلاد ملك ذكي أريب، وليس في الإمبراطورية رجل يستطيع أن يتخذني معلماً له، لقد تصرم أجلي وحان يومي». ثم آوى إلى فراشه ومات بعد سبعة أيام من ذلك اليوم.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©