الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة الماضي والحاضر والسفر في التساؤلات

قصة الماضي والحاضر والسفر في التساؤلات
14 أكتوبر 2008 00:11
عندما تسأل خطاطاً بارعاً عن أهمية حرف الواو في مدرسة الخط العربي يجيبك بحرفية أن هذا الحرف يشتمل على كل حركات وزوايا الخط العربي· انحناءات وامتدادات وتكوينات ملتفة ومسافرة إلى آخر المدى، هذا بالاضافة إلى أنه أكثر الحروف استخداماً في العربية، فهو الرابط بين الكلمات وهو المنفصل والمتصل· ذاك هو محور ما تلاعب في مكوناته المخرج التونسي الحالم ناصر خمير في فيلمه ''طوق الحمامة المفقود'' الذي امتد إلى 90 دقيقة امتلأت بالحكايات والأحلام الضائعة، أو لنقل المفقودة مطابقة لعنوان الفيلم ومشابهة لكل أحلام حكاياتنا العربية· إذ الفقدان عنصر أساسي فيها وربما يرجعني قليلاً هذا التصور إلى بنية الحكاية الشعبية التي يرى فيها فلاديمير بروب في كتابه ''مرفولوجيا الحكاية'' تجسيداً منطقياً حيث اشترط سبعة عوامل و21 مجموعة عناصر· أهمها أن البطل قد فقد شيئاً ولابد أن يرتحل إليه وكي يصل من الضروري أن يحصل على مساعد ولأنه محكوم بالمصاعب فإن العائق من أساسيات تلك الحكاية يواجه البطل فيتغلب عليه· ناصر الخمير اشتغل على قيمة حكائية هي ذاتها·· البطل ''حسن الخطاط العاشق'' والمساعد ''زين رسول الحب'' و''الغاية هي الوصول إلى أميرة سمرقند'' أما العائق فهو الفقدان·· إذ يبقى البحث عن سر الحكاية محكوماً بفقدان خيوطها· لعب ناصر الخمير على مساحة الحكاية بجنون المسحور باختطافات ألف ليلة وليلة حيث النجائب تنقل البطل عند اللحظة، بينما يبقى المكان أي مكان ديكوراً مشهدياً يغذي سيمياء الحكاية وأصولها وتفرعاتها والتفافاتها كحرف الواو الذي يجمع بنصفه الأول·· حرف الميم والفاء والقاف معاً·· إنه مكان من الفسيفساء المزخرفة· كل لقطة تتزخرف بذاتها· دكاكين الوراقين في قرطبة، وأعمدة المسجد الكبير وأمهات المخطوطات العربية، وملابس النساء والرجال، جميعها تحمل الزخرفة العربية الأرابيسك التي صنعت لتمتد إلى اللانهاية حيث تشتمل في انحناءاتها وتشابكها الأخطبوطي على المردة والجن والشياطين فتشكل قبة المساجد والتفافاتها حول المآذن ولمعانها على الجدران إنها مصيدة الجن والمردة، حارسة المئذنة، وحامية القباب الأندلسية وكافية البيت عن هجوم الشرور والخوف·· ولأن الزخرفة الإسلامية أداة للطمأنينة لابد إذاً أن يتولد الحب خلفها، لابد إذاً أن يرق صانعوها، أن يعشقوا حتى في أحلامهم· ''الحب أعزك الله، أوله هزل وآخره جد'' تتكرر تلك الجملة ''الروندو'' في فيلم أشبه بمقطوعة موسيقية تحولت إلى صور تلاحقت في شريط سينمائي اسمه ''طوق الحمامة المفقود'' لناصر الخمير الذي وظف تراث ابن حزم الأندلسي العاشق الكبير والذي ولد في قرطبة عام 993 ساحر الناس بكتابه ''طوق الحمامة'' ولكي يكتمل التوصيف مع حكايتنا أضاف الخمير الحال والتوصيف معاً بـ ''المفقود'' الذي عبّر عن بنية النص الحكائي اشتغالاً على موضوعه الفقدان الأزلي في حكاياتنا العربية· حوانيت المكتبات ودكاكين الوراقين والرفائين وأزقة قرطبة الحجرية ، ورقة الصانعين وطلاب المعرفة وشغف المتعلمين تحت أعمدة المسجد الرخامية هي عالم الخمير الذي حاول مراراً أن يقدم العشق عبر المكان حين وصف التفاف الأزقة على بعضها وتداخل جدران المدينة وتعشقها في حنو غريب تمثيلاً للحب· المكان ضيق والكاميرا تجوس فيه عشرات المرات وفي كل مرة يشاهد لأول مرة· هل هو سحر العين المبصرة، العين التي لا تحدث إلا في الجمال· حسن الخطاط المريد صاحب بيت الحمام والذي أدى دوره الممثل ''نافين شودري'' تلميذ لشيخ هرم، خطاط بادع يبحث عن سر حرف الواو وهو في أبهى تجلياته حين يخط حروف القرآن· وكأنه في ممارسته لعبة الشطرنج مع ''يوحنا'' بائع الأعشاب النصراني يحاول مراراً أن يكشف أسرار الكون اللغوي في لعبة تحتمل كل الافتراضات، كذلك هي اللغة أو الحرف· إنه مهووس بالخط حتى شباك صومعته كان الخط الكوفي يتعشق مع بعضه خلفه بوهج سحري يطل عليه من الشرق· هل أراد الخمير أن يلحق المغرب بمشرقه·· هل أراد أن يمزج ذاتين معاً· الأندلس بمغربها وسمرقند بمشرقها· حسن العاشق بلا حبيبة حيث المجهول دائماً عنصر في الحكاية والمرأة الغائبة المرسومة على منديل سقط فجأة بيد البطل فانشغل فيها إلى حد الجنون كما في ألف ليلة وليلة، حيث التوهان يأتي مع صفحة مجهولة من كتاب محظوظ وقع بين يديه، فاذا به يرى حريق الحب على وجه أميرة سمرقند في تلك الصفحة التي أنقذت من حريق كتابات عاشق كبير كإبن حزم الأندلسي· أما زين رسول الحب الدائم، فقد كان حبه الضائع متجسداً في الفقدان أيضاً وكأن الفقدان والبحث هما عنصرا الحكاية هذا ''حسن'' يبحث عن مخطوط وقعت صفحة منه بيديه وذاك ''زين'' الطفل الرسول يبحث عن أبيه حتى أمه لا تعرف من يكون الأب· ربما هو الجني فعلاً في استعادة لحكايات الجن والمردة· قدم ناصر الخمير زخرفة صورية لا تعرف حقاً أي صفحة فيها هي الأجمل حيث عالم المكتبات الذي يحوي أسرارنا وولعنا الذي نعرف أنه بلا جدوى إلا أننا كما حو حال ''حسن'' الباحث عن الجدوى في الضياع المعرفي· فيلم ''طوق الحمامة المفقود'' لم يجانس التاريخانية ولم يقترب من الواقعية ولم يجر في الحلم إلى أقصاه· كان في منزلة بين المنزلتين، لا هو بالمألوف بالرغم من انشغاله ما بين كتب المعرفة ولا هو بالوهم بالرغم من اندماجه بالسحر الحكائي، إنه عالم من الخيال الواقعي لم يصل إلى حد التجريد ولم يقبع في الواقعية بالرغم من أنه استخدم كل ضروب الواقعية· اعتمد تاريخ الأندلس الموثق وابتعد عنه بأعجوبة قدم الأندلس بكل شعريتها عبر حكاية شعرية، يفتح الواقع على سحر الحكاية ويغلق الحكاية وفق منطق الواقع، ينشغل بالمدينة ويهرب منها إلى القبور، بين الأحياء هنا والأموات هناك يدور عالم الحكاية· زين الطفل حامل رسائل المحبين المليئة بالعطر يعرف سيمياء الوجوه حين يسأل حسن ''هل أنت مريض'' فيرد عليه ''كلا'' فيقرر ''اذن أنت عاشق''· زين حامل الأسرار يخفي سره· وهو لا يتحرج كونه رسول الحب أن يخترق حتى حمامات النساء حين يذهب إلى أمه باحثاً عن جواب لاختفاء أبيه· ابن حزم الأندلسي حين يخترق بهذا الطفل عالم النساء يستعيد حكاية طفولته حينما كان رسولاً للمحبين ''كما تقرأه الكثير من الدراسات'' فيصعب زين بأن أباه هو الجني الذي هبط ليلاً على فراش الأم· يعرف زين سر قرده الذي يودعه نقوده التي يجمعها لقاء توصيله الرسائل العاشقة لأنه موقن أن قرده ''أمير'' كان أميراً ممسوخاً· وكما يمكن أن نتصور أن ''زين'' قد دخل في لعبة الجن· المدينة مزخرفة محفوظة بالمصائد المتولدة عبر انحناءات الخطوط والفراغ الهش، الرخو أشبه بالفراغات بين الأوراق وكي يصل العاشق إلى الحقيقة لابد له من أن يتجلى بعيداً عن ضجيج عالمها· هناك عند المقبرة البيضاء فوق التلة يلتقي الباحثان عن سرهما ''حسن وزين'' في تساؤل شفيف: ما حقيقة الحب؟ وكأن سؤال ابن حزم الأندلسي كتابة وخطاً يعيده ناصر الخمير صورة وشريطاً· ناصر الخمير خالق اللوحات، استطاع في فيلمه هذا أن يقدم أعلى حالات شعرية الصورة حين التقط الهلال والنجمة على صفحة ماء البركة· وتتردد الجملة الكاشفة ''الحب أعزك الله أوله هزل وآخره جد'' وحين يجيء حسن إلى صانع كفن الأمير ومطرز حروفه ينهض الموت· ''متى يموت الأمير'' فيرد الصانع ''إنه سر'' وكأن الحكاية بمجملها محكومة بثلاثية ''الحب والموت والسر''· فيقول له: ''أنت رسول الحب وأنا رسول الموت''·· وكلاهما سر لم يعرف ابن حزم الأندلسي ولا ناصر الخمير كنه إلا أنهما قدماه حرفاً وصورة· ''للحب ستون اسماً'' ولم يحصل حسن إلا على ''''47 اسماً وحين تكتمل الأسماء الستون تنكشف خفايا هذا السر· لعب ناصر الخمير على المكان الضيق فأوسعه بالحكاية الفارهة واشتغل على الحكاية التقليدية فأوسعها بعمق المكان· حتى السلحفاة ذكراً وأنثى يدفعهما الحب ببطء العاشق لكي يقتربا وهما فوق زخام أملس يحثان الخطى لكي يصلا إلى عمق الحب· ولكي تحصل على المراد لابد أن تلاقي الأهوال· هل هو قانون الحب الذي رصدته حكاياتنا العربية· ناصر الخمير الصوفي الحالم يطرح في فيلمه ''طوق الحمامة المفقود'' حالمين آخرين جاءوا من عمق التاريخ، يستعيدهم بذكاء ويناجيهم كأنهم من عالمنا وحين يغيب ''زين'' عن المشهد برمته يلتقيه بابيه وتبرق عند غيابهما معاً شجرة الرؤيا· شجرة التخيل التي قتلت المردة والجن بالتفاف أغصانها كما الزخرفة العربية· فتتوهج حد البياض· ولأن شيخ ومعلم حسن قد ارتحل نحو المشرق إلى حيث ''مكة'' فإن من واجب المريد أن يتبع معلمه ويدخل حسن في عالم بحث آخر يلتقي فيه بعزيز ''نيناراسبر'' تجسيداً لحرف الواو المسافر· والتي لعبت دورين ''عزيز'' الذي يظهر كما السحر غير معروف كنهه فهي اللا امرأة واللا رجل وهي أميرة سرقند القابعة في حلم مسافر كما الأمير الذي مات بحثاً عنها يوم وقع بيده ذات الكتاب الذي احترق فسقطت ورقة منه بصورتها بيد حسن· بين بداية العشق أحسن والميتمين وزين والفتيات الثلاثة في الحديقة الخلفية وعزيز وبين نهاية الموت ''الأمير والشيخ الخطاط والخياط'' تقف الحاية راصدة عوالم أولئك وهؤلاء· افتتن العرب بحب غائب·· لقد عشقت آذانهم قبل عيونهم، الاسم قبل المسمى، العنوان قبل المتن· والكلمة أصل الأشياء والكلمة قبل الفعل· وكل ذلك يجتمع في شخصية حسن التي أحبت غياباً وعشقت سراباً وهامت سفراً إلى المجهول· شخصيات ضائعة في حكاياتها - ضمن سياق الحكاية وبنيتها - حسن الهائم بحبه والشيخ المنتظر عند قارعة الطريق والدرويش صاحب الرمانة· يقابلها كلها الشيخ الخطاط الوحيد الذي استطاع أن يصل إلى نهاية حكايته عندما اكتشف سر حرف ''الواو'' ذلك الحرف المتضمن لمعناه فوصل إلى حيث يريد ''مكة''· الحب وعلاقة مجهولة تتحكم في شخصيات ناصر الخمير، والسفر طريق الحب اللا مجدي· تسافر وهماً في معرفة السر فلا تصل وتسافر حقيقة فتصل· ذلك هو الفرق بين بحث الشخصيات الضائعة ''في فيلم ناصر الخمير'' والشخصية الوحيدة التي انتهت إلى حرف الواو ''الشيخ الخطاط'' ومن براعة ''ناصر الخمير'' أنه استل من حكايات ابن حزم الأندلسي حكاية بحثاً عن كتاب ابن حزم نفسه· وكان الكتاب يبحث عن ذاته· ربما تجاوزاً نقول إن اختصار الفيلم على المشهدية البارعة وتقليصه للحوارات وربما إهمالها في كثير من المشاهد يبدو اقتراباً من مفاهيم ''كلود ليلوش'' الذي لم يعبأ بالحوار في ''رجل وامرأة'' اللذين بحثا عن الحب صمتاً، وخلقاً للغة شعرية في نص رائع اسمه ''نص الصورة''· سبق أن فاز فيلم ''طوق الحمامة المفقود'' بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي عام ،1991 حيث يؤكد ناصر الخمير مخرجه أنه بالرغم من أن أحداث الفيلم تقع في بلاد الأندلس في القرن الحادي عشر إلا أنه لا يحاول إحياء زمان ومكان معينين بقدر ما يعمل على استنهاض فكرة الحديقة المنسية والاشتياق للسلام الذي تتصعب حمايته من رياح الشر والدمار''· ولد ناصر الخمير في أبريل 1948 في قرية بتونس وهو مخرج سينمائي ومسرحي وكاتب وشاعر ورسام ونحات، درس العمارة والفلسفة والتاريخ والفنون التشكيلية والمسرح والسينما في تونس وباريس· له من الكتب منها ''الغيمة العاشقة'' عن شعر ناظم حكمت، و''أغنية الحب والموت عن ريلكه'' ومختارات من جبران خليل جبران، وعرضت لوحاته في معارض خاصة في تونس وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©