الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خصلات شعر السفاح

خصلات شعر السفاح
21 يناير 2010 21:05
استيقظ عشرون ألف شخص هم أبناء القرية على الخبر المشؤوم الذي هز كيانهم ونشر الرعب في قلوبهم، جريمة بشعة مروعة لم يسمعوا بمثلها ولم تحدث في بلدتهم من قبل، هرعوا جماعات وفرادى إلى بيت مبارك ليتأكدوا من النبأ بعد دويّ الصراخ في كل مكان، إن ما سمعوه حقيقة مفزعة لا يصدقها عقل فهي إلى الخيال أقرب، ستة قتلى في مكان واحد في لحظة واحدة من أسرة واحدة إنها إبادة جماعية ارتكبها سفاح أو سفاحون لا أحد يعرف عددهم ولا كيف وقعت الواقعة وكل شيء غامض بلا إجابة، فأهل الدار كلهم قضوا نحبهم ولم يبق منهم واحد ليخبر بما حدث، الأم وفي بطنها توأم، وأطفالها الثلاثة الصغار، جثثهم متناثرة وهي مخنوقة ومطعونة في الرقبة والظهر والبطن، وجثة الأم ملقاة في زريبة الماشية، والدماء لطختها وسال بعضها على الأرض وقد تجلط بما ينم عن مرور عدة ساعات على وقوع الحادث البشع، ومات حملها بالتبعية، أما الأطفال الثلاثة فكانت جثتهم متناثرة في الغرفة بلا دماء وحول رقابهم الحبال والملابس فقد تم خنقهم وفوقهم كومة من الملابس تغطيهم تماماً. أصاب الفزع القرية التي كانت آمنة مطمئنة وازداد الرعب بسبب عدم معرفة الجناة وبدأ الجميع يضربون أخماساً في أسداس ويثيرون التكهنات وتحولوا جميعاً إلى مؤلفين وكتاب سيناريو وكل منهم يقدم تحليلاً ورؤية وتوقعات واحتمالات ولكن بلا أساس أو معلومات، مجرد تخمينات يتناقلونها فيما بينهم، لكن الشبهات لم تحم حول شخص بعينه وتم الاتصال بالزوج والأب المكلوم الذي فقد أسرته كلها في لحظة أثناء غيابه للعمل خارج البلاد، حيث سافر منذ ثلاثة أشهر فقط من أجل تحسين أوضاع زوجته وأبنائه، فهو يملك عدة قراريط من الأراضي الزراعية لا يكفي عائدها إلا القليل، وقد رأى بالاتفاق مع زوجته “راضية” أن تتحمل مسؤولية الصغار وإدارة شؤونهم وأن يحزم حقائبه ويرحل في بلاد الله بحثاً عن الرزق الحلال لينقل أسرته إلى مستوى أفضل، وأن الجميع سيتحملون الكثير من التبعات بسبب هذا القرار والاختيار مر، لكن لا بد منه، وعاد “مبارك” على أول طائرة، وهو لا يصدق ما حدث، يضيع من قدميه الطريق، غير قادر على التركيز زائغ النظرات ولا يتهم أحد بارتكاب هذه المجزرة، فهو يقيم بين إخوته وعشيرته، وترك أسرته بينهم، وهو مطمئن ولم يكن يتوقع أبداً أن يصيبهم مكروه وهم في مأمن وليس بينه وبين أي شخص في القرية أو القرى المجاورة خلافات تؤدي إلى هذا الانتقام، لذلك تم استبعاد أن يكون السبب هو الثأر أو الانتقام، وبدأ رجال المباحث يجمعون المعلومات للوصول إلى المجرم، وبسرعة أيضاً استبعدوا أن يكون السبب السرقة لأن كل محتويات المنزل موجودة، كما هي مثل الماشية والملابس والأدوات الكهربائية وحتى الأساور الذهبية الثلاثة والقرط في يدي وأذني القتيلة، وكلما مر الوقت ازداد الغموض وبدأ الناس يربطون بين هذه الجريمة والمذبحة التي وقعت في قرية شمس الدين المجاورة في هذا الشهر نفسه قبل ثلاث سنوات عندما عثر على جثث عشرة أشخاص قتلى في ليلة واحدة وقد قطع القاتل أعضاءهم التناسلية، وتم القبض على متهم وتقديمه إلى المحاكمة الجنائية، وقيل حينها إنه مجنون، وبعد عام من الجلسات والمرافعات برأته المحكمة لاستحالة قيامه بكل ذلك بمفرده وبالطريقة نفسها ومازالت القضية ضد مجهول، تذكر أهل هذه القرية النائية التي تدعى بني العباس كل هذه الأحداث، وبالغوا في خيالاتهم حتى وصل الأمر إلى اتهام الجن والعفاريت بارتكاب هذه الجرائم وذهب البعض إلى منحى آخر واعتبروا أنفسهم من العقلاء، وقالوا إن وراء الجريمة عصابات دولية للاتجار في قطع الغيار البشرية، لكن حتى هذا الافتراض لم يكن صحيحاً لأن جميع الجثث سليمة ولم يتم استئصال أي شيء منها. ازداد الأمر غموضاً وتعقيداً حتى بعد ما تم القبض على عدد كبير من الأقارب والمترددين على المنزل، والمشتبه فيهم وأرباب السوابق والخطرين على الأمن ولم تظهر بارقة أمل تقود إلى القاتل، ولم يكن من السهولة بمكان البحث عن متهم واحد بين عشرين ألف شخص وأصبحت المهمة شاقة ومعقدة والتحدي كبيراً، فالجميع ينتظرون حلاً لهذا اللغز الغامض، والذي يثير الرعب في نفوس الجميع خشية تكرار الجريمة معهم، وكل منهم يخشى أن يكون الدور عليه وعلى أسرته بعد تكرار مثل هذه الجرائم الجماعية، وبدأ بصيص نور يلمع من بعيد في آخر النفق المظلم بعد أربعة عشر يوماً من الحادث عندما عثر على السكين في قطعة قماش ملوثة بالدماء وملقاة في منزل مهجور بالقرية، وكان ذلك هو الخيط الأول لفك الطلاسم، في الوقت الذي أخفى فيه رجال المباحث أحد الأدلة القاطعة عن الجميع واحتفظوا به سراً دفيناً، وهو العثور على خصلات شعر الجاني بين أصابع يد الزوجة القتيلة والتي تأكد من خلال وجود سحجات وإصابات سطحية أخرى أنها قاومت الجاني بكل قوتها، لكنه كان شرساً وتغلب عليها، وتم فحص هذه الشعيرات بالأجهزة الدقيقة باختبار الحامض النووي للوصول إلى صاحبها، وجاءت النتيجة لتشير أصابع الاتهام إلى شخص بعينه، كان من بين المشتبه فيهم، إنه “حسين الفلاح” ابن الثلاثين عاماً، الذي يمر بضائقة مالية شديدة، وتربطه بزوج القتيلة صلة قرابة من بعيد ويقيم في الشارع نفسه. ألقي القبض عليه فانهار واعترف بجريمته النكراء، قال: ضاقت الدنيا في وجهي، جيوبي خاوية، فكرت في طريقة أحصل بها على المال، قررت أن أسرق بقرة زوجة مبارك، فهو غائب في الخارج، وهي تقيم بلا رجل، مع أطفالها الصغار، رأيت أن المهمة سهلة، في الظلام تسللت ودخلت بيتها وفوجئت بأنهم جميعاً في فراشهم لكنهم لم يناموا بعد، واضطررت للاختباء أسفل السلم إلى أن يناموا وأتمكن من سرقة البقرة وبعد ساعات فوجئت بالأم “راضية” تتجه نحو الحظيرة لتطمئن على الماشية وأثناء عودتها، وقعت عيناها عليَّ كنت قريباً منها وحاولت أن تصرخ وتستغيث فوضعت يدي على فمها لأمنعها من الاستغاثة فواصلت المحاولة وأرادت أن توقعني على الأرض وكادت تنجح لكنني خشيت الفضيحة الكبرى فأطبقت على رقبتها حتى سقطت على الأرض مغشياً عليها، لكنها لم تفارق الحياة فأحضرت سكيناً وانهلت عليها بأربع طعنات ولفظت أنفاسها الأخيرة، وقبل أن أترك المكان فوجئت بابنها “علي” يخرج من الغرفة وحاول هو الآخر أن يصرخ، فكتمت أنفاسه وسقط جثة هامدة وفي الوقت نفسه جاء أخوه “محمد” ابن السابعة وكتمت أنفاسه مثل أخيه، وجاء أخوهما الثالث “طه” ابن الثالثة وهو يعرفني أيضاً وسألني ماذا تفعل هنا يا عمي؟ فكانت الإجابة عملياً بخنقه هو الآخر ليموت الجميع ولا أترك ورائي دليلاً، ولكن في الحقيقة كان مشهد جثث الصغار فظيعاً، فقمت بتغطيتهم أو دفنهم في الملابس التي أخرجتها من الخزانة وألقيتها عليهم، وأخذت السكين وألقيتها في منزل مهجور ثم عدت إلى بيتي وحاولت النوم، لكنني لم أستطع فقد كان المشهد يتكرر أمامي بكل تفاصيله، وكاد قلبي يطير من مكانه عندما تناهت إلى مسامعي الصرخات وانتشر الخبر، حاولت أن أجيد التمثيل وخداع الجميع، عندما هرعت مثل الآخرين إلى مسرح الجريمة وأنا أصب اللعنات على من فعل هذا الجرم وشاركت في تشييع الجنازة، بل وحملت النعوش وبالغت في البكاء، لكن ربك بالمرصاد وسقطت بأهون الأسباب وكانت “شعرة” كافية.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©