الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرحيل الأخير لصاحب الروح المتمردة

الرحيل الأخير لصاحب الروح المتمردة
4 مايو 2011 19:24
يقف الكاتب الأرجنتيني الشهير إرنستو ساباتو في مرتبة متقدمة بل في الصفوف الأولى لكتاب الرواية في العالم، لكن ساباتو الذي حصل على أرفع الجوائز الأدبية وأهدى للمكتبة العالمية جملة من أجمل الأعمال الروائية (ترجم أغلبها الى العربية) ليس روائياً فحسب، بل منظراً سياسياً جباراً، وعالماً له باع طويل في العلوم البحتة التي تخصص فيها، وصاحب رأي مقدر في النقد الأدبي والفلسفة والعلوم الاجتماعية، وربما يعود هذا التنوع الكبير في اهتماماته الثقافية الى خلفيته العلمية بالتأكيد، لكن العامل الحاسم بلا شك هو تلك الروح المتمردة القادرة على التقاط الإنساني والنبيل في كل ما يمر به ويطرح أمامه ويراه من حوله... وهنا بعض من آرائه ورؤاه المهمة في حقول شتى. لا تخلو حياة ساباتو من مفارقات تستدعي النظر، وبسهولة يمكن لمن تلقى خبر موت ساباتو في 30 ابريل 2011 وميلاده في العام 1911 أن يتساءل عن السرّ أو الحكمة الكامنة في هذا الرقم (11) الذي افتتح به الحياة واختتمها به أيضاً... ومن هذه المفارقات التي عثرت عليها أنه كتب روايته الأولى في العام الذي حدثت فيه نكبة فلسطين وهجر فيها الفلسطينيون عن وطنهم 1948 فهل كان عبثاً إذن إيمان هذا الرجل بالقضية الفلسطينية ودفاعه عن حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقوق الفلسطينيين في الوطن والحرية. وربما تضيء زوجته ماتيلدي شيئاً من شخصيته المثيرة حيث تقول: “كان منذ طفولته روحاً تفكر وفناناً ينطوي على دخيلة كئيبة” ولكنه في الوقت ذاته متمرد وصاخب، قيدته العلوم بشكل مريع فكان أمراً منطقياً أن يبحث عن المنفذ الوحيد الذي يمكن أن يساعده على التعبير، على تقيؤ عذابه الداخلي: (الرواية)”. ويصف الناقد والمسرحي الأرجنتيني كارلوس كاتانيا الذي وضع عنه كتاباً سماه: “إرنستو ساباتو بين الحرف و الدم” (ترجمه الى العربية عبد السلام عقيل ونشرته دار المدى في العام 2003) يصفه بـ “واحد من أكبر الشخصيات الجاذبة في عصرنا”. وحمل الكتاب على غلافه الأخير هذه الكلمات الدالة: “يقف إرنيستو ساباتو” في هذه الأحاديث التي أجراها معه محاور متمكن وعالم قدير، يعرف إنتاج الكاتب وشخصيته حق المعرفة، وجهاً لوجه، أمام معالم رئيسة من سيرة حياته وإنتاجه الفكري، وخلال إحدى عشرة جولة من الحوار الدافئ والحاسم والعميق يتفحص ساباتو، ويتصدى، لمجموعة من المسائل التي يعتبر قاسمها المشترك إشكالية الإنسان المعاصر على المستوى البياني والمفاهيمي: الإبداع الأدبي، والنحو وعلم اللغة، والتربية والدكتاتورية، والفن والرسم والعلوم الماورائية والشباب والتانغو...الخ. شكّاك كبير ومن يقرأ الكتاب ويتأمل في ما يقوله هذا الرجل، ينفتح أمامه قوس واسع لعاشق النار هذا، نار المعرفة ونار الحقيقة التي لا نشك في أنه دفع ثمنها غالياً.. ها هنا، يضع القارئ روحه بين يدي خبير عالم بحيثيات الكتابة وترمداتها وابتهالاتها وخلاصاتها الجوانية الألقة. ويقع على الجوهري في تفكير “ساباتو” والمسائل الكبرى التي أقلقته طيلة حياته وهي: ريبته ورفضه وحقائقه وأفضلياته وهواجسه كل ذلك يقاس بالوتيرة الحسية لسيرة حياته، كما أن المناخ الـ “سقراطي” الذي أضفى على هذا الحديث، يباغت القارئ ويشده إلى دروب عالم ساباتو الغربية، ويعرفه على جاذبية كاتب مذهل. وربما، لهذا كله، ذهب الناقد إبراهيم حاج عبدي في قراءته لهذا الكتاب إلى أن الاكتفاء بالقول بأن ساباتو “روائي” فحسب ينطوي على قدر كبير من الإجحاف، يقول: “قام كاتانيا باستنطاق مواطنه الروائي الأرجنتيني الأشهر خلال إحدى عشرة جلسة حوار لينجح في الوصول إلى أعماق هذا الرجل و “انتزاع” الرأي منه حول مختلف القضايا ليخلق انطباعا لدى القارئ بان الاكتفاء بالقول بان ساباتو هو “روائي” فحسب ينطوي على قدر كبير من الإجحاف. ومرد هذا الانطباع هو مقدرة ساباتو البارعة على التنظير ومناقشة مختلف القضايا المطروحة التي يثيرها كاتانيا ليطلعنا على آراء هذا الروائي الأرجنتيني وأفكاره المثيرة للجدل حول الرواية وقضايا اللغة وفعل الكتابة والنقد الأدبي والرسم وكيفية تذوق اللوحة التشكيلية والتربية وأصول التدريس والديكتاتورية والفوارق القائمة بين العلم والأدب والحكم العسكري في بلاده الأرجنتين والفلسفة وغيرها من المسائل الهامة والمعقدة لنتعرف على الوجه الآخر لشخصية روائية قلقة ومقلة في الكتابة الإبداعية”. لكن هذه الحصيلة القليلة قياساً إلى تجربته الإبداعية الطويلة نابعة من ولع ساباتا بالنار، حسب عبدي، إذ أقدم على حرق الكثير مما كتب مبرراً ذلك بأنه “مهووس كالأطفال بالنار” ثم إن الجوهري في الإبداع لا يتمثل في عدد الكتب “فلو كان الأمر كذلك فستكون أغاثا كريستي أهم من شكسبير” وهو يرى ان الكاتب الجيد يعبر عن أمور كبيرة بكلمات بسيطة ونقيض ذلك الكاتب السيئ الذي يقول أشياء تافهة بكلمات طنانة. بعض من رؤياه يقول عن الجوائز التي يحصل عليها الكتاب والمبدعون: “أنا لا اكتب كي أربح مالاً أو جوائز، وليس بدافع من غرور لكي أرى ما اكتبه مطبوعاً”، وبتواضع جم يخجل المرء من تشدقات من هم أقل منه بكثير بأهميتهم وإبداعهم، ويجعله يتفكر في هذه الثيمة الرائعة (التواضع) التي تزن في ميزان النقد أكثر مما يزن ألف كتاب يوضح مقصده “لكنني كتبت مدافعاً عن وجودي، ولذلك فان كتبي ليست مشوقة، ولا انصح أحداً بقراءتها”. أما ما يعرف عندنا بقضية (الالتزام) فله فيها رأي جميل، خاصة أنه يتحدث من واقع تجربة وممارسة واقعية، فقد كان في شبابه شيوعياً وانتسب إلى الحزب الشيوعي لكنه سرعان ما هجر الحزب بعد أن اكتشف أن هذا الانتماء يقيد الفن، لأن الفن “يشبه الأحلام”، وهو يقول عن ذلك: “الفن لا يصنع بأسباب. ومحاولة فهم عمل فني هي إلى حد ما كالرغبة في اختزال الكراهية والحرب والحب والأحلام إلى مجرد أسباب خالصة.الفن يشبه الأحلام إلى حد بعيد. تلك الرسائل التي تأتي من أعماق لا وعينا: سخيفة، متناقضة، لاعقلانية، فهل من المعقول أن نطلب من بيتهوفن أن يفسر لنا إحدى سيمفونياته أو من كافكا أن يقول لنا بوضوح ما الذي أراد أن يعبر عنه بروايته “المحاكمة”، تلك الرواية تعبر بالطريقة الوحيدة الممكنة عن الواقع الجهنمي الذي كان كافكا يشعر به”. وعبر استقراء آرائه يعثر المرء على موقفه من “الفن والعلم” والعلاقة بينهما، يقول: “إن الفن لا يتقدم والسبب أن الأحلام ذاتها لا تتقدم: هل كوابيس عصرنا افضل من كوابيس عصر يوسف التوراتي...؟ إن رياضيات انشتاين تتفوق على رياضيات أرخميدس ولكن “عوليس” جويس ليست أسمى من “عوليس” هوميروس”. أما نظرته الى الواقعية الاشتراكية في الأدب فتبدو إدانته لها واضحة عبر قوله: “لم يكن لأعمال بلزاك أو غوتيه أو شكسبير أو دون كيخوته ولا لسيمفونيات بيتهوفن أو براهمز ولا لآلام باخ أو لوحات رامبرانت ولا لغيرها فائدة تذكر في إنقاذ طفل من الموت جوعاً في أي مكان في العالم. فمن السخف حقاً اعتبار فنان عظيم خائناً أو متواطئاً في قضية الظلم الاجتماعي لأنه لا يحرض بفنه على الثورة العالمية”. ويبرئ ساباتو الفن من كل غاية رخيصة أو مرامٍ مادية حين يؤكد أن الفن لا ينبغي أن “يهبط الى مستوى الدعاية” بل يجب “أن يسمو بالشعب إلى أسمى المستويات الروحية”، ومن هنا فهو يتعاطى مع الفن بوصفه عملاً فوق الشبهات وينظر إلى اعمال الفنانين والمبدعين باعتبارها “نصباً طاهرة تنتصب فوق هذه البشرية التعيسة وفضلاتها و ترصد المدى الذي تصل إليه الروح البشرية”. وفي روح وعقل وقلب ساباتو متسع للآخرين، بل إن مساحته الأرحب مكرسة لتلك الثقافات الفطرية البدائية التي رسمت على الجلود والحجارة والطين قبل ان تهتدي البشرية الى الحرف، وهو ينظر بريبة الى سلوك ما يسميه “ثقافة الكتب” التي “بالغت في احتقار ثقافات قديمة لم تقم على الأبجدية وإنما على أسس أخرى اكثر أهمية: أسطورية حكيمة، توازن رائع مع الكون، ألفة مع الموت، إحساس مقدس باللحظات العظيمة لهذه الحياة البائسة”. بالطبع، ثمة الكثير الكثير في عوالم هذا المبدع الذي - أفجعنا رحيله بحق - مما لا تتسع المساحة لإيراده لكن يبقى ان الرجل كان صاحب روح حرة بكل ما تحتمله الحرية من تحليق وتجاوز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©