الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية من الزمن الرومانسي

حكاية من الزمن الرومانسي
4 مايو 2011 19:28
في فترة الأدب الرومانسي إبان القرن التاسع عشر كان إنجاز العالم قد تحقق، حيث اتجه العالم لتكريس الذات بالحب وبالاتصال الإنساني، لذا كان لابد لنصوص المعرفة الخلاقة أن يتصارع بين أطرافها الخير والشر، الخير المتجسد في الحب والشر المداف بالكره. كتبت الروايات ضمن هذا الهدف، الذي استطاع كثير من روائيي الرومانسية أن يؤطروه بجمال الطبيعة، وبعذريتها الفاضحة، ببهاء رونقها الذي هو أشبه بلمعان صفائح الحب الصافي. في هذه الحقبة كتبت المسرحيات التي تنادي بالمحبة، وتفضح الكره والبغض، كانت تقدم على الخشبة أناساً ماتوا من الوجد والعشق، فكان لابد أن يكتب الإنجليزي شكسبير “روميو وجوليت” ولابد أن يكتب الفرنسي أوغستين كارون دي بومارشيه “1732-1799” مسرحيته “حلاق إشبيلية” أو بتسمية أخرى “الحيطة عديمة الجدوى” عام 1775، ومن الأدب الإنجليزي والفرنسي ظهرت هذه المدرسة العميقة في وجدانها “الرومانسي”. ولأن الموسيقى روح الروح، وصوت الذات والبراري والقلاع التي تخبئ حب فتيات صغيرات لفتيان نذروا أرواحهم تحت شبابيك الحب العذري، كان لابد لها “أي الموسيقى” أن تترجم تلك المسرحيات، نغمة، شعوراً، ترنيمة كمان بعيدة تصعد لتطرق خشب الشبابيك الساجية المعلقة بعيدا لينفتح معها القلب الصغير العاشق. “حلاق إشبيلية”، التي قدمتها أوركسترا وجوقة مسرح البندقية في قصر الإمارات بأبوظبي بدعوة من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث يوم الخميس الفائت، هي نص موسيقي من تأليف الإيطالي جيوفاني بايسيليو وقدمت مسرحياً عام 1782. ولم تنجح على يد بايسيليو، وكان لابد لصانع آخر ماهر أن يتلاعب بالحكاية فتصدى لها الإيطالي جياتشينو روسيني، حيث أعاد تأليفها من جديد، وبأسلوب مختلف، وبموسيقى ربما أصبحت خالدة حقاً. وسيط الحب ولكن من أين يأتي خلودها؟ هل يأتي من حكايتها؟ .. إنها حكاية مألوفة. هل يأتي من صياغتها؟ .. إنها صياغة كلاسيكية. هل يأتي من شخصياتها؟ .. إنها الشخصيات ذاتها عند بايسيليو. إذاً من أين تأتي جمالية هذه الأوبرا، ولو دققنا قليلاً لأتضح لنا أن روح الرومانسية وشعرية الحكاية هما اللذان أنقذا نصاً كان ميتاً على يد بايسيليو. كتب روسيني أوبرا “حلاق إشبيلية” متصدياً إلى طرافة الطبيب أو الحلاق “فيغارو” الذي كان يقايض جسور الحب التي يقيمها بين الفتيان العاشقين والفتيات العاشقات بالذهب. وعرضت “حلاق إشبيلية” لروسيني عام 1816 على مسرح أرجنتينا بروما، وأدهشت الجميع. كان الحوار بين الشخوص أوبرالياً ضم أصواتاً بمساحات واسعة وبأعماق بعيدة وبارتفاعات مذهلة، وبنبرات ممتدة إلى أعلى المستويات وبسرعات لاختصارات متلاحقة “فيغارو، فيغارو، فيغارو”.. هكذا يعرض فيغارو خدماته على العاشق الولهان “الكونت المافيفا” حين كان يناجي حبيبته “روزينا” من تحت نافذتها المفتوحة على حديقة القصر.. جسّد كل ذلك أوركسترا وجوقة مسرح البندقية في عرض مدهش في قصر الإمارات بأبوظبي، حيث أدى ستة مغنيين أوبراليين شخصيات الأوبرا الستة: “مونويلا كوسلر” لـ”روزينا”، و”فانزنيزو تورمانو” لـ”فيغارو” و”ديميتري كورشاك” لـ”الكونت المافيفا” و”ايليا فابين” لـ”بارتولو” و”لودينزو ريجازو” لـ”باسيلو”، وأخيراً “جيوفانا دونادينا” بدور “بيرتا”.. وكل ذلك بقيادة الموسيقار مورازا زافانا. أصل الحكاية يحب الكونت المافيفا الفتاة روزينا ويمانع الوصي عليها الدكتور بارتولو طمعاً بثروتها، غير أن حلاق أو طبيب المدينة “فيغارو” يعرض خدماته على الكونت المافيفا كي يجمع بينه وروزينا لقاء مبلغ من المال. تتكشف نوايا الدكتور بارتولو حيث يرغب في الزواج من روزينا، وكيف يتم ذلك وهي تحب الكونت المافيفا؟. هنا يجسد فيغارو شخصيته الحقيقية، حبه للطرفة، والخيال، حيويته، وقدرته على التكيف مع الأحداث الصعبة، هزلي إلى حد الجنون، خالق للمفارقات، مرتجل، ومغن شجي، كل تلك الصفات لابد لمن يؤديها أن يكون قد درس شخصية فيغارو جيداً، وبالفعل كان فانزنيزو تورمانو قد صنع من فيغارو على مسرح قصر الإمارات شخصية أسطورية، بالرغم من أنه لم يدخل بقيثارة فيغارو التي كان يغني بها أغنيته الشهيرة “أنا خادم المدينة” كما هو عليه في أصل الحكاية. طرق الخديعة اقترح فيغارو أن يتنكر الكونت المافيفا بملابس جندي وأن يدعي أنه أحد أفراد فرقة عسكرية دخلت المدينة مساء، وحسب التقاليد من حق الجندي أن يختار أي بيت يسكن فيه كضيف، ويختار المافيفا منزل الدكتور بارتولو حيث حبيبته “روزينا”، وينتهي الفصل الأول الذي استمر 70 دقيقة. أصول اللعبة يدخل الكونت منزل الدكتور متنكراً بزي “دون الونزو” تلميذ “بازيليو” حيث ادعى أن أستاذه مريض وقد أرسله لتعليم روزينا بدلاً عنه، ويشك الدكتور في اللحظة التي يدخل الحلاق فيغارو ليحلق له فيطلب الأخير تأجيل الحلاقة فيرفض فيغارو بطرافته ويبدأ الحلاقة بعد أن تحجج بجدول مواعيده المزدحم. يحضر فيغارو صابون الحلاقة والمنشفة ويتعمد كسر الآنية ليحضر الدكتور له مستفسراً عن صوت الارتطام ويترك الحبيبين لوحدهما. ويسرق فيغارو مفتاح الشرفة من الدكتور ويدخل “بازيليو” فيشيع الحرج بين الجميع حيث اكتشفت اللعبة، عندها يوهمه فيغارو بأنه مريض فكيف به يخرج من بيته، ويصدق بازيليو مرضه “هنا حبكة الطرافة وتأججها” ويغادر الأخير إلى بيته راجعاً. اتفق العاشقان على الهرب ليلاً من الشرفة ويدخل الكونت وفيغارو من الشرفة ليلاً وهنا يبدأ أروع غناء ثلاثي “فيغارو” و”الكونت المافيفا” و”روزينا” حيث يحذر كل واحد منهما الآخر من حارسين في الحديقة. ويختفي السلم الذي صعدا منه ويدخل بازيليو ويهدده الكونت المافيفا كي يشهد على عقد الزواج ويتزوج بـ”روزينا”، وينتهي الفصل الثاني بغناء جماعي وقد استمر الفصل 50 دقيقة. الحلاق الثرثار ظلت شخصية الحلاق تتنقل في الأثر الأدبي العالمي كونها شخصية أقرب إلى الناس، هم المخدرون تحت رحمة موسى الحلاق، هم النائمون، المصغون إلى حكاياتهم، هم المستمعون والحكاءون، مثلما هو “حلاق بغداد” في ألف ليلة وليلة. وفي قصة “الحلاق الثرثار” لمصطفى لطفي المنفلوطي التي ترجمها عن الأدب العالمي تسرد علاقة الحلاق بالحكاية، إنه السارد والحكاء الشعبي الأخير الذي لم يغادر ساحة السرد حتى الآن. ذلك ما جاء به بومارشيه الفرنسي واستطاع روسيني أن يستغل كل العلائق الجمالية بين حكاية الحلاق والمستمعين الذين يجلسون على كرسي الحلاقة. وما بين الحلاق الثرثار وفيغارو وصلات كثيرة أهمها عذوبة الحبكة وجمالية الانتصار للحب.. ليس إلا. ثلاث حركات استطاع روسيني أن يقدم ثلاث حركات في نصه الأوركسترالي الأوبرالي “حلاق إشبيلية”، الأول تمثل في العزف الأوركسترالي الخالص، بوصفه مقدمة هائلة، بل مذهلة بمثابة توطئة للفصل الأول الآتي، وهنا تتجلى روحية الرقص في الأوتار والآلات التي تشارك المستمع فرحه بالحكاية التي ستقدم. ثم يأتي الفصل الأول حينما يدخل “المافيفا” الشاب الولهان ليغني وبعده فيغارو، حيث يبدأ بينهما حوار غنائي طويل يستغرق حوالي 10 دقائق، ثم تدخل روزينا لابسة ثوبها الأسود الاحتفالي ويدخل بازيليو والدكتور المافيفا ثم يغادر الأول ويبدأ حوار غنائي بين روزينا وبورتولو وحين تجتمع الأصوات الستة ودخول مجموعة الكورس الـ 16 شخصاً ويبدأ الغناء الجماعي في نهاية الفصل الأول. ثم يأتي الفصل الثاني لتحتدم الحبكة التي تنتهي بفرح زواج روزينا من الكونت المافيفا بجهود فيغارو. ويبقى التساؤل.. بالرغم من كلاسيكية “حلاق إشبيلية” حكائياً لماذا لم تغب عن المسرح العالمي؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©