الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«سفر الخطايا».. لا تقبل القسمة على أكثر من تأويل

«سفر الخطايا».. لا تقبل القسمة على أكثر من تأويل
4 مايو 2011 19:32
في معجم المعاني أن السِفْرَ، اسما، هو الكتاب الكبير والثقيل وجمعه أسْفار، والفعل منه سَفَرَ، أي: كتَبَ السِفْر أو الكتاب. هكذا، فمعنى عنوان الكتاب: سِفْر الخطايا فتبعا لذلك يكون معناه: كتاب الخطايا الكبير والثقيل، أما سَفَر الخطايا، أي: كتب خطاياه او دوّنها في كتاب وهذا الكتاب لثِقَل ما فيه بات ثقيلا أيضا. إذن، ما الخطايا التي من الممكن أن تقترفها كل واحدة من تلك الشخصيات التي تظهر في المجموعة القصصية الأولى للروائي السعودي محمد المزيني الصار مؤخرا عن منشورات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في مئة وخمس وثلاثين صفحة من القطع المتوسط؟. والحال، أنّ ما يثير هذا السؤال ويستدعي البحث عن معنى الكلمة: سِفْر أو سَفَر، هو أمر تقني في السرد القصصي الذي يستخدم فيه الكاتب المزيني ضمير الأنا أو المتحدث في القصة غالبا أو ضمير الغائب. ليكتشف المرء أن هذا السفر المكتوب قد انطوى على شخصيات وأحداث تدور في سياقات بنى سردية متنوعة لا تخلو من نَفَس درامي حيث السارد/ الراوي هو الذي اقترف هذه النزوات التي تبلغ حدّ اللاعقلانية أحيانا لتلامس تخوم الحلم أو هو شاهد على اقتراف هذه الخطايا فتحدث عنها بكثير من البوح قاذفا بكل ما أوتي من قوة تخييلية بما هو رقيب أو ما يشي بفكرته إلى الجحيم ليقول كل ما يريد قوله مباشرة ودون مواربة أو خلق معان للشخصيات والأحداث قابلة للقسمة على أكثر من تأويل، دون أن يخلو السرد من التماعات “شعرية” وخاصة في ما يتصل بالتوصيف للحالة النفسية خلال حدث كما القصة “كاتب مع سبق الإصرار” التي يرد فيها: “جلست أقضم أطراف هواجسي ومقتي له، وحتى لا أمعن بالحنق تركت لسمعي وبصري فرصة الاكتشاف”. شعرية المباغتة لكن هذه “الشعرية” النصية لا تختزل من الحدث، أو “الحكي” بل هي تصعّد من قابلية التوتر لدى الشخصية بحكم أن الشخصية متوترة أصلا، ورغم أن هذه هي التجربة الأولى للروائي محمد المزيني – له سبع روايات نُشرت بين بيروت والرياض – فإنها تجربة ناجحة في مقدرتها على جعل القارئ في حالة انشداد في العديد من القصص خصوصا تلك غير المتوقعة والتي يقوم فيها عنصر المباغتة بالدور الأساسي في “لعبة القص” أحيانا كما في القصص القصيرة جدا التي يحتشد بها الكتاب والتي هي شأن آخر عن ما يمكن وصفه بالقصة القصيرة أو القصيرة المتوسطة أو الطويلة التي تكاد تنتمي إلى الجنس الأدبي الذي يُعْرف بالـ “نوفيلا”، مثل قصة “رواية لم تكتمل” وهي وحدها قد ينطبق عليها ذلك التجنيس في أية حال. أيضا فإن ما يلفت الانتباه في قصص “سفر الخطايا” هو أنها جميعا تشبه عِقدا منظوما، لجهة أن المرء يشعر بها قصصا قادمة إلى هذا الحقل الأدبي من رواية كان سيكتبها المزيني رواية لكنها اكتفت بأن تكون قصة فحسب. يلاحظ ذلك أيضا الشاعر عبد الله السبب في تقديمه للكتاب. فرغم التوتر الدرامي لدى الشخصيات وتوفر عنصر المباغتة إلا أن القصص غير القصيرة جدا تحديدا، تسير وفق بناء للحكاية والشخصية وفقا لبناء المنطق الروائي الذي يبدأ عموميا ثم يتركز في بؤرة ما من حدث وشخصية يحملان بدورهما عبء جعل الرواية تحمل صفة كونها رواية بالمعنى المحترف للكلمة. إذ أنه باستثناءات قليلة، فالسرد يسير أفقيا وفقا لمنطق سردي خطي، أو أفقي، يكشف عن طبيعة شخصيات وأحداث يشعر المرء أن خروجها من القصص والتقاء مصائر بعضها بالبعض الآخر سوف يجعل منها عملا روائيا، هو هنا نظرا لجرأة القص والبناء قد تكون رواية من نوع جريء يتجاوز المنظومة الاخلاقية السائدة للأعراف والتقاليد وأكثر قربا مما يحدث في المجتمعات الحيّة سواء بوصفه سلوكا عاما أم شاذا نادر الحدوث، أو سلوكا قد يكون ملهما بما هو أكثر فظاعة منه لكنه أكثر تعبيرا عن البنية النفسية للشخصية، ومن بين أمثلة عديدة يحفل بها الكتاب في هذا السياق ثمة “اللقيط” أو “فاز باللذات” وسواهما من القصص التي تسعى إلى تعرية جانب من التكوين السيكولوجي للشخصية العربية في اللحظة الراهنة وليس السعودية أو الخليجية فحسب. بهذا المعنى، فإن المرء يحسب أن فعل الكتابة لدى محمد المزيني يسعى إلى إحداث تغيير بطرحه واقع كما هو حادث راهنا على الأرض، وبحيث يتم الكشف عنه بطريقة فنية غير مباشرة، إذ لابدّ لقارئ عادي أن يشعر بتقاطع ما إحدى الشخصيات “اللقيطة والسيئة” التي يتناولها المزيني من واقع اجتماعي معيّن بسخط يبلغ حدّ السخرية أحيانا، ومن خلال تجربة إنسانية في العيش ورصد للحراك الاجتماعي ككل. وفضلا عن أن قصص المزيني في “سفر الخطايا” براهنية العيش بأدوات الزمن الذي نحيا فيه وبقيمه السائدة سلبا وإيجابا، فإن المرء يشعر أن المزيني يمارس الكتابة إجمالا بقَدْر من العدوانية تجاه شخصياته إذا جاز التوصيف، حيث تكاد لا تخلو أي شخصية من شخصياته من جانب ما غير إيجابي إن لم نقل سلبي تماما أو حتى غير متحضِّر، ربما لأن هذه العدوانية هي حافز من الحوافز الغامضة التي توجه العديد من الكتّاب باتجاه الكتابة. وقد يصحّ هذا الاستنتاج وقد يكون خاطئا بالفعل. لكن الـ”سِفْر” يتوضح إذ تتبدى المخيلة الابداعية وقد خطّتْ هذه الخطايا وفقا لاعتبارات جمالية خاصة بها وكأنها مستقلة تماما، يتوارى الكاتب خلف شخوصه أو يتماهى فيها حتى أن المرء يكاد لا يراه. هكذا فالسفر ذاته، وذلك من فرط ما أن هذه الرغبات نافرة والنافرة إذ تتصالح وتتواطأ مع ما هو جنسي محض. كتابة خارج الوزن إنما تفرض بنية الكتاب لجهة أنه يتشكّل من قصة قصيرة جدا تليها قصة قصيرة ليتكرر الأمر في الكتاب كله منتهيا بقصة قصيرة جدا أمر يجدر بالتوقف عنده، ذلك أنه من الصعب على قارئ أن يصدّق بالفعل أن ما يكتبه محمد المزيني بوصفه قصة قصيرة جدا أنه كذلك بالفعل بل هناك الكثير منها من الذي يمكن وصفه، بأنه كتابة شعرية خارج الوزن وليست أيضا بقصيدة نثر كما هو متعارف عليه في ثقافات الأمم الأخرى ومنها أمم مجاورة لنا، بعد أن طرحت جانبا أمر النقاش حول مشروعية قصيدة النثر باستثناءات نادرة في عدد من الكلاسيكيات الأكاديمية في عالم اليوم. رغم أن ذلك لا ينفي وجود تقاطعات بينهما أو مفاصل في الصنيع الابداعي بحيث تشبه الواحدة فيهما الأخرى. إن البعض من هذه القصص القصيرة جدا يكاد يكون قصيدة نثر لو أُعيد ترتيب أشطرها بحيث تتموضع في السطر الواحد لتكون الجملة هي الوحدة الأساسية في “القول الشعري” بدلا من من الشطر الواحد وذلك باستخدام علامات الترقيم أيضا التي وإنْ تجعل المعنى محمولا على التأويل فإنها تحفظ الدلالة الواسعة والكبرى لما تريد القصة كذلك إيصاله للقارئ كما هي الحال في القصة القصيرة جدا التي تحمل العنوان: “اليتيم” أقلّها، حيث لا علامات ترقيم بالمعنى المكتمل لكن الجملة هي الوحدة البنائية للقص على العكس تماما مما هي عليه قصص قصيرة جدا أخرى مثل “غيمة حيث لا وجود لأي من علامات الترقيم أو الجملة المكتملة على صعيد البناء التخييلي فما أن تولد صورة “شعرية” حتى تلتحق بها صورة تليها دون توقف حتى وراء الكلمة الأخيرة: “ الليل أسود والسماء غائمة والأرض بلا عيون مشى يقرع حجارة الصمت سقطت في هوّة حزنه أولها ردم ما بقي له من آخره ركل الفراغ فارتجت غيمة، تهاوت من حوله .. ابتلعها فتبخر” حقيقة الأمر أن قراءة هذا النص الحائر والمحيّر لجهة تجنيسه الأدبي وإمكانية قراءة بعض كلماته على نحو لا يقصده الكاتب ربما، تجعل من فعل القراءة مرتبطا بالتخييل أمرا عسيرا. فلو كُتب هذا النص وفقا لوحدة بنائية هي الجملة فالسطر وصولا إلى الفقرة، لكنّا بالفعل أمام قصيدة نثر لكن كتابتها على هذا النحو جعلت منها ما هو ليس بقصيدة نثر ولا بقصة قصيرة بل هي نوع من الكتابة الشعرية المكتوبة خارج الوزن. إن التأمل في لغة السرد في القصص الأخرى، في الكتاب إذ تنأى عن لغة الشعر وتكشف عن طبيعة الحدث والشخصية، تضع حدا فاصلا بينها وبين قصيدة النثر، لكن في غير قصة قصيرة جدا في “سفر الخطايا” يحسب المرء للوهلة الأولى أنها استهلال شعري للقصة القصيرة التي تليها، غير ان هذا ما لا يحدث بل يريد الكاتب محمد المزيني لها أن تكون قصة قصيرة جدا وقد احتفظت باستقلاليتها، غير ان هذا الأمر هو أمر مفتوح للنقاش والجدل يمكن أن يكون واسعا بصدده.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©