الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رشيد مشهراوي الشاهد على تناقضات الراهن الفلسطيني

رشيد مشهراوي الشاهد على تناقضات الراهن الفلسطيني
15 أكتوبر 2008 01:06
في فيلمه ''عيد ميلاد ليلى''، الذي جرى عرضه ضمن مسابقة الأفلام الطويلة في المهرجان، يجمع رشيد مشهراوي عددا من المشاهد والحكايات المأسوية لفلسطينيي الضفة الغربية، انطلاقا من حكاية ''أبو ليلى'' يقوم به باقتدار الممثل محمد البكري) الذي يخرج إلى يوم من أيام عمله كسائق تاكسي مدججا بمشاعر الرغبة في الحصول على هدية لابنته ليلى في هذا اليوم الذي هو يوم عيد ميلادها· هو يكتشف أمر عيد الميلاد صباحا فيما هو يستعد للخروج لتوصيل ليلى إلى المدرسة ومواصلة طريقه نحو وزارة العدل حيث ينتظره وعد بالحصول على وظيفة ''القاضي'' التي ينتظرها منذ زمن، فهو يحمل كل ما يلزم ليكون قاضيا، بدءا من الشهادات والخبرة (المؤهلات الطبيعية) حتى القرارات الصادرة من أعلى المرجعيات في السلطة الفلسطينية (ياسر عرفات)، والوعود التي يتلقاها من كل وزير جديد للعدل، مع التغيير الدائم للوزراء، وما يتبعه من تغييرات شكلية في الوزارة، وما يرافق هذه التغييرات من تغيير دائم لستائر الوزارة (لماذا الستائر تحديدا، هل لأنها تحاول أن تخفي ما يجري في الداخل عن عيون الخارج؟ ربما)، لكنه في لقائه بوكيل الوزير الجديد يكشف عن هشاشة الوضع الرسمي الفلسطيني، كبداية لرحلة تكشف عن أشكال من معاناة الفلسطينيين في تفاصيل حياتهم اليومية أولا، وفي علاقتهم مع الاحتلال وآثاره الكارثية العميقة ثانيا· وبعد جولة متعددة المحطات تتجمع حكايات عدة تلخص الرواية كلها، وتنتهي بمجموعة من المصادفات والحوادث السلبية التي تجعل ''أبو ليلى'' يعود إلى بيته بسيارة الأجرة المحملة بشرائط الزينة والورد، وبقالب الكاتو والشمع وعقد اشتراه عنوة من طفل يمتهن البيع بين السيارات ويرفض أن يأخذ النقود بلا مقابل· حكايات تتجمع لتروي رواية تنتهي بإجابة أبو ليلى على سؤال زوجته حين يعود من جولته عن يومه، بالقول ''كالعادة''· والعادة هذه هي هموم وتفاصيل لقضايا تتوزع بين مشكلات الوضع في السلطة الفلسطينية، وبين ظروف الاحتلال الذي لا يظهر في الفيلم مباشرة، لكن آثاره واضحة في حياة الناس ومعاناتهم· أبو ليلى الذي عمل قاضيا لمدة عشر سنوات في ''دولة شقيقة'' ينظر إلى العالم من حوله ببراءة شديدة، ولكن بعين نقدية لاذعة، ويواجه هذا العالم بصمت شبه كامل تقريبا، باستثناء لحظة انفجاره التي جاءت لتوازي الانفجار الكبير الذي أحدثته غارة أو صاروخ إسرائيلي، جعله يبدو كالمجنون، وهو يصرخ في مواجهة اختناق مروري يتسبب به الانفلات في الداخل الفلسطيني، من جهة، ومن جهة ثانية في مواجهة الطيران الإسرائيلي الذي يحلق في المكان، فيجد أبو ليلى نفسه في خضم نار الداخل المتأتية من نيران خارجية، يصرخ في الاتجاهين، في اتجاه الداخل على الأرض، وفي اتجاه الخارج المتمثل في الطيران الذي يملأ الفضاء، رافضا الوضع كله، ومطالبا بصورة مباشرة بوضع حد لكل ذلك حين يهجم على سيارة للشرطة الفلسطينية ويمسك بمكبر الصوت ليعلن حاجة الفلسطيني للعيش بأمان وطمأنينة· الفيلم يقوم على جمع المفارقات والمصادفات التي يمكن أن تحدث متفرقة، لشخص هنا وآخر هناك، لكن المخرج يجمعها لتخدم عنوان الفيلم ''عيد ميلاد ليلى''، فهو رغم كل ما يحدث من حوادث وتفاصيل تتعلق بحياة الناس اليومية، ينتهي إلى أن تكون هذه الأمور عنصر فرح لابنته وزوجته وهما تنتظران عودته، وتكون مفاجأتهما بسيارة مزينة لا تعرفان أنه تم تزيينها خطأ لأن أبو ليلى أوقفها في مكان كان معدا لتزيين عدد من السيارات المشاركة في عرس، مثلا، أما الشمعة فكان قد اشتراها للميكانيكي الذي وضع سيارته عنده لتصليحها فطلب منه شراء الشمع بانتظار إصلاح السيارة، ولكن الانفجار وتوابعه جعله يحتفظ بالشمعة، وبالصدفة أيضا كان يشتري قالب الكاتوه حين حدث ظرف جعله يخرج ليجد سيارته تخضع للتزيين ويطلب منه الابتعاد بها· ما يجمعه المخرج من حكايات، ويقدمه عبر شهادة ومشاهدة بطله الأساسي والوحيد أبو ليلى، هو مما يعرفه فلسطينيو الداخل جيدا من ممارسات تنغص حياتهم، لكنه قد يكون غريبا لمن لا يتابع ما يجري في الداخل، وهو ليس سوى جزء صغير من تلك المعاناة اليومية التي يعيشها أولئك في الشوارع وفي الدوائر الرسمية، وكذلك في معاملة الاحتلال المتمثلة في الحواجز التي لم يقدم الفيلم أي صورة لها، لكنه تحدث عنها من خلال رفض أبو ليلى حمل الركاب إليها أو عبرها· وتبرز في الفيلم مفارقة عجيبة تتمثل في رفض أبو ليلى (السائق/ القاضي) أمرين اثنين رفضا قاطعا، وهما متداخلان ولا يقل أحدهما تأثيرا سلبيا عن الآخر في حياة الفلسطينيين، الأول هو الحواجز التي يرفض الرجل الوصول إليها، في إشارة واضحة لما تمثله من معاناة وقهر، رغم أن مشاهد الفيلم لا يراها، والأمر الثاني هو التسليح الفالت من عقاله الرسمي، حتى أن هناك شعارا غريبا نراه على زجاج السيارة يشبه التنبيه إلى عدم التدخين في السيارة، لكنه هنا تنبيه إلى أن السلاح ممنوع، إلى حد أن البعض يمكن أن يعتقد أن هذا قد يشير إلى رفض المقاومة المسلحة، لولا المشهد الذي يرفض فيه أبو ليلى حمل مسلح مدني معلنا ذلك بوضوح، حيث يرد المسلح بطريقة تصرح بأنه يملك المال بينما غيره لا يملكه، ولكن ما حاجة هذا المسلح إلى سيارة أجرة إن كان يملك المال فعلا؟ هذا السؤال يمكن أن يجري طرحه على الكثير من المشاهد التي يتشكل الفيلم منها، وهي مشاهد قد تكون واقعية تماما، لكنها غير مبررة فنيا، وغير مقنعة إذا تم تناولها منفردة، فالواقع الفلسطيني يضج بما هو أكثر مأسوية من المشاهد التي يقدمها الفيلم، لكن ميزته تكمن في جمع هذا القدر من المفارقات والحكايات، وهي ميزة تنطوي على ما يترك الفيلم مفتوحا على المزيد من الخيارات، وقد كان من الممكن للمخرج أن يحشد المزيد من الحكايات والقصص والمشاهدات التي تمثل للفلسطيني واقعا يوميا ''معتادا'' تماما، الأمر الذي يجعل السؤال المطروح يتعلق بطبيعة الجمهور المستهدف بهذا الفيلم، فهو بالتأكيد ليس الجمهور الفلسطيني الذي يعيش ما يعرضه الفيلم من معاناة، ولكنه قد يكون جمهورا واسعا لا يرى من هذه الصورة سوى جانب مشوه تقدمه وسائل الإعلام وكأنه هو الحقيقة الوحيدة· الجهد الأكبر في هذا الفيلم حمله الممثل القدير محمد بكري من خلال هذه الجولة البانورامية التي يجمعها المخرج من شوارع وأزقة وحكايات بشر عاديين يعيشون المأساة، ويتعلقون بالأمل في أن يعيشوا كبقية البشر حياة طبيعية تحرمهم منها قوى الاحتلال والفساد والفوضى التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، تتنقل بين كاميرات فريق التصوير في مناطق لا يعرفها سوى المتابع للشأن الفلسطيني· وربما كنت واحدا من المشاهدين الذين تمنوا لو أن الكاميرا دخلت مناطق أكثر بعدا عما تنقله وسائل الإعلام، ولكنني لم أجد سوى القليل مما كنت أتمنى مشاهدته من صور المكان وطبيعته· لكن المخرج لم يكن معنيا بالمكان قدر اهتمامه بالإنسان، وهذه وجهة نظر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©