الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طرابلس... مدينة يملؤها الخوف

4 مايو 2011 23:00
أحياناً يكشفون عن أنفسهم بحركة، يعبّرون عن مقت شديد إزاء سيارة مملوءة بأنصار القذافي؛ أو يرفعون صوت التلفزيون تحديداً في الوقت الذي تبث فيه "الجزيرة" تقريراً يرصد الهجمات الحكومية على المدنيين في مصراتة التي يسيطر عليها المتمردون؛ أو يصدر عنهم تعليق مشفر، مثل السائق الذي يعمل مع المرافقين الحكوميين المكلفين بمراقبة الصحافيين الأجانب... إنهم المؤيدون للثوار والراغبون في انتهاء نظام القذافي. قال أحدهم: "الربيع سيأتي قريباً إن شاء الله"، ولكن الربيع حل قبل أسابيع. "بعد أسبوعين إن شاء الله". "أسبوعان" هما الوقت الذي يُطمئن الليبيون فيه أنفسهم بأن كابوسهم سينتهي. على رغم أن القوات الغربية شرعت في قصف ليبيا الشهر الماضي بهدف معلن هو منع قوات القذافي من قتل المدنيين، فإن الزعماء الأوروبيين أوضحوا أنهم يأملون أن تجعل حملة القصف الحكومة آيلة للسقوط، على أنه يفضل أن يحدث ذلك على يد شعبها. ولكن الطابع القاسي لنظام القذافي، والخوف الذي يزرعه يحولان دون وقف لقتل المدنيين وانهيار الحكومة. خلال الأسابيع الستة التي أمضيتها كمراسل في طرابلس، عشتُ تجربة قد تكون مخيفة لمعنى أن تعيش في ليبيا. ففي الفندق حيث كنا محتجزين فيه ونخضع لمراقبة مستمرة، بدأنا نصاب بالجنون؛ حيث اندلع الخصام بين الصحافيين والمرافقين الحكوميين المكلفين بفلترة المعلومات التي تصل إلينا؛ واحتدت الأمزجة في صفوف الصحافيين الذين كانوا محتجزين مثل السجناء؛ وساد الشك والارتياب: هل لديهم كاميرات مراقبة في غرفنا؟ هل يراقبون رسائلنا الإلكترونية؟ وتطور شكل غريب من أشكال "متلازمة ستوكهولم" (تعاطف الرهينة مع خاطفها) حيث أصبحنا مهووسين بحياة وسياسة المكلفين بمراقبتنا. وأطلقنا العنان للعبة التخمين حول أي مرافق أو مترجم سيكون طيعاً ومرناً أكثر، وتساءلنا بشأن حياتهم الخاصة وما الذي جلبهم إلى هذا العمل: هل كان طبيب الأسنان الذي تدرب في صربيا وتطوع للعمل كمترجم من أبناء سرت، مسقط رأس القذافي وقاعدة قوته؟ وهل كان المتحدث الرسمي المتعلم في بريطانيا يؤمن بالأكاذيب التي يقولها يومياً؟ وهل يشتاق المسؤول الصحافي اللطيف من بنغازي في السر إلى عائلته في المنطقة التي يسيطر عليها الثوار؟ وبحثنا عن مترجمين ومرافقين أقل ميلاً إلى عزلنا عما يجري في الخارج، وحاولنا تجنب المتشددين، مثل المرأة - شقيقة أحد أنصار القذافي- التي كانت تلغي أي رحلة إلى خارج الفندق عندما يتجرأ أحد على طلب الذهاب إلى تاجورا، ضاحية طرابلس المضطربة. الأمر لا يتعلق فقط بكون صور معمر القذافي تزين كل ساحة وشارع، وبكونه وعائلته يهيمنون على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، وبكون قواته الأمنية اخترقت المجتمع من خلال أشكال متعددة لـ"اللجان" التي تعوض الحياة المدنية. وإنما أيضاً بكون التلفزيون التابع للدولة يبث تغطية متواصلة للتجمعات المؤيدة للقذافي؛ وبكون رجاله يقفون وسط حركة المرور ويفرضون على سائقي سيارات الأجرة رفع الأعلام واللافتات على سياراتهم؛ وبأن تكون كل أغنية تبث على الإذاعة حول القذافي وانقلاب 1969 الذي جلبه إلى السلطة وكيف أن الليبيين سعداء ومحظوظون لكل الأشياء التي منحهم إياها. تقول كلمات إحدى الأغنيات: "كل شعوب العالم تعرف أننا سعداء ... لأننا نتبع قائدنا". بل إنه في لحظة من اللحظات، شدد القذافي، على التلفزيون، على أن طياري مقاتلة كندية رفضا أوامر بقصف مجمع باب العزيزية في طرابلس وقاما بدلاً من ذلك بإلقاء قنابلهم في البحر واستقالا من منصبيهما، وأن كل ذلك أدى إلى انهيار الحكومة في أوتاوا. ولم يكن ذلك خطابا ألقاه على جمع من أنصاره المحبين، بل تصريحاً أدلى به للرئيس الجنوب أفريقي جاكوب زوما، الذي تعد بلاده حالياً عضواً في مجلس الأمن الدولي. المدافع المصوبة تجاه المارة، والأسلاك الشائكة تحيط بمجمع باب العزيزية. في الداخل يبدو الأمر كخليط من منتجع عطلات طاله الإهمال، وثكنات عسكرية حيث ينتشر جنود يرتدون بذلات مختلفة ويحملون أسلحة على متن مركبات البيك آب. الأضواء الكاشفة مسلطة على المنطقة الخضراء، حيث تم تشغيل موسيقى صاخبة مادحة القذافي، وأنصار الحكومة الذين "تطوعوا" ليكونوا أذرعا بشرية لـ"الأخ القائد" يغنون ويرقصون بحماس. معظمهم يقطنون أحياء طرابلس الفقيرة، ويُستقدمون بالحافلات يومياً، حيث يُدفع لهم ما يعادل 100 دولار تقريباً لتقديم تمثيلية أمام الصحافيين، ومواساة قلب الرجل الكبير نفسه ربما. امكث في طرابلس لما يكفي من الوقت، وستبدأ في رؤية الوجوه ذاتها من جديد. ولكن آخرين، مثلما شرح لي مصدر سري، يُضغط عليهم من قبل المسؤولين الأمنيين مقابل تساهل مع أخ أو ابن مسجون اعتُقل خلال الأسابيع الأخيرة من الاحتجاجات؛ هذا علماً بأن مئات الأشخاص مفقودون، إن لم يكن الآلاف. في أحد الأيام، استُدعي الجمع نفسه من أجل زيارة إلى الجامعة لطالما وُعدنا بها؛ ولكن خلال طريقنا إلى هناك، اتصل أحد من الجامعة بالمرافقين: "يقولون إن الجامعة تغلي، تعالوا لاحقاً". ثم أعقبت ذلك محاولة أخرى لتشتيت الانتباه بتجمع آخر مؤيد للحكومة أمام مبنى الأمم المتحدة، ما منح قوات الأمن بعض الوقت ربما إرسال تعزيزات إلى الجامعة. وأخيراً، في الجامعة، كان الأمنيون بستراتهم السوداء يحدقون في الصحافيين بينما كان "الطلبة" يمشون في انتظام ويدخلون القاعة. "لا تصدقوا أي شيء ما ترون!"، همست طالبة حقيقية بانجليزية مكسرة، "إنهم ليسوا طلبة حقيقيين!". كانت ترتدي سترة بنفسجية وبيضاء وحجاباً وأخبرتني بأن اسمها "عليمة" وبأنها طالبة في كلية الهندسة. قالت لي: "بعض الناس يخافون... أما أنا، فلست خائفة". تبادلنا الأرقام الهاتفية، ولكنها لم ترد أبداً على مكالماتي، حيث كان هاتفها إما مغلقاً أو خارج التغطية. بورزو درجاهي - طرابلس ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©