الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سعود السنعوسي: «ساق البامبو» لم تأت من فراغ

سعود السنعوسي: «ساق البامبو» لم تأت من فراغ
2 مايو 2013 01:14
الرواية الخليجية عامة، والكويتية خاصة تشهد حراكا كبيراً وملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، وهو ما تبدى في ظهور عدد كبير من الكتاب الشباب بأعمالهم الأولى التي حققوا من خلالها نجاحاً ملحوظاً ووجوداً بارزاً على خريطة الكتابة الروائية في العالم العربي. من بين هؤلاء الروائي الكويتي الشاب سعود السنعوسي الذي سطع نجمه، بعد النجاح الكبير الذي حققته روايته الثانية «ساق البامبو» التي كُتب عنها منذ صدورها في منتصف 2011، عشرات المقالات والعروض والدراسات، تُكوِّن في مجملها مجلداً معتبراً من عدة مئات من الصفحات، إضافة إلى ما جلبته الرواية لكاتبها من احتفاءات متتابعة في الداخل الكويتي والخارج، واستطاعت أن تزاحم أعمالا لروائيين كبار في القائمة الطويلة للبوكر 2013، بل وتصل إلى القائمة القصيرة لتتسع دوائر قراءتها ويزداد المعجبون بكاتبها الموهوب، وذلك قبل أن تصل إلى المركز الأول بحصولها على جائزة «البوكر العربية» المرموقة. لم يأت هذا النجاح محض مصادفة ولا ضربة حظ للروائي الشاب، بل إن الرواية التي أفرط المادحون في الثناء عليها تستحق ذلك لأنها «إحدى أفضل وأنضج وأذكى الروايات العربية التي قرأتها في السنوات الأخيرة»، بحسب أحد نقادها الكبار، وما أكثرهم. رواية «ساق البامبو» للروائي سعود السنعوسى، أدهش الكثيرين أنها الرواية الثانية له فقط، بعد روايته الأولى «سجين المرايا»، ورغم ذلك، ورغم حداثة تجربته مع الكتابة الروائية، فهو يطرح بصورة عميقة للغاية «سؤال الهوية»، ليس فقط هوية المكان والاسم والجنسية والدين، ولكن هوية الاكتشاف والبحث والمعرفة، فكرة ضرورة انتماء الإنسان الذي يطرد عنه شبح الوحدة، ورحلته الصعبة في العالم بعد أن عرف وفهم وأراد، ففي الرواية نفس وجودي واضح، ومذاق إنساني عذب، رغم أنها تخلق تفاصيلها المحلية الواقعية بكل دقائقها من قلب عالمين متباعدين هما الكويت والفلبين. ينسج سعود السنعوسي ملامح شخوصه، وينتقد مجتمعه بشجاعة وصدق وذكاء، الكويت الصغيرة كما تبدو في عيون شاب جاء إليها، يحلم السنعوسي عبر بطله بوطن يمزق ما يحيط بأهله. «ساق البامبو» رواية مؤثرة وممتعة جديرة بالقراءة والتأمل ومن هنا جاء الحوار مع السنعوسي. وفي ما يلي حوار مع السنعوسي حول عمله الروائي: ? معظم القراءات التي دارت حول «ساق البامبو» تجمع على أنها رواية «سؤال الهوية» أو «الهوية المزدوجة»؟ ?? لا أحسب أن «ساق البامبو» جاءت منقطعة الصلة بأعمال سبقتها، وعالجت موضوع الهوية في إطار الداخل الكويتي، فالروائية بثينة العيسى سبقت بروايتها «ارتطام لم يسمع له دوي»، وكذلك الروائية سعداء الدعاس في روايتها «لأني أسود»، وتأتي «ساق البامبو» لتتناول إشكالية الهوية بطرح مغاير ورؤية جديدة. أما بالنسبة للتصنيف أو المصطلح الذي يفضله ناقد هنا أو قارئ هناك، للتطبيق على الرواية أو لإدراجها تحته، فأنا غير معني بهذا ولست متابعاً حتى لحصر تلك التصنيفات أو المفاهيم، فهذا يهم الناقد ويسعى إليه وبالنسبة للمبدع، أتصور أن لديه دافعاً ذاتياً ملحاً للكتابة المختلفة، الكتابة المغايرة، والتجريب في كل اتجاه، والحرص على ذلك في كل تجربة جديدة، وكل ما أتمناه أن يكون العمل الذي أكتبه محققا للمغايرة التي أطمح إليها، ودافعا لغيري كذلك للاستفادة والتأمل كما أفدت أنا من كثير من التجارب الأخرى. ? بعد النجاح الذي حققته «ساق البامبو» هل ستفتح الباب لتجارب تالية تعالج الموضوعات المسكوت عنها؟؟ ?? لابد من الإشارة إلى أن «ساق البامبو» لم تجئ من فراغ، فهي امتداد لتجارب سابقة ونتاج لجهد مبدعين كبار في الكويت، ويجب عليّ الاعتراف بذلك وإعلانه عندما تحين الفرصة، أو تأتي مناسبة، فأنا لا أريد الادعاء أبدا بأنني جئت بما لم يسبق إليه غيري. أما عن الرواية وكسرها للتابو الاجتماعي، فأنا لا أرى ذلك تحديدا، قد يكـون ما ميز «سـاق البامبو» أنـها جاءت ذات طابع شمولي فرضه عليها الموضوع الذي تعالجه، والمادة التي جمعت لها، ساعد على هذا أيضاً أن سعة المجال الذي أتاحته الرواية للتطرق إلى تفاصيل واسعة ومفردات كثيرة في علاقة ذلك الغريب الوافد على بلاده، الآخر الذي يسعى للاندماج في مجتمع يلفظه ويرفضه تماما رغم أنه ينتمي إليه بالأصل والميلاد. الفضـاء الزمانـي للروايـة كان لـه دور كبيـر أيضًا في التعرض لموضوعات وقضايا كثيرة متداخلة ومشتبكة وملتبسة. أما ما رآه البعض مشكورا من أن «ساق البامبو» قد شقت طريقا جديدا في الكشف عن تناقضات وإشكاليات المجتمع الكويتي في بعض جوانبه الاجتماعية والثقافية والسياسية، فلا أملك إلا أن أشكرهم على حسن ظنهم في الرواية وتقديرهم لها، وأقول إنه ربما ستساهم الرواية في كسر بعض الحواجز، وأعتقد أن هناك من أدرك أهمية أن نضع إصبعنا على الجرح والإشارة إليه لعلنا نتمكن من علاجه. أجيال سابقة ? من «ساق البامبو» إلى المشهد الروائي الكويتي.. كيف تراه في المستقبل؟ ?? دائما أكرر، أنني مدين لأجيال من كتاب الرواية في الكويت وخارجها، وعلى رأسهم الروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، وأنا بالأخص محظوظ لتتلمذي على يد المبدع الكبير، بل جيلي كله. فنحن، جيل الشباب، محظوظون في الكويت بذلك التواصل بيننا وبين من سبقنا من أساتذة، يقرأون مخطوطات أعمالنا قبل النشر ولا يتأخرون بإبداء رأي أو نصيحة. وهناك الكثير من الأسماء التي لا تظهر في الصورة إلا أنها تساهم بشكل مباشر في دعم المبدعين الشباب وعلى رأسهم المخضرم إسماعيل فهد إسماعيل الذي يخصص جزءاً كبيراً من وقته للقراءة للشباب والأستاذة ليلى العثمان التي خصصت جائزة لإبداع الشباب في القصة والرواية. أما عن المستقبل، فأنا متفائل جدا تجاه الحركة الأدبية في الكويت، وإن لم تكن الصورة واضحة الآن، فإنها حتما في المستقبل القريب ستحدث أثراً وفارقاً كبيراً. هناك العديد من الأسماء الشابة التي يعوّل عليها، استفدت منها شخصيا، وطورت نفسي من خلال تجاربها، تلك الأسماء هي امتداد لجيل أسّس فن الرواية في الكويت، وأنا واثق بأنه سيتجاوز كونه مجرد امتداد ليضيف إلى الأدب في الكويت بشكل عام، وأدب الرواية على وجه الخصوص. ? على ذكر المبدع الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، يبدو أن ثمة علاقة خاصة تربط بين الروائي الشاب والكاتب القدير؟ ?? وماذا يمكنني أن أقول عن هذا الرجل؟ إن وصفه بـ»الأب الروحي» تعبير يقصر عن الحقيقة ولا يفي بمكانة هذا المبدع الكبير وأثره وتأثيره في نفسي وعقلي، وهو الذي ساهم كثيرا وبشكل مباشر في تغيير نظرتي لكثيرٍ من الأمور، ربما هو نفسه لا يعرف ذلك. ليس من خلال قراءتي لأعماله في الرواية والقصة والمسرح والنقد وحسب، بل من خلال تعاملي المباشر معه. تربطني بأبي فهد علاقة فريدة من نوعها، ولا أستطيع، بأمانة، أن أصنفها تحت أي بند. تجربة الفلبين ? رصد كثيرون البراعة والتمكن اللذين كتب بهما الجزء الخاص في الرواية الذي يدور في مجتمع آسيوي بعيد كالفلبين بكل خصوصيته الثقافية والاجتماعية.. من أين جاء هذا الإلمام الوافي؟ ?? بالتأكيد لولا تجربة سفري إلى الفلبين في زيارة خاصة، ومقاربتي للمجتمع الفلبيني ومشاهدة مباشرة، ما كان يمكن لـ»ساق البامبو» أن تصل إلى الشفافية التي لمسها الكثيرون وعبروا عنها في انطباعاتهم، وكما لمست أنا شخصيا في انطباعات القراء، ما دفع أحدهم إلى أن يكتب عنها قائلا: «في «ساق البامبو» ثمة مقاربة ثقافية وسوسيولوجية دقيقة ومفصلة لمجتمع الفلبين، ودقائق حياته اليومية ومعتقداته وطقوسه في سرد ممتع وخلاب»، ودفع الكثيرين إلى سؤالي عن كيفية تحضيري لهذه المادة معرفيا وثقافيا عن مجتمع مغاير في تكوينه وأصوله وعرقيته. في الفلبين، جُست بين البيوت التقليدية وتجولت بين الناس المحليين سكان البلد، في أحيائهم الفقيرة، ما مكنني من الاقتراب منهم ورصد سلوكهم ونمط معيشتهم وأساليب حياتهم، ومفردات ثقافتهم بشكل عام. عندما عدت للكويت، كنت محملا برصيد وافر من الخبرات ومخزون ضخم عن ثقافة مغايرة، عن الآخر الذي لا نعرفه ولا نعي خصوصية تكوينه ولا ثقافته، وهو ما ساعدني كثيرا في التحضير لتاريخ بطل الرواية «هوزيه ميندوزا أو عيسى راشد الطاروف»، وتجهيز «الفرشة التاريخية» أو «المهاد التاريخي» له قبل شروعي في الكتابة، خاصة وأن «هوزيه» سيمضي ثمانية عشر عاما من عمره، صباه وشبابه اليافع هناك في الفلبين، بلد أمه وجده ميندوزا وخالته جوزافين وابنتها ميرلا قبل أن ينتقل إلى الكويت. السنعوسي بعد الفوز: إني مدان بعد فوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية)، في حفل أقيم في أبوظبي عشية انطلاق الدورة الثالثة والعشرين لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، تحدث الروائي الكويتي سعود السنعوسي في مؤتمر صحفي عن الروح الانتقادية في روايته «ساق البامبو» فقال: «نعم، إنني أنتقد فينا الخلل بوصفنا أفرادا وجماعات، إذ نحن منغلقون على أنفسنا، ولا نُدْخٍلُ الآخرَ إلينا، وهذا قادم من إرث شديد التعقيد، ولا أبالغ إنْ قلت إنّ أحد المدانين في هذا الأمر هو أنا. ولو أني لا أشعر بالندم تجاه ذلك لما كتبت هذه الرواية لتضج القاعة بالتصفيق. وأضاف السنعوسي: «لقد تقمصت الشخصية الرئيسية في الرواية بكل أبعادها وبكل ما لدى «الآخر» الذي أتناوله في الرواية من خزين ثقافي وإنساني وعاطفي، فتابعت الأغاني والصحف والتلفزيونات الفلبينية وترجمت إلى العربية بعضاً من إبداعه عن الانجليزية، وقد عشت هذه الحالة على مدى أعوام حتى أنني كنت أنظر إليّ بعينيّْ تلك الشخصية، ولذلك تقصّدت أنْ أوجع القارئ، لكني لم أجد حلّا لهذا الذي يوجع، ولم أجد إجابة تفي عن سؤال «من نَحن؟، ومن الآخر؟». وفي سياق الردّ على سؤال عن ابتعاد «ساق البامبو» عن اللغة الشعرية وقربها من البساطة في «الحكي» المر الذي يميز أغلب النتاج الروائي الخليجي ما رشّحها للفوز، ردّ السنوسي: «أحيانا كانت تشغلني اللغة فأضبط نفسي وقد تورّطت في مجازات وتشبيهات شعرية لكنني كنت أعاود النظر فيها لأنني اميل إلى البساطة» مؤكدا في السياق ذاته ردّا على سؤال قصير انطلق من طرف القاعة بأنه «بالفعل مشاكلنا في الخليج متشابهة وإنْ تفاوتت بهذا الشكل أو بشكل آخر». وقال السنعوسي، ردّا على أحد الأسئلة: «الكاتب امتداد لتجربته الخاصة. لذلك أتمنى أن تترك الرواية أثرا ما بحيث ينعكس هذا الأثر على سلوك القارئ نفسه. وأنا متفائل بذلك إلى حدٍ ما، ففي السنوات الخيرة ظهرت في الكويت مجموعات قراءة جديدة وبوعي قرائي جديد لذلك أقول إن من الممكن للروية إن تترك أثرا ما هنا أو هناك إذ أنه مع توفّر القارئ الجيد يمكن أن يوجد الكاتب الجيد أيضاً». وقال أيضاً، فيما يتصل بصلة الشخصيات والوقائع بالواقع المعاش: «هناك نماذج كثيرة ومتنوعة من الشخصية الرئيسية وأحداث الرواية في الواقع لكنها ليست ظاهرة اجتماعية لكن لو كانت إشكالية هذه الشخصية ومازقها يخص فرداً واحداً فغنها تكون جديرة بتناولها روائيا، وبهذا المعنى فالرواية موجهة لنا نحن بشكل أساسي وتدور حول مأزق الهوية والبحث عن الذات من قبل القرد والجماعة، أي أنها تناقش موضوعا يخصّنا، إنما اجتهدت في وضعها في سياقها الإنساني لتكون موجهة للإنسان عموما». الناس هنا لا يشبهون الناس هناك * جاءت والدتي للعمل هنا، تجهل كل شيء عن ثقافة هذا المكان. الناس هنا لا يشبهون الناس هناك، الوجوه والملامح واللغة، حتى النظرات لها معان أخرى تجهلها. والطبيعة هنا، لا تشبه الطبيعة هناك في شيء إلا شروق الشمس في النهار، وطلوع القمر في الليل. حتى الشمس، تقول والدتي: «شككت في بادئ الأمر أنها الشمس ذاتها التي أعرف!». عملت والدتي في بيت كبير، تسكنه أرملة في منتصف الخمسينيات مع ولدها أو السيدة الكبيرة كما تناديها والدتي، حازمة، عصبية المزاج في غالب الأحيان، ورغم جديتها وقوة شخصيتها فإنها كانت متطيرة، تؤمن بما تراه في نومها من أحلام إيماناً مطلقاً، وترى في كل حلم رسالة لا يمكن إهمالها مهما كان حلمها تافهاً أو غير مفهوم، وقد كانت تقضي معظم الوقت في البحث عن تفسير لما رأته في منامها، وعادة ما تلجأ إلى مفسري الأحلام إذا ما عجزت عن تفسير حلمها ذاتياً، وعلى اختلاف التفسيرات التي تحصل عليها من مفسري الأحلام تصل إلى حد التناقض أحياناً، فإنها كانت تؤمن بكل ما يقوله أولئك المفسرين وتترقب حدوث ما يحيل رؤاها في المنام واقعاً. وإلى جانب إيمانها بذلك كانت تنظر إلى أي شيء يحدث، مهما بدا بسيطاً، على أنه إشارة لا يجب الاستهانة بها. تقول والدتي، في حين كنت وإياها وخالتي آيدا في غرفة الجلوس الصغيرة في منزلنا هناك: «لست أدري كيف تعيش هذه المرأة وهي ترصد كل حدث وصدفة تمر بها. قلت لها ذات يوم حين كانت مدعوة مع بناتها إلى حفل زفاف، وبعد أن عدن إلى المنزل خلال نصف ساعة من خروجهن: ? انتهى الحفل سريعاً.. سيدتي! مضت السيدة الكبيرة في طريقها إلى الدور العلوي من دون أن تلتفت إليّ، تلقفت هند، البنت الصغرى، سؤالي لتجيب: ? تعطلت السيارة في منتصف الطريق. تذكرت السيارات المصفوفة أمام المنزل. سألتها: ? وماذا عن السيارات الأخرى؟ أجابت وهي تمسح الأحمر من فوق شفتيها بمنديل: ? أمي ترى أنه لو لم تتعطل السيارة في منتصف الطريق.. لحصدت أرواحنا .. في آخره! ? كيف؟! سألتها والدهشــة ملء وجهي. أجابت وهي تنحنـي تنزع حذاءها: ? أمّي رأت أن حادثاً مأساوياً كان بانتظارنا! كان بيتاً ضخماً ذلك الذي عملت فيه أمي، مقارنة مع البيوت هناك، بل إن البيت الواحد هنا يتسع لعشرة بيوت أو أكثر من تلك البيوت التي جاءت منها والدتي. وصلت أمي إلى الكويت في وقت حرج. وقد تشاءمت جدتي كثيراً من قدومها، وقد بدا ذلك على وجهها كلما ظهرت والدتي أمامها. يبرر والدي ذلك بقوله: «وصلت إلى بيتنا، يا جوزافين، في الوقت الذي تعرض فيه الموكب الأميري لتفجير كاد أن يودي بحياة أمير البلاد لولا عناية الله .. وأمي ترى بقدومك طالع نحس!». كان والد يكبرها بأربعة أعوام. أساءت جدتي معاملتها، وعماتي بالمثل، باستثناء الصغرى متقلبة المزاج. أبي وحده كان حنوناً ليناً معها على الدوام، ولطالما اختلف مع جدتي وعمّاتي في شأن معاملتهن لجوزافين.. أمي.. الخادمة. ما كدت أبلغ العاشرة من عمري حتى بدأت والدتي تخبرني بتلك الحكايات التي مضت قبل مولدي، كانت تمهد لي درب الرحيل. قرأت لي بعضاً من رسائل والدي إليها، عندما كنت هناك، في صالون بيتنا الصغير، إلى جانبها. وأخبرتني بكل تفاصيل علاقتها بأبي قبل أن أعود إلى حيث وعدها. كانت تحرص بين الحين والحين أن تذكرني بانتمائي إلى مكان آخر أفضل. وعندما بدأت النطق في سنواتي الأولى. كانت تلقنني كلمات عربية: «السلام عليكم.. واحد اثنان ثلاثة.. مع السلامة.. أنا.. أنت.. حبيبي.. شاي قهوة». وعندما كبرت كانت حريصة كل الحرص على أن تجبني بأبي، ذلك الذي لم أره. أجلس أمام والدتي، في بيتنا هناك، منصتاً إليها وهي تحكي لي عن والدي، في حين تتأفف خالتي آيدا، كعادتها، من تلك الأحاديث. تقول أمي: «أحببته، ولا أزال، ولست أدري كيف ولماذا. ألأنه كان لطيفاً معي في حين كان الجميع يسيء معاملتي؟ أم لأنه كان الوحيد، في منزل السيدة الكبيرة، الذي يتحدث إليّ في أمور غير إعطاء الأوامر؟ ألأنه كان وسيماً؟ أو لأنه كان شاباً كاتباً مثقفاً يحلم بكتابة روايته الأولى وأنا التي أدمنت قراءة الروايات؟». كانت تبتسم وهي تحدثني، يا للغرابة، في حين كانت الدموع توشك أن تسقط من عينيها، وكأن الحكاية قد حدثت لتوها!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©