الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دموع بشاير

1 مايو 2013 20:58
موعد مولد بشاير اقترب .. الموعد الأول مر، والثاني والثالث.. انتظار الأب قلق، ترقب، من نافذة صالة الولادة الضيقة يسترق السمع لعله يسمع الصرخة الأولى، يسرع الخطى إلى السيارة ثم يعود إلى باب الصالة الموصد، يعود إلى السيارة يفتح المذياع، يغلقه، يرجع إلى الصالة، يسأل ممرضة تمر مسرعة في ردهات الممر الطويل: لو سمحت (شو الأخبار؟)، لا ترد. قال في نفسه ربما لم تسمعني أو لعلّها غير عربية، لا تفهم ما أقول. يعود إلى السيارة، يفتح المسجل، ينظر إلى وجهه في المرآة، يغلق باب السيارة، يعود من حيث أتى، يصلي على سجادة ملقاة على باب صالة الولادة، يرفع يديه إلى السماء: يا رب لطفك. يعود إليه هدوءه وسكينته المعهودة، تأتيه القابلة تبشره، يعطيها مبلغاً من المال، بشارة بشاير.. بشاير المولودة الأولى. يذهب مسرعاً بفرح طفولي لازمه منذ صغره، يستخرج لها شهادة ميلاد، ويلفها في ثوب أبيض، يمشي راجعاً إلى البيت وأمها تمشي خلفه بتثاقل إثر آلام الوضع.. بعد ثلاثة عشر ربيعاً، بشاير تنظر إلى والدها من خلف زجاج سميك في غرفة العناية المركزة، تنتظر فرصة سانحة لتدخل وتراه وتقبله، تسكب دموعاً ساخنة، وبالكاد يرفع بصره نحوها. كفكفي الدمع بشاير، يقول لها صامتاً عاجزاً عن النطق وبريق عينيه ينطفئ وجسده يذوي، جوارحه تعطلت وأنفاسه تميل صوب الغروب، روحه وحدها متألقة وقلبه بقي نابضاً بالحياة والأمل. قال الطبيب المعالج في تايلاند: آه ما أجمل معنويات صاحبكم.. يثير الإعجاب والدهشة أينما ذهب في الصين والهند.. يا له من رجل فريد أخبروني من أين يستمد قوة روحه هذه؟، قوة التحمل والصبر والعزيمة الخارقة، البشاشة واللطف.. هذا الرجل الشاب المريض النبيل يعود محملاً بالهدايا: دهن العود من الهند، هدايا من الصناعات التقليدية من تايلاند والصين، وروحه الطيبة توزع السرور والأمل، ابتسامته تسبق كلماته، هكذا كان في كل أطوار حياته، ابتسامة حياء، ابتسامة حب، ابتسامة تترجم ما في قلبه النقي الصافي مثل الماء العذب المنساب في جدول الحياة، ينشر البشر والأنس من حوله. بشاير تقف في الممر الكئيب المليء عن آخره بزوار جاؤوا لرؤية المريض العزيز، يخرج الأطباء، ورجال العائلة لا يتكلمون، بعضهم يغطون وجوههم ويتفرقون هنا وهناك، وبعضهم يغالب دموعه. بشاير تهرول تعرف أن الأمر قد قضي، يلف والدها في ثوب أبيض.. بشاير تتقدم القوم، تجلس عند رأسه في عربة الإسعاف نحو البيت، لتراه نساء العائلة، يستخرجون له شهادة وفاة ويعطونها بشاير، يصلون عليه، يدفنونه، ترجع بشاير إلى البيت وأمها تستند على كتفها لا تقوى على السير. حين كان يسافر للعمل يتصل: أنا راجع عن قريب (اشو تبغون؟). بشاير: أريد حيوانا رضيعا من غابات الأمازون فقد أمه، ولا تنسى الرضاعة والحليب، وأريد سواراً من ذهب وخلخالا من فضة وخاتما من الألماس.. ويضحكان معا ويعلم أنها تبالغ في الدلال والدلع، وتدرك هي أنها تداعبه وأنها في الحقيقة لا تريد سوى رؤية ابتساماته ومشاكساته ووجوده بينهم. سعود بعد أن ينتزع الهاتف بقوة من بشاير: أريد (تلفون) وجاكيت للبرد أفخر به أمام أقراني في الصف. وجاء دور (نوار): أريد فستاناً فيه فراشات وعصافير ومقلمة وشنطة، حقيبتي الأولى تمزقت، وأريد أقلاما وألوانا خشبية وألوانا زيتية وكندورة ثوبها وردي.. تعرف يا أبي إني أحب اللون الوردي. فهد: أريد علبة حلاوة راقية، يعني من الغالية الزينة بشلها حق المدرسة يوم عيد ميلادي، ولازم تقنع أمي تروح المدرسة معي في ذلك اليوم.. انزين أبوي.. سالم: ما أريد شي بس إذا بتجيب لي مثل اللي بتشتريه حق فهد.. يغلق سالم الهاتف وتتناوله فاطمة الصغيرة التي لا تستطيع تكوين جملة كاملة: علوك، آيس كريم، عصير حلاوة. أما روضة، فقد حاولت أمها جاهدة وهي تضع السماعة عند أذنها أن تقنعها بالكلام أو الضحك أو الصراخ أوحتى البكاء ليسمعها والدها كما يرغب دائماً، لكنها تصمت وأخيراً تقول: بابا.. والأم ترقب ذلك بنصف ابتسامة وسعادة ظاهرة ثم تقول له: في أمان الله مع السلامة. - أمي.. أمي.. متى بيوصل أبويه؟ قالت بشاير وسعود وفهد وسالم ونوار. أما فاطمة فقد أخذت روضة تجرها، ووقفت عند الباب.. فاطمة لا تريد أن يسبقها أحد لملاقاة والدها، وهم عادة يتنافسون بقوة على من سيفتح أولاً باب السيارة عند قدوم الوالد. انزوت فاطمة في ركن قصي من البيت تبكي لأن إخوتها الكبار سبقوها إلى والدهم وهو يقبل هذا ويشم ذاك ويحتضنهم جميعاً.. يلتفت فجأة ويقول: وين فاطمة؟ يقولون في وقت واحد: زعلانة لأننا سبقناها إليك.. يبحث عنها بسرعة، وقد تركهم حتى يجدها، سوف يحتضنها، يقبلها، يراضيها، يهدد ويتوعد إخوتها بالعقاب على فعلتهم تلك. يعودون لإنزال البضائع والهدايا التي أحضرها والدهم. تعاتبه بشاير: أوه يا بوي يا كثر ما تحب الغنم والجمال. أحلى أوقاته كانت في العزبة مع الغنم والجمال وقت (لعصير) قبيل غروب الشمس، يصطحب الأطفال معه، يحكي قصة أغنامه من أين اشتراها، وكم من الذرية أنجبت. هذا الكبش النجدي اشتريته من (مزيد)، رأيته في سيارة طاردتها وساومت صاحبه حتى وافق على بيعه.. وهذا (التيس) اشتريته من دبي، وتلك الشاة الضخمة اشتريتها من عمان.. سيارته في كل مرة تأتي محملة (بالسبوس) والشعير والخبز اليابس الذي يشتريه من الباكستاني الذي في صناعية (العين). الأطفال لا يهتمون ويجهلون سر غرام أبيهم بهذه المخلوقات، قد يداعبون ويصورون حملاً رضيعاً أو (سخلا) بدا جميلاً بألوانه الزاهية وشقاوته. تقول بشاير: بصراحة يا أبي أنا لا أحب هذه الحيوانات، بس عشانك أروح العزبة.. حين يذهبون إلى البر يقضون أوقاتاً جميلة.. يأخذون معهم الطعام والسكينة والطمأنينة والقلب الكبير للوالد الحنون يغدق عليهم الحب والبهجة، يقوم هو بالعمل إلا أن يتطوع أحدهم لمساعدته، يعرفهم على أسماء الأماكن والأشجار والأعشاب والحكايات الجميلة عن ذكرياته مع والده، جدهم الفخور به، وقد تنساب دموعه التي يخفيها عنهم حين يتذكر والده الراحل. الزهور البرية والطبيعة عشقه الآخر. يقول: هذه الشجرة مفيدة للبطن، وهذه دواء للتخمة، وهذه الشجرة لو أكلت منها الجمال وهي جائعة وضعيفة ومنهكة، فإنه يصيبها المرض الذي يقعدها فلا تستطيع الحركة أبداً. بشاير: ولكن من أين عرفت كل هذه المعلومات؟ - من أبي، وأبي عن جدي.. شدوا الهمة (نبا نضوي) قبل الظلام، قال هذا وهو يهم بتجميع الأغراض التي استخدموها في الرحلة. سيارته تقف الآن بائسة، تعطلت إطاراتها وعلاها الغبار وشواهد كثيرة، ملابسه، صوره، كتبه، وأشياؤه.. تذكر بشاير وهي تملأ الأفق بكاء وضجيجاً، وتغريداتها في رثاء والدها في المواقع الإلكترونية كلها، ودموعها لا تنقطع.. بشاير كفكفي الدمع، وهي لا تفعل.. كفكفي الدمع بشاير.. وهي تبكي وتدعو الله: اللهم اسكنه في جنة الخلد، اللهم نور قبره حتى يوم البعث.. أبي أعاهدك على الاستقامة والدعاء لك ما دمت حية. تقول بشاير: أبي رحل وما عاد يسألني إن كنت تغديت أو تعشيت أو تناولت فطوري حتى أنشط للدراسة والفهم، وإن كنت شفيت من مرضي وهل تغطيت في الليالي الباردة.. وإن كان مكيف الهواء في غرفتي يعمل جيداً في أيام الصيف.. ما عاد أبي يسألني ماذا أريد حين يعود من السفر.. ما عاد يوزع الحنان بغير حساب في البيت.. ما عاد حضوره القوي يشعرني بالطمأنينة والأمان ويمدني بالأمل.. ما عدت أنام ملء جفوني لعلمي أنه ينام في الغرفة المجاورة. كفكفي الدمع بشاير، فقد بكيت طويلاً، وبكينا لبكائك ألف مرة.. كفكفي الدمع بشاير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©