الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللغة.. معجزة حقيقية

اللغة.. معجزة حقيقية
14 مايو 2014 20:52
تعتبر اللغة معجزة حقيقية وأسطورة تفوق أساطير الخلق لدى شعوب العالم القديم، بل بعد اكتشاف الجينات وتجربة النعجة دوللي باتت اللغة المعجزة الوحيدة التي تدهش كبار المفكرين والباحثين، من أقدمهم حتى نعوم شومسكي. إنها ليست من عجائب الدنيا المرئية كمعبد أرتيميس أو الحدائق المعلقة، التي يمكن تصنيعها. اللغة لا يمكن تكرار تجربتها. قد يبتكر بعضهم كلمة أو كلمات، كما فعل جيمس جويس في «عوليس». وأذكر أننا سمعنا أيام الانتداب الفرنسي بعض المفردات الجديدة التي لم نسمع بها من قبل، لم تكن من ابتكار مثقف كجويس، بل من ابتكار الناس العاديين، وفيها من الدلالة التهكمية ما يلفت نظر أبي الأسود وسيبويه لو سمعاها. ولكن المفردات لا تشكل لغة، ولو أنها... لما كانت معجزة. وهذا ما جعلها وسيلة لأشياء كثيرة، وكان السحرة ولآماد طويلة، يستخدمونها في الحب والحقد والشفاء والأذى... حتى استحضار الأرواح والتواصل مع الأرباب. حنا عبود ظلت اللغة وستظل الشغل الشاغل للمختصين في هذا الميدان، وظهرت فرضيات كثيرة تتعلق بالأصل والفصل، بقيت معلقة ومتلعثمة حتى الآن، وإن كانت تشتمل على جانب من الواقعية، فلا يعقل أن يقوم الباحث بمغامرة عقلية عشوائية، بل يمسك بظاهرة ويتأكد منها ثم يبني عليها. وبالنظر إلى شمولية اللغة وتشعبها، فإن فرضيته تسد جانباً ما، وتضع المهاد لتركيب جديد لا بد أن يكون مفيداً، مهما اعتقدنا أنه بعيد عن الحقيقة. فمن ذاهب أن الأم أوجدت لغة شبه موحدة في عنايتها بالأولاد فشاعت كلمات بابا وماما ودادا... عالمياً. ومن المؤكد أن التجمعات البشرية أوجدت اللغة الأولى المشتركة التي انتقلت من لغة الإشارات الأولى إلى لغة الإشارات الثانية كما يرى بافلوف، ومن قائل إن اللغة نجمت عن الثرثرة بين من يجدون فسحة طويلة من الوقت بلا عمل... ومن قائل إن الإنسان اقتبس اللغة من الطبيعة وما فيها من مظاهر ونبات وحيوان، فالصوت الإنساني تقليد لما تتلقاه الأذن وليس ابتكاراً... ولكن ماذا نقول في ألفاظ من أمثال شمس ومريخ وثور وبقرة، وأي رابط بينها وبين ما تصدره من أصوات؟ ثم ماذا عن الأشياء التي لا تصدر صوتاً ولا تمارس حركة؟ والبحر؟ أي صوت أوحى باسمه؟ وهناك من يرى أن مجتمع جمع الثمار وممارسة الصيد هو أساس نشأة اللغة... ومن ملحّ على الأنا والتأمل في تطوير اللغة إلى ملحّ على الإحساس بالآخر ووضعه في الحسبان، فتنشأ اللغة المتبادلة، ومن دون تبادل لا تنشأ لغة، فلا نظن أن إنسان روسو قادر أن يصل إلى اللغة منفرداً... وترى الدراسات العلمية الحديثة أن الجانب الأيسر من القشرة الدماغية مسؤول أول عن نشأة اللغة، ومن دونه لا يمكن أن تنشأ لغة، فعندما اختبروا الغوريلا كوكو وجدوا أن الألف كلمة التي تستخدمها والألفي كلمة التي تفهمها مرجعه إلى نموّ هذا المركز. ولكن كيف كانت حال القشرة عندما اكتشفوا حفريات لرموز لغوية في كهف بلومبوس في جنوب أفريقيا يرجع إلى ثمانين ألف عام؟ وساهم العرب كثيراً في هذا النقاش. ففي مزهر السيوطي باب “بيان واضعِ اللغة: أتوقيفٌ هي وَوَحْيٌ، أم اصطلاح وتواطؤ” عرض لما كان مطروحاً بين علماء اللغة، وهو باب فيه عمق ووجهات نظر عديدة، نخلص منه إلى نتيجة بارزة وهي أن الأيديولوجيات تؤثر في نظرة الباحث، فمن نظرة الأشعرية أو المعتزلة أو الدهرية... تلمس الخلفية الأيديولوجية التي ينطلقون منها في نظرتهم. فلا يعقل لمن يؤمن بالخلق الماورائي أن يقبل بألا تكون اللغة مخلوقة إذ لا يعقل أن يكون كل شيء مخلوقاً خلقاً باستثناء اللغة فهي وحيٌ وتوقيف وليست اصطلاحاً ولا تواضعاً...إلى آخر ما هناك من عرض مثير للآراء. نظرية شتراوس قامت ثقافة المجتمعات الأولى على الميثولوجيا في كل شيء تقريباً. وقد نعترض مع فيورباخ بأن الإنسان ابن ما يعمل، يهتم بما يراه أكثر من اهتمامه بما لا يراه، على اعتبار أن الصدام مع الواقعي هو ما يلهب الإحساس بالمصير. وهو اعتراض وجيه، ولكن إلى حدّ. فعندما يواجه الصياد وحشاً يتصدى له بحربته... هذا صحيح، ولكن أيضاً يتصدى له بالصلوات، وعرف عن الصيادين أنهم يؤدون رقصة الصيد المترافقة مع مناشدة القوى الغيبية من أجل رحلة ناجحة. وفي الدراسات الأنتروبولوجية، وبخاصة الكتاب الشهير “الأنتروبولوجيا البنيوية” لكلود ليفي شتراوس نجد النقطة الأساسية وهي أن ثقافة الإنسان بدأت من التعامل مع الغائب لا مع الحاضر، فمظاهر الطبيعة ذات الصفة الميثولوجية هي التي يتعامل معها. والمرء يخاف مما لا يرى أكثر بكثير مما يرى. هناك هلع عميق من الصور التي شكلتها المخيلة البشرية من دون أن يكون لها واقع ملموس، أو بالأحرى من دون أن يكون واقع الأشياء مطابقاً لواقع المخيلة، كما تذهب نظرية المثل الأفلاطونية. اللغة الأساسية لا نقصد بمصطلح “ما وراء اللغة” تلك اللغة التي تصف لغة أخرى، كما جاء في المعاجم، بل نقصد أن اللغة الأساسية هي اللغة التي ابتدعها الإنسان من الورائيات- من المخيلة. وباختصار لا نستطيع تفسير نشأة اللغة من دون أن نولي اعتباراً لهذه الناحية، أي أنها من صنع الأرباب لا من صنع الإنسان، بمعنى أنها “إلهام” وليست صناعة فكرية. كانت الربة كليو Clio إحدى ربات الفنون المختصة بالشعر البطولي وهي أشهرهن، وعبدت أكثر من غيرها لأنها أدخلت إلى اليونان اللغة الفينيقية. وأودن Auden رئيس البانثيون الاسكندنافي مكرم لأنه أحضر الرونات (الألواح الإلهية المكتوبة، وعددها هذه المرة ثمانية عشر) وعلم شعبه اللغة. والذي علم الإيرلنديين الفصاحة والنطق والكتابة هو الإله أوغما Ogma ورب اللغة والثقافة والتعليم والطب والحظ الطيب عند اليابانيين هو بنزي تين Benzai-ten، ونيسابا Nisaba هي الربة السومرية التي علمت شعبها اللغة والكتابة والزراعة والحكمة، والرب تير Tair هو الذي جلب اللغة للأرمن... ومن أقدم الحضارات في العالم حضارة مصر التي كان وراءها تحوت Thoth الرب الذي جلب اللغة، وبعدها ظهرت الحضارة... وباختصار لا نجد شعباً في العالم القديم ادعى أن اللغة من وضع البشر. فالشعوب القديمة كانت تعتقد أن اللغة من صنع الآلهة وليست من صنعهم، لأنه لا يوجد بشري، في اعتقادهم، يمكنه صنع هذه المعجزة. ومع احترامنا لكل أصحاب الإلحاد والعلم والطب والهندسة والبيولوجيا... نرى- كما سبق وأشرنا- أن المسألة قائمة في الاعتقاد وليست في الواقع، ومن هنا جعلوا الإلهام عنصراً مستعصياً على التفسير. ولا يفوتنا أن نشير إلى آخر ما كتبه الأب جيم فلاورز أخيراً بعنوان “الميثولوجيا والقيامة” إذ رأى أن الميثولوجيا (وهي ما شنت عليها كنيسته أشرس الحروب في العصور الوسطى) هي الحقيقة النفسية الكامنة وراء اللغة، فلا يجوز الاستهتار بها باعتبارها قصصاً كاذبة وملفقة... بل هي الحقيقة الأعمق والأخلد. وهو يرى أن حس الخلود مغروس في أعماق الإنسان، ومن هذا الحس نشأت الميثولوجيا، ومن الميثولوجيا صيغت اللغة... الخ. لن ندخل في جدال نظريات الأبطال الثقافيين وأشباه الآلهة وما سوى ذلك بل في الرموز اللغوية للميثولوجيا. ونذكر أننا حتى منتصف القرن العشرين كنا نلم أي ورقة مكتوبة في الشارع ونركنها في شق جدار، حتى لا تدنس اللغة التي عليها... كنا نلمها كما نلم قطعة الخبز، تدفعنا عقيدة داخلية بأهميتها الميثولوجية. ومن أشد العرب المؤمنين بذلك ابن حيان صاحب “لوح الزمرد” المشهور. اللغة الرمز جاء في نسب معاوية أنه ابن أبي سفيان بن صخر بن حرب... من بني عبد شمس بن عبد مناف، واشتهرت العائلة بأنها عبشمية، مما يدل أن العرب كانوا من الشعوب الشمسية. فكلمة شمس (شامش) الشائعة في كل فروع اللغة السامية وضعت للدلالة على رب واهب للحياة... وهكذا الأمر مع القمر والليل والنهار والزهرة والمريخ والمشتري وزحل وكل الكواكب. وظلت الشمس الإله الأكبر في بلاد الشام حتى أنه تشكل حلف بين الممالك الشامية في حربهم ضد القمريين مدة حكم داود وسليمان، وسمي الحلف “حلف بلاد الشمس” وبما أن الشمس تلفظ شامش أو شيمش أو شاميش بحسب اللهجات فقد صار يقال “بلاد الشام” أي بلاد الرب الشمس. وبما أننا قصرنا في الدراسة الميثولوجية للغتنا فلا بد من الاستفادة من اللغات الأخرى، وبخاصة اليونانية التي نظمت قبل غيرها. وما قلناه عن الشمس نقوله عن الحيوانات، في العربية وغيرها. وحتى لا نكثر من ذكر الأسماء نحيل إلى كتاب (Zoological Mythology) لمؤلفه (Angelo de Gubernatis) ففيه شرح مسهب للحيوانات المقدسة من البقرة والثور والحصان والحمار والديك والفينيق والرخ والكبش والماعز وحتى العجل الذي عبده المصريون. وعندما نشبت الحرب بين جبابرة البشر وأرباب اليونان، هرب الأرباب إلى مصر بزي حيوانات، وليس بزي بشر. أما النباتات والأزهار والورود والقمح والشعير والأشجار والغابات... فكلها مقدسة كأرباب وربات أو ككائنات فيها قبس من الأرباب (الجن وعذارى الغابة وحوريات البحر والنهر...الخ) وحتى اليوم يحتفل العالم قاطبة بعيد الشجرة، وهو من أقدم الأعياد في العالم. وحتى الأوقات والظروف وساعات الليل والنهار لها رباتها. وليست الموضوعات المعنوية والنفسية بمنأى عن هذا الاتجاه الميثولوجي، فكل عاطفة أو فكرة أو إبداع أو غريزة أو أخلاق أو سلوك أو صفات... لها رمزها في العالم المثالي، على حد تعبير أفلاطون، وهذه جملة من الأرباب والربات وما ترمز إليه عند الإغريق: Achos ألم الجسد (دولور باللاتينية) فحتى الألم كانوا يعتقدون أنه من خارج عمل الإنسان. Adicia الظلم، فالظلم ليس من طبيعة الإنسان، بل هناك كائن غير مرئي يحرك بواعثه. Aglaea الزينة التجميلية أو الإطلالة الحلوة. ALALA صيحة الحرب التي لا تزال تستخدم في معارك المشاة. Anaideia الفجور. Ania الحزن. Ate الحماقة. Aedos الاحترام. Aporia الحيرة والارتباك ونقصان الوسيلة. Aeschyne الحشمة. Cacia الإثم. Charites ربات النعمة من حق وخير وجمال. Dike العدالة، عدالة القانون الصارمة (جستيسيا باللاتينية). Nike ربة النصر التي لا يزال اسمها ينقش على أدوات الرياضيين (فكتوريا باللاتينية). Dolus رب الغش والخداع والنفاق. Eirene ربة السلام (Pax باللاتينية). Eris ربة الشقاق، وهي التي سببت حرب طروادة. Iris ناقلة الرسائل بين المقدسين والبشر... وهناك أرباب وربات لكل خلجة معنوية وعاطفة داخلية وومضة بصرية وخاطرة فكرية ونزوة سلوكية وصفة أخلاقية. ولم نأت على ذكر الرب الإيروس (العاطفة الجنسية) ولا ربات الفنون التسع المسئولات عن كل إبداع فني ولا العلوم والفلك، ولا الشجاعة والتواضع والغرور والولادة والبؤس والثروة والحظ والرحمة والصدق والكذب والقسَم والشائعة والشهرة والجوع والعطش والخصام والنقد والإقناع والفصاحة والحكمة والقسوة والضراعة والنوم والموت والحلم واللعنة والنواح والعزاء والتنبؤ... لضيق المتاح. فلا يبقى أمامنا بعيداً عن الميثولوجيا سوى حروف الجر والصفات (الصفات مستخلصة أيضاً من التشخيص المعنوي). والغريب أننا ننسب إلى أنفسنا تطوير اللغة بينما نستعير من اللغة الميثولوجية أسماء لمكتشفاتنا فجدول مندلييف مليء بها، وكذلك مصطلحات الطب والتشريح والجغرافيا...الخ. أليست معجزة تلك التي ولدت كبيرة وظلت كبيرة، لم تؤثر فيها بواعث البشر العابثة... حتى الآن على الأقل؟ أليست معجزة تلك التي من الحروف المحدودة تصنع صوراً قد تلعب بأكبر عقول الحكماء؟ وهل كانت كذلك لو لم تكن الميثولوجيا وراءها؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©