الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بدو السويد في ضيافة بدو الإمارات

بدو السويد في ضيافة بدو الإمارات
14 مايو 2014 20:54
محمد وردي لم يثر دهشتي عنوان خلال «معرض أبوظبي الدولي للكتاب»، كما فعل عنوان المحاضرة، التي قدمها الباحث والإعلامي عبدالله عبدالرحمن والمغنية السويدية صوفيا جانوك. كان العنوان مغوياً: «البداوة من الرمال إلى الثلوج». وعندما التقيت بالباحث عبدالله عبدالرحمن، تحدث عن بداية الفكرة، وعن طبيعتها، مؤكداً أنه عندما طُلب منه المشاركة بمحاضرة عن «الثقافة البدوية» من قبل إدارة البرامج الثقافية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، بتوجيه من جمعة القبيسي المدير التنفيذي للمكتبة الوطنية، وعلي بن تميم أمين عام جائزة الشيخ زايد للكتاب، علم منهما أنهما يرغبان بترتيب رحلة صحراوية، للمغنية السامية السويدية صوفيا جانوك، كونها من أصول بدوية، ومعنية بالفترة التاريخية لوصول الساميين، السكان الأصليين للسويد، إلى تلك البلاد، ومدافعة عن تراثهم وحقوقهم الثقافية، وتغني في كل الأماكن التي تزورها أو تدعى إليها بلغتهم الأصلية القديمة «جويكس». حينذاك كان التصور أن تنظم لها رحلة إلى «ليوة». «ولكن هكذا رحلة تحتاج إلى ما يزيد على ثماني ساعات للطريق فقط، فماذا سيرى الضيوف، وكيف سيرتاحون؟. ويتابع عبدالرحمن، أنه كان يقوم بزيارة إلى المصرف المركزي في أبوظبي، و«هناك تعرفت بالمصادفة إلى زائر مثلي هو الأخ فرج الحارثي، وخلال تبادلنا أطراف الحديث، أخذنا الحوار إلى موضوع التراث. وعندما علم أني أعمل على جمع التراث الشفاهي في الإمارات، وجه لي دعوة لزيارة (عزبة) يملكها على طريق العين، واعداً إياي بأنني سأجد ما يسرني من التراث البدوي الأصيل. وبالفعل اتصلت به وأبلغته بجولتنا هذه وفحواها وغرضها، وأن الفنانة جانوك تريد الاطلاع على الحياة البدوية في الصحراء، فرحب الرجل بعفوية البدوي الأصيل، المميزة بالجود والسخاء. عقب ذلك قمت بزيارة السفير ماكس بيور في السفارة السويدية، وأبلغته بالأمر، وتم الاتفاق على التفاصيل مع مضيفنا». قبل الشمس في صباح اليوم التالي، كنا بمعية الباحث الجميل عبدالله عبدالرحمن «أبو محمد» ننتظر اكتمال فريق الرحلة بأرض المعارض، حينما سألته عن ورقته في المحاضرة المزمع تقديمها في المساء فقال: من المفترض أن تكون مداخلتي هذه معنية بثقافة الرمال، التي أنجبت شخصية تاريخية من عظماء القرن العشرين القائد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «عاشق الصحراء» و«صقر الصحراء». وهو القائل: «لقد علمتنا الصحراء أن نصبر طويلاً حتى ينبت الخير، وعلينا أن نصبر ونواصل مسيرة البناء حتى نحقق الخير لوطننا». وتتركز الورقة على محاور عدة، أهمها أن الثقافة كنتيجة للعلاقة بين العنصرين الأساسيين كمصادر للثقافة وخصوصياتها وهما: «الإنسان البدوي» والبيئة الطبيعية «الثلجية - والرملية». ولكن القاسم المشترك بيننا هو الثقافة الإنسانية بل التراث الإنساني وعناصر علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية كمصدر فطري للثقافة الإنسانية. في هذا الوقت وصلت سيارة فرج الحارثي، وبعده بقليل أخذت تتوالى سيارات بقية الفريق بالوصول إلى مركز المعارض، حتى اكتمل العدد، فانطلقنا قرابة السادسة من ذلك الصباح الندي. طبعاً يأتي اختيار التوقيت المبكر لانطلاق القافلة لأسباب عدة، منها: اولاً: للاستفادة من الندى، الذي يتكاثف في صباحات مثل هذه الأيام، ويساعد كثيراً في ترطيب الرمال، و«تلبيدها» لتسهيل عملية انطلاق عجلات السيارة بسرعة نسبية على الرمال. ثانيا: لكسب الوقت، والاستفادة من النهار بطوله؛ لأن فكرة السهر أو المبيت وسط الرمال، ليست قائمة بحسابات الضيوف أو المضيفين. ثالثاً: للاستمتاع بشروق الشمس اللافت في الصحراء، فالشروق هناك له نكهة خاصة، لا يعرف مذاقها وأطراف حلاوتها سوى من خَبِرَها. كانت القافلة تضم السفير السويدي في الإمارات ماكس بيور، وزوجته أنكي بيور، والدبلوماسية (بيا رود) والمغنية السامية صوفيا جانوك Sami Singer Sofia Jannok، والدكتورة فراوكة هيرد باي المؤرخة الألمانية المقيمة في الإمارات منذ 1968 ومؤلفة كتاب «من الإمارات المتصالحة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة»، والدكتور خالد المصري أستاذ الآداب واللغة العربية في جامعة بنسلفانيا، مترجم كتاب «مع رشفات القهوة ملامح من التاريخ الشفاهي للإمارات» للباحث عبدالله عبدالرحمن، وإليسون كيلي خبيرة من فريق المتحف البريطاني العامل على مشروع متحف زايد الوطني بجزيرة السعديات وهي متخصصة في التاريخ الاجتماعي، الباحث والإعلامي عبدالله عبدالرحمن وحرمه أم محمد وهو منظم الرحلة والمشرف عليها، وأصحاب العزبة الصحراوية، شباب البادية والخيالة فرج وأحمد وقايد الحارثي. رمال وحداثة انطلقت القافلة على طريق المطار باتجاه العين، فتجاوزنا المفرق، بني ياس، الوثبة، والنهضة العسكرية. كانت المشاهد على الطريق حتى هذه المرحلة، تجمع ما بين المعالم الحداثوية والصحرواية، حيث تجد المساكن من طراز «فيللة» أنيقة وبوابات بأقواس وقناطر تنطوي على إيحاءات شرقية وإسلامية، تتخللها مزارع النخيل والفاكهة والخضار بأنواعها، إلى جانب كُوّات مفتوحة على فضاء الرمال، تضيق وتتوسع حسب الأمكنة، ورغبات مالكيها في البناء والاستصلاح للسكن أو للزراعة. لافتات الطرق التي تجاوزناها كانت تشير إلى ميدان سباقات الهجن في الوثبة واصطبلات أبوديب والجسور على الطرق الحديثة، حتى تجاوزنا ثاني محطة للبترول على طريق العين. وبعد المدخل الثاني، اتجهنا إلى «السقايا»، حيث باتت الطرق رملية تحفها الكثبان من الجانبين، بتعريجات وتقسيمات هندسية مذهلة، لا تقطعها سوى قيام بعض المزارع ومرابط الإبل. مر على مسيرتنا نحو أربعين دقيقة، حينما أخذت تلوح لنا عزبة فرج الحارثي، وراحت تظهر ملامح جمهرة صغيرة من الناس تقف بانتظارنا، هم أشقاء وأبناء عمومة فرج، فاستقبلونا بالبشاشة والترحاب أمام مجلس صيفي مقام بالهواء الطلق، مفتوح من كل الجوانب طالما أن الريح ساكنة، ومسالمة في هذه الساعات، وحالما تغضب تُسدل سُتُره لتحمي رواده من الرمال. المجلس مظلل بطريقة جذابة، ومزين بأسلوب يبدو على شاكلة ما كانت عليه المجالس في السابق، حيث مُعلق على كل عمود من أعمدة المجلس جود أو «قُربة» ماء، مصنوعة من جلد المواشي، إلى جانب فانوس كان يستخدم قديماً للإضاءة، وبعض الأدوات، مثل الخناجر أو السيوف، التي يعلقها أصحابها حال وصولهم إلى المجلس، وكذلك تم تعليق ما يشبه العصاة التي كانت تستخدم لهش الإبل، والخيزرانة التي يستخدمها الخيالة لتحفيز أصائلهم على السرعة. أما أرض المجلس، فمفروش بالسجاد العجمي الفاخر، وفي صدر المجلس تتوزع فرش الصوف والمساند المعدة خصيصاً للاتكاء أو لإسناد الظهر عليها من أجل راحة المقيل. ولن يخفى على رواد المجلس أنه مزود بكل وسائل الراحة الحديثة من تبريد للماء والهواء، بالإضافة إلى المراوح لطرد الذباب والهوام، هذا فضلاً عن كل تقنيات الإضاءة والإلكترونيات الصوتية والسمعية والبصرية حتى أدوات التسالي. بمواجهة المجلس الصيفي، هناك آخر شتوي مصنوع من وبر الإبل وصوف الغنم وشعر الماعز، وكل نوع من هذه الأنواع له وظيفة، فمثلاً شعر الماعز صلب ولا تبلله المياه، فهو الأكثر مقاومة للأمطار والرياح، أما الصوف والوبر فهو الأكثر حفظاً للحرارة في الشتاء الصحراوي القارس، كما أنه الأكثر تبريداً في صيف الصحراء اللاهب. ومن الطبيعي أن يكون المجلس مجهز أيضاً بكل أدوات الراحة والاستقبال. قهوة وتمور وجغرافيا حالما ترجلنا من السيارات استقبلنا المضيفون بالقهوة العربية والتمور، وبعد السلام والكلام دعينا للراحة قليلاً في المجلس، حيث دارت الأحاديث عن الأمكنة ومزاياها الصحية عضوياً ونفسياً، ونظافتها البيئية، دون نسيان مثالبها برؤية معاصرة، حيث تتزايد الخشية من العقارب والزواحف، التي لم تكن تُخف أو تُقلق الأجيال القديمة، كما تفعل بجيل اليوم. وفي هذا الوقت توجهت جانوك إلى زميلها في المحاضرة أبومحمد، متمنية منه، أن يقدم عرضاً عن الطبيعة الجغرافية في الإمارات؟ فقدم لمحة موجزة، لكنها وافية عن جغرافية الإمارات، وتضاريسها، وأحوالها المناخية والبيئية. بعد ذلك، دعينا إلى شرب حليب النوق الطازج، وخُيرنا بين أن يأتينا الحليب إلى المجلس، أو نذهب إلى حظيرة النوق الحلوب، فكان اختيار الجميع من دون تردد، بل نذهب إلى الحظيرة. وهناك كان الحليب أكثر من طازج، حيث ينتقل بطاسة الألمنيوم من ضرع الناقة إلى الشفاه خلال دقيقة أو دقيقتين لا أكثر، وكان يبدو فاتراً بنكهة محلاة، بمذاق عسلي طبيعي، فشرب الجميع بنهم، وكنت أكثرهم رغبة بعَبِّ ما استطعت منه، متأثراً بدعاية المطرب البدوي، الذي يشبه طعم خد محبوبته بمذاق حليب الناقة، فيقول بإحدى أغانيه: «يما ياخَدْ السمرة سكر حليب الناقة»، لذلك شربت وشربت حتى لم أترك فرصة للمزيد، مستغلاً انشغال البعض باختبار يده في عملية حلب كريمات النوق، التي تستسلم بانقياد سلس ووداعة متناهية، حتى للأيدي الغشيمة، التي كانت تجرب بضرعها مهارة لن تكتسبها أبد الدهر، كما فعلت باي وبيور وكيلي وجاناك، حتى «الكعدان» أو حوار الناقة الصغير الذي يُستدعى بالعادة للوقوف إلى جانب أمه، كي تَدِرُّ وتجود بلبنها على أهلها، بدا وديعاً مستسلماً للأيادي التي تمسد على عنقه وجبينه. وأخذ الباحث عبدالله الرحمن يتحدث عن الإبل ودورها في حياة البدوي فقال: احتلت «البوش» أي الإبل مكانه كبيرة في حياة البدو فكانت وسيلتهم في التنقل والسفر للتجارة بين العين وأبوظبي مثلاً كما كانت تشكّل مصدراً للرزق أسوة بغيرها من الحلال، ومصدراً للغذاء والدواء يشربون حليبها، ويأكلون لحومها، ويتداوون ببولها، وبفضلها لم يشعر البدوي يوما بالجوع أو العطش، لذا بلغ شأن الإبل في حياة البدوي مبلغاً كبيراً فإذا ماتت ناقة بكى عليها وحزن كثيراً، ويطلق البدو على إبلهم أسماء مثل «فرحة» و«عرقة» و«وبرة» و«سمحة»، و« فريجة». ويتابع أبو محمد: وكانت الإبل تورد للماء يوماً بعد آخر بمفردها ودون أن يرافقها راعٍ، فقد اقتصر دور الرعاة على مرافقة الصغار من الإبل واللائي يطلق عليهن اسم «المقصورات»، وذلك خوفاً عليها من الضياع، وعندما تعود الإبل من المرعى تُحلب ليعم خيرها على سكّان «الفريج» أي الحي، فيشعر الراعي حينها وكأنه قد ملك الدنيا في هذا اليوم، وكانت الإبل «يغبّن» يوم أي يغِبْن، ويوم «يْردّن» أي يعدن، وعند عودتهم يتم استبدال «الشّمال». ومن الجدير بذكره أن البدو كانوا يستطيعون تمييز المرعى التي تغذّت عليه الإبل، وذلك من خلال مذاق حليبها ورائحته الزّكيّة، وكانوا يتلذذون بحليب النوق التي تتغذى على شجرة «العرفي» أي العرفج، فقد اشتهر العرفج بين النباتات البريّة برائحته الزّكيّة، وطعمه المميز الذي يميّزه البدوي عند احتساء الحليب. زهوة الأصايل في هذه اللحظة، ثار عجاج الخيل على حين غرة، وبرز قايد وابن عمه أحمد على ظهر حصانين وكأنهما بحالة سباق، شدت أنظار الجميع، فهما فارسان محترفان، ويشاركان بسباقات «القدرة» بمختلف المسافات، ويحرزان الجوائز والأنواط في السباقات المحلية والإقليمية والدولية، علماً بأن أحمد طالب يدرس القانون في جامعة العين، ومع ذلك يتشبثان بالبداوة وعاداتها وتقاليدها، في الرياضات التراثية، خاصة الفروسية وسباقات الهجن، التي ورثاها عن آبائهم وأجدادهم. لذلك بدت جولاتهما مشوقة ومغرية. وما أن عرض ركوبها علينا، حتى تهافت الجميع للتنعم ببهجة امتطائها والتجوال بها باستعانة المضيفين في الغالب، ما عدا الدبلوماسية في السفارة السويدية رود بيا، التي أدهشتنا بخبرتها ودرايتها في التعامل مع الخيل، حيث ركبت حصانها بثقة، وراحت تعدو به بلياقة غير عادية، غير مبالية بنظراتنا الحاسدة، التي كانت تتابعها من كثب، أكثر من محاولاتنا للقيام بشيء مما تقوم به. خلوة القمة خلال هذا الوقت كان بعض المضيفين قد أعدوا سيارة مجهزة لعبور الكثبان بمهارة وكفاءة، ودعوا من يرغب بمنازلة الرمال من دون مجيب، حيث أقعد بعضنا الخوف جهاراً، في حين أخذ البعض الآخر يتظاهر وكأنه لم ير السيارة، ولم يسمع الدعوة، فانهمك بالتصوير مع «الكعدان» والخيول الأصيلة أو ركوب الإبل، هرباً من مغامرة «السفاري»، حينها راح بعض مضيفينا يجولون بالسيارة على مرأى من الجميع، لعلهم يبثون بعض الشجاعة في قلوب ضيوفنا من دون جدوى، إذ ذاك أُلغيت جولة مصارعة الكثبان الرملية، واندمج الجميع بالتصوير. فجأة اختفت الفنانة جانوكا ومعها المصورة السويدية لوتا التي تعمل في أبوظبي بوكالة تصوير أجنبية تبيع صورها للكثير من المطبوعات الأوروبية والأميركية، فبدأ البحث عنهما بوجل، وكاد الهلع يتسلل إلى قلوب الجميع لولا عودة أحد المضيفين، وهو يقول: إنهما على ظهر أعلى قمة رملية، لو انحرفتم عن هذه التلة المقابلة لشاهدتموهما، لوتا منهمكة بالتصوير، وجاناكا مستغرقة في التأمل والتفكير. رقصة اليولا حالما عادت جانوك ولوتا فاجأهما الشباب ببث أغاني جانوك عبر مكبرات للصوت مزروعة في مختلف جهات «العزبة»، ذلك أن بعض المضيفين قام بنسخ أغانيها عن «اليوتيوب» خلسة، في محاولة لاستدراجها وتقديم وصلة حية بصوتها. وهكذا كان فقدمت أغنية تتحدث عن «الماء»، ودوره في الحياة خاصة بالنسبة للإنسان. فأمتعت الحضور بصوتها الشجي. إلا أنها بدرايتها وفطنتها، تعرف كيف توجه الاهتمام إلى موضوع آخر، فسألت أبو محمد بشيء من الجدية، عن تحولات الطقس المفاجئة والمتغيرات المناخية وتأثيراتها على البيئة والبدوي في الصحراء. ولم يتردد أبو محمد، فتطوع مترجماً حيناً وشارحاً معظم الأحيان تصاريف الحياة في البادية قديماً، مستفيضاً بالحديث عن منتجاتها الصوفية واللبنية، والنباتات الصحراوية ومتغيرات الفصول والترحال وتحولات البيئة الإماراتية في السواحل والجبال والسهول، ومواسم الغوص «ومقايض البدو»، في الواحات الصيفية الشهيرة مثل واحتي «ليوا» و«العين» بالنسبة إلى سكان أبوظبي، وارتباط الناس بالنخيل والإبل، مجرياً مقارنات بينها وبين حيوان «الرنة» في السويد. خلال الحديث بهذا الموضوع، كانت تتناوب على الأسئلة بشكل خاص، كل من جانوك وكيلي وباي وبابي، وكان السفير بيور وزوجته يشاركان بها على تقطع. هنا أخذت جانوك الحديث، فتوجهت إلى أبو محمد بالقول: أظنك تذكر حينما سألتني عن خصوصيات بدو الثلوج، وذكرت لك بعضها، فأكدت بدورك أنها متشابهة مع خصوصيات بدو الصحارى. فأنا تَكَوّن لدي الآن تساؤل كبير، لا أعرف حتى اللحظة إجابته. فهل المسألة تتعلق بشروط الثقافة ومعطياتها البيئية والمناخية؟ أم أن المسألة كامنة بالجينات، تتوارثها الأجيال إلى ما شاء الله؟ ولما كانت تعلم بأن تساؤلها مبهم إلى حد ما، أفاضت بسرد ما سمته «المتشابهات» بين بدو الثلوج وبدو الصحارى، حيث لاحظت أن الجمل في الصحراء أشبه بحيوان «الرنة» في السهول الثلجية، فذاك يبحث عن العشب وسط الرمال، وهذا يبحث عنه في قلب الثلوج. كما يعتمد البدو في المنطقتين على حليبه ولحمه، ووبره وجلده، وإذا كان بدو الصحارى يغزلون وبر الجمال، لحياكة ملابسهم، فإن بدو الثلوج يستخدمون جلود الرنة لهذا الغرض. كذلك يرتحل بدو الثلوج بحثاً عن الكلأ، ومثلهم يفعل بدو الصحارى، هذا بالإضافة إلى سمة الرعي الغالبة على الجانبين، ناهيك عن تدبر ظروف الحياة، ومواجهتها بشجاعة لافتة، فضلاً عن السخاء الذي يجمع بينهم، وتمسكهم بالأنساب والأحساب، وتعلقهم بالقبيلة والاستعداد للتضحية الفردية من أجل الجماعة. الباحث عبدالله عبدالرحمن أيد «متشابهات» جاناك، معتبراً أن ذلك ربما يعود للأمرين معاً، مع اختلاف المناخ لجهة الطقس، ولكنه يتشابه إلى حد بعيد بقسوة الحياة في المناخين. حينذاك تشجعت الفنانة جانوك في الاستطراد، لتعزيز وجهة نظرها من خلال الحديث عن رحلتها الأخيرة لمضارب البدو ومراعي «الرنة» في منطقة «التندرا» القريبة من القطب الشمالي، عارضة بعض الصور لها مع سكان تلك البلاد، وأخرى لقطعان «الرنة» وسط بساط أبيض من الثلوج على مد البصر. غناء وكلام بعد الغداء صدحت مجدداً أصوات مكبرات الصوت بالغناء الشعبي الخليجي، فدب الحماس بقلوب الشباب حيث هرعوا مجتمعين إلى الساحة، وراحوا يرقصون «اليولا» بتناسق أخاذ بين حركات الجسد، والخيزرانات باليدين، التي كانت تعلو وتنخفض بانتظام مع إيقاع الطبلة والغناء، حتى أدركنا المغيب، وبدأت الاستعدادات لرحلة العودة. في طريق العودة، سألت الفنانة جاناك عن سبب إصرارها على الغناء أينما كانت بلغة «جويكس»، أي لغة أهلها من البدو الساميين في السويد، فقالت إن اللغة لا تهم عندما يتعلق الأمر بالموسيقى والغناء، فهما عابران للثقافات، ولا توجد صعوبات البتة في توصيل ثقافة الساميين السويديين بلغتهم الأصلية إلى الآخرين في أي مكان، وأنها تلاقي القبول والاستحسان أينما توجهت. أما بخصوص انتماء الـ«جويكس» إلى العرق السامي، فتؤكد جانوك أن هناك دراسات وأبحاثاً ومنشورات عدة توثق وجود شعب سامي، عاش في منطقة القطب الشمالي منذ آلاف السنين، وحافظ بقوة على ثقافة غنية وتقاليد راسخة ونمط حياة رعوية مماثلة لثقافة الساميين المعروفة في تاريخ شبه الجزيرة، خاصة لجهة التنقل والترحال والرعي صيفاً وشتاءً، رغم قسوة الظروف المناخية، وإذا كان أبناء الصحارى يرتحلون بالإبل والخيول والمواشي بحثاً عن المرعى والماء وسط الرمال، فإن أبناء القطب الشمالي كانوا يرتحلون بحيوان «الرنة»، من مكان إلى آخر بحثاً عن العشب تحت الثلوج. وبشأن عدد الـ«جويكس» في السويد بالوقت الراحل، تقول جاناك: «إنهم بحدود سبعين ألف، ما زال نحو عشرة بالمائة منهم حتى اللحظة يكتسبون رزقهم من حيوان الرنة، ويرتدون أزياءهم الشعبية المعروفة باسم (الجادكي)، وهم فخورون بأصولهم وانتمائهم إلى العرق السامي». السفير السويدي: لحظة لن أنساها وجه السفير السويدي رسالة إلى عبدالله عبدالرحمن بعد الرحلة، جاء فيها: إنها المرة الأولى التي تقوم فيها صوفيا بزيارة الإمارات العربية المتحدة خصوصاً والمنطقة عموما؛ لذلك فإن الرحلة كانت مهمة لتمكينها من من أجل إقامة صلة مع المجال الصحراوي، تحضيراً للمناقشة معكم في اليوم نفسه. لقد وصلنا في ساعة مبكرة من الصباح، ما جعلنا نشاهد تلك الألوان المدهشة للصحراء، حينما كانت أشعة الشمس تنعكس على الرمال. لقد أجرينا مناقشات مهمة حول شروط العيش في الصحراء، وكذلك عن أوجه التشابه الثقافية بين قومية «السابمي» والبدو. وفي منتصف الحوار برزت أهمية المسألة الثقافية والاقتصادية في ما تمثله الجمال وحيوانات الرنة. بالنسبة إلي، ستكون رحلة هذا الصباح واحدة من أهم اللحظات التي أتذكرها خلال إقامتي في الإمارات العربية المتحدة.. عندما جلست تحت ظل الخيمة، واستمعت إلى العقول والثقافات. لقد كانت تجربة مثيرة ومفيدة حقاً. صوفيا: الرمال تشبه الثلوج كتبت المغنية صوفيا جانوك انطباعاتها عن الرحلة، وفيها: قبل ذهابي إلى الإمارات العربية المتحدة، لم تكن لدي أي فكرة ما الذي سألقاه. كنت أعرف أننا سوف نزور الصحراء، ولكن بالنسبة إلى فتاة نشأت في مناخ القطب الشمالي كان لدي القليل من المعرفة عما يعنيه ذلك. لم أشاهد الصحراء من قبل أبداً، لكني استطعت أن أستوحي بأن الصحراء هي مساحة مفتوحة مثل المحيط و(تندرا الكبرى)، خصوصاً عندما كتبت «ألبومي» الأخير «واسع كما المحيط». كنت أريد أن أشاهد عناصر الصحراء منذ وقت بعيد. لذلك غادرت الربيع البارد في سابمي (أرض السامي)، والثلج يغطي (تندرا) والبحيرات في وطني، إلى مناخ أكثر دفئا. لقد أمضيت الأسابيع الأخيرة في منزل عائلتي في بلدة صغيرة. حيوانات الرنة التي تمتلكها عائلتي كانت تسرح في المراعي، فكنت أتبع أقربائي إلى تلك المراعي لمساعدتهم في جمع تلك الحيوانات، والاطمئنان إلى أنهم في المكان الصحيح. ذلك يعني التزلج على الثلج، أو البحيرات الجليدية، والاهتمام بالرنة (إنهم دائماً أحرار في الغابات والجبال) ودفعهم ببطء نحو المراعي، وهم يمتلكون قابلية للطعام تحت طقس مثلج. عندما وقفت فوق الرمال الساخنة، في مكان ما بالصحراء قريباً من أبوظبي، أدهشني إحساسي بشعور مشابه. الرمال تشبه الثلوج، بإمكانك أن ترى مسارات الحيوانات بوضوح. وعليك أن تكون باكرا هناك لكي تستطيع السير فوق تلك المسارات: في الصحراء بسبب الحرارة المرتفعة، وفي (تندرا) بسبب إن الثلوج تصبح لينة جدا خلال النهار. بقدر ما تستطيع أن تشاهد، فإن المدى يتسع مع ذلك الشعور بالخلود. الأرض تلتقي مع الجنة بعظمة لكي تذكرنا كم نحن صغاراً. الرمال تشكل جبالاً صغيراً، ولولا الحرارة لكنت أحسست بأنني في موطني. لا شيء يستطيع أن يستحوذ على نظري مثل الصحراء. فجأة لاحظت نقاطاً صغيرة بين الكثبان. كانت تتحرك إلى الأمام، يدفعها الراعي. وأدركت أنها قطيع صغير من الجمال. تماما كما في الوطن! مع الرنة والثلوج. الجمال تقترب، وصوت الراعي يدفعها لكي تأخذ الاتجاه الصحيح، تماماً كما هو الصوت الذي يطلقه أفراد شعبي عندما يقودون الرنة. لقد عبروا أمامي وأنا جد سعيدة لكوني محظوظة في التجربة. الناس يتشابهون رغم بعد المسافات واختلاف البيئات. كانت لحظات قليلة قبل أن أحظى بصداقات جديدة مع الناس في هذه المنطقة الصحراوية. حسن الضيافة والكرم أمر مدهش. كان لدي الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات، فضلاً عن حبي للاستطلاع، وقد حصلت على الإجابات من أصدقائي الجدد. في موطني، فإن أبناء شعبي ما زالوا يحصلون رزقهم بالطريقة التقليدية، ولكن إلى متى سيظل ذلك؟ لا أستطيع الإجابة.. التحدي الكبير هو المحافظة على حقوق الأرض والمياه؛ لذلك فإن الناس يستطيعون الذهاب والعيش مع الطبيعة، كما فعلوا لآلاف السنين. إن البدو في الإمارات العربية المتحدة، يكافحون بشكل أساسي للحفاظ على ثقافتهم حية. إني غير متأكدة من ذلك، ولكن هناك أمراً مؤكداً، وهو إن الجمال في الأماكن المفتوحة والمتسعة، كما في الصحراء أو في (تندرا)، سيبقى لكي يستطيع أبناء أبنائنا تسميته وطن. ذلك هو ما يلهمني في موسيقاي ـ التقاء الناس من مختلف أنحاء العالم، والاستمرار في الاشتراك بالأحلام نفسها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©