الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإحساس بالعزلة أو الطفل مخذولاً.. وجهان للأدب السويدي الحديث

الإحساس بالعزلة أو الطفل مخذولاً.. وجهان للأدب السويدي الحديث
14 مايو 2014 20:55
جاسم محمد* ما الموضوع أو الفكرة التي تشغل الأدب في السويد الآن، بحيث إن جزءاً من نسيجه قد انبنى وفقاً لها؟ ليست الإجابة عن مثل هذا السؤال سهلة؟ لكن واحدة من أهم الثيمات التي يدور حولها الأدب في السويد هي الطفل؛ ذلك الذي يشعر بالخذلان الذي يشكل موضوعاً مركزياً في الأدب السويدي الحديث. إن موضوع الطفل المخذول وإنصافه يتردد غالباً في السِيَر الذاتية أو القصصية، وحتى الشعر مملوء بها كأنها المظهر الخارجي لصراع أيديولوجي واجتماعي. أسوق هنا رواية الصحفية أوسا ليندَبوري «لا سلطة لأحد ما عليَّ»، الصادرة عام 2008، لكنها لا تزال محور حديث دائم. وما يلفت انتباهي أيضاً أن سلسلة الكاتب ستيغ لارسون الألفية برواياتها الثلاثة «الفتاة ذات وشم التين»، و«الفتاة التي لعبت بالنار»، و«الفتاة التي ركلت عش الدبابير»، التي تُرجِمت إلى ما لا يقل عن أربعين لغة. موضوعها هو الثأر لفتاة مخذولة. قبل ثلاثة أسابيع حضرت حفل توقيع كتاب صديق ألقى فيه يافع قصيدة على مسمع من أبويه يكيل إليهما نقداً لاذعاً دون أن تختفي ابتسامة الفخر من على شفتيهما، كأنهما يقولان: لقد أدَّينا واجبنا عل أحسن وجه. يبدو أن الانتفاض على الوالدين هو مطر الزرع الأدبي السويدي، وأن لا جنَّة فيه تحت أقدام الأمَّهات، ولا إلهه يرضى عن عباده بعد رضاء الوالدين عنهم. فهل الحوار مع القيم السائدة، التي تمثلها الأجيال الأقدم، ظاهرة عرضية أم سمة لازمة لهذا الأدب؟ أحد كتبي المفضلة الذي أرجع إليه دائماً كي لا أنسى أن قوة النَّصِّ تنبع من بساطته هو كتاب «أوراقٌ مخلوطةٌ» للشاعر الكوني غونّار أَكَلَوف الذي له مجموعات عديدة مترجمة الى العربية على يد الزميل الراحل عصام الصرطاوي. صدر الكتاب عام 1967 ولا تزال أهميته حاضرة. ضَمَّنَ الشاعر فيه مقالات قصيرة يذكر في إحداها أن الأدب السويدي يتميز بكونه أكثر أداب أوروبا قتلاً للآباء، قاصداً أن أدبَ بلاده يتَّسم بانتفاضة دائمة، أنه مصاب بهوس التجديد. فكل جيل وكل كاتب يحاول إيجاد أسلوب يتميز به عن سابقيه وعن أمثاله من جيله. فلا يجد الكاتب متعة أو بالأحرى لا يقابَل بحرارة من النُقّاد حين يحاول السير على طريق ساره قبله كاتب آخر. رغم أن أكَلوف يرى في هذه النزعة صفة ليست حميدة أعتقد أنها في الوقت ذاته عاملاً إيجابياً يثري الأدب، يجعله منفتحاً على آداب الشعوب الأخرى. فالأديب الذي لا يقَّلد كُتّابَ لغته لا يعني بالضرورة أنّه لا يسير على آثار أدباء لغات أخرى. وكل من يعتقد أن بوسعه القدوم بشيء جديد يجد أمامه عدداً هائلاً من دور النشر المرحِّبة. في مقدمته لـ «أنتولوجيا الشعر السويدي» من سبعينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من الألفية الثالثة يورد الشاعر والناقد ماغنوس وليام أولسون: «لقد رَنَتْ السويد وأصغتْ دوماً، وكذلك القصيدةُ السويديّةُ، من موقعها على حافة أوروبا، الى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا. فحين تُرَوَّجُ موضةٌ شعريةٌ في باريس، لا يطولُ الأمرُ بالشعراء السويديين أكثر من عشرة أعوامٍ، في أسوأ الأحوال، قبل التقاطِها». قد يكمن خلف النزعة هذه شعورٌ بالعزلة ورغبةٌ للتواصل مع الآداب الأخرى مما يدفع بدوره إلى اتساع حركة الترجمة. ففي إحصائياتها لعام 2012 تورد المكتبة الملكية أن في السويد صدر 1195 كتابا مترجما، منها 377 طبعات ثانية. حصَّة الكتب العربة منها لا يتعدى أرقاما محزنة - واحد أو اثنين. أما مجمل الإصدارات في العام نفسه، فقد بلغ 10733 كتاباً بما فيها الكتب العلمية والكتب الخاصة بجمعيات معينة. وما يختص منها بالأدب كان قد صدر حينها 1744 كتاباً، منها 519 تُطبع للمرة الثانية. قياساً بعدد سكّان السويد البالع حوالي عشرة ملايين نسمة، يُعدُّ هذا البلدُ من أكثر بلدان العالم إصداراً للكتب الأدبية. لا بد هنا من التنويه أيضاً أن حركة القراءة أوسع من حجم الإصدار، إذ إنّ المتعلم السويدي يجيد على الأقل لغة أجنبية أو لغتين. لكن السؤال الأهم يبقى يردد ذاته: ما الذي يجعل اللغة السويدية منتجاً لأدباء متألقين في المشهد الأدبي العالمي؟ عدا الأسماء الحديثة المعروفة لدى قرّاء الرواية البوليسية مثل هَنِّنغ مانكَلْ، وليزا ماركلوند، ويانْ غوليو، وآنيتا لَكْبَرغ، هناك أسماء عرفها الأدب العالمي منذ زمن بعيد، قبل رواج هذا النوع من الأدب. ففي القرن ما قبل الماضي، كان القارئ الألماني على معرفة تامّة بالأديب أَسايَس تغنير، تبعه لاحقا أوغسط سترينبّرغ وسلمى لاغرليف الحائزة على جائزة نوبل لعام 1909. إضافة إلى الكاتب أّيفيند يونسون الذي حاز على نفس الجائزة تقاسما مع الشاعر هاري مارتينسون صاحب أجمل الملاحم الحديثة آنيارا. سبقهما إلى الشهرة العالمية الكاتب ستيغ داغرمان والشاعرة أديث سودرغران. أما الشاعر توماس ترانسترومر فوصلت شهرته إلى أغلب عشاق الشعر في العالم حتى قبل منحه جائزة نوبل لعام 2011. لا بد من الإشارة إلى أسماء أخرى تستحق حفظها في الذاكرة منها شَلْ أسبمارك، وبرغيتا تروتسِغ، وآن يَدَرلوندْ، وبرونو ك. أويَرْ، وأيفا رونفلت الصادرة مجوعاتهما الشعرية باللغة العربية عن دار نون الإماراتية. في مجال أدبي آخر، يسطر فيه الأدباء السويديون حضوراً جليا، أعني أدب الأطفال واليافعين. في هذا الحيّز تمنح السويد البشريةَ هبة قصصية لا حدود لها. وحدها آستريد ليندغرين تُرجمت إلى 95 لغة وباعت كتبها لحد الآن أكثر من 140 مليون نسخة. أسماء أخرى سواها تتألق بجانبها أيضا في هذا المجال هي: أولف ستاركْ، وباربرو لِندغرين. لكن ما الذي يكمن حقاً وراء هذا النجاح؟ الباحث والبروفيسور السويدي يوهان سفيديَدال يحاول كشف الغطاء عن سرِّ هذا الواقع، ويوردُ أن عاملاً مهماً في رواج الكتاب السويدي هو أن السويد تتبنى سياسة دعم ترجمة الكتب السويدية ونشر المعرفة عنها. لكن هذا لا يكفي لا بد أن هناك قوة في النص كي يقوى على رحلة خارج بلده. يعزي الكِتابُ أيضاً رواج الأدب السويدي إلى زوال الحاجز ما بين الأدب الرفيع والأدب الشعبي. إنها سمة جميلة، لكنها لا تجيب حقاً عن سؤالي. في مقدمته لأنتولوجيا الشعر السويدي آنفة الذكر، يوصف الشاعر والكاتب سليم بركات قصائد الكتاب بأنها: «هدوءٌ ذو أجراسٍ هائلة تُقرعُ في مكان ضيِّق: في العظام...»، مضيفاً في مقطع لاحق «.. لا نزعةٌ، في الكثير من هذا الشعر، إلى تدوين يقينه الفاره، المُتكتِّم، ككسبٍ للشاسع. إنه يضيِّق حوّامات الماء على مركزٍ لا يتَّسع لأكثر من ذاتٍ في غرفة كونيَّة، من النافذة تلقي نطرتَها على المحدود، الصغير - أعني أعماقَ الشاعر..». في حبَّة رمل تكمن الكينونةُ كلُّها، من عُلِّيةِ طفلٍ تُطِلُ كل العيون. ربما ينطبق هذا الوصف على مجمل الأدب السويدي بما فيه أدب الأطفال واليافعين. فلم يعد للأسئلة الوجودية الكبرى مكان رحب، بفعل التفكير المنطقي والعقلاني الذي يقف خلفه تطور هائل في المجالات العلمية بكل أصنافها. هناك بحث دائم عن ما هو السبب وما هي النتيجة. لا كون في الكون ولا حقيقة في الحقيقة. كل شيء قابل للحوار والبحث. قبل أن أبدأ بتدوين هذا النص توجهت بسؤالي عن سر الأدب السويدي إلى الشاعر والناقد أَريك برغكفيست. عاد اليّ بعد يومين بجواب مقتضب: إن الكاتب السويدي عموماً والشاعر خصوصاً يفكر بالبيئة. يقصد أن هناك علاقة عضوية ما بين الكاتب والمكان. أغلبهم ينتمون إلى الرومانطيقية رغم أنهم لا يودّون الاعتراف بذلك. حياة المدينة، كأنها لم تؤثر كثيراً على علاقتهم الحميمية بالأشجار والماء والطيور. ما لم يتطرق إليه أحد سابقاً، حسب ما أراه، أن هناك رغبة حقيقية قديمة للمعرفة ومحاولة جادّة للارتقاء بالإنسان خارج شرائع الغاب. في هذا المضمار تستحق معلومة صغيرة لكن دلالتها شاسعة، هي أن الأكاديمية السويدية التي تعنى بشؤون الأدب واللغة تأسست عام 1786 على يد الملك غوستاف الثالث. نعم، مهما قَويت روحُ الأدب تبقى هي بحاجة إلى مؤسسات تمنحها جسداً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©