الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نبيل سليمان: سوريا تتطوّح بين جحيمين

نبيل سليمان: سوريا تتطوّح بين جحيمين
14 مايو 2014 20:58
اجتهد الروائي والناقد والناشر السوري نبيل سليمان منذ ربع قرن في احتراف الكتابة والنشر، بعد أن ترك وراءه المحفظة المدرسية والطبشور وكثيرا من وجع الدماغ المقيت الذي سطر سابقا عقدين من عمره في البحث عن ذاته. سلك الرجل دروبا وعرة، ولكنه استكان إلى ذاته في نهاية المطاف ليكتب ويكتب ويكتب رغم الخوف والعصا الغليظة التي لحقت به في أكثر من مرة. ساسي جبيل مع أن سليمان، وهو في العقد السابع من العمر يشعرك أنه شاب في الأربعين، إلا أن خبرة السنين وثراء المدونة الإبداعية الخاصة به رواية ونقدا تجعلك تقرّ له بثراء التجربة وغزارة الإنتاج، وهو المتوهج دائما والجريء أبدا، وصاحب العزيمة الفولاذية التي لا تني أمام كل الصعوبات. في هذا الحوار نتجول مع نبيل سليمان في عالمه الروائي والنقدي والفكري محاولين سبر أغواره بعيدا عن البراميل المتفجرة و(الدواعش) المكفّرة. المبدعون وسنوات الجمر ? تقف سورية اليوم بين مستنقعين، فهل استطاع المبدعون مواكبة سنوات الجمر هذه لتوثيقها؟ ? ? اسمح لي أن أضيف ما أحسبه ضرورياً إلى توصيف ما هي سورية فيه اليوم. إنها تتطوّح بين جحيمين وفي مستنقعين، في آن معاً. هل تتخيل أن يستنقع الجحيم؟ والأنكى أن ليس من بصيص ضوء في هذا النفق الذي يتقاذف المبدعين، كما يتقاذف المواطنين. هكذا غادر سورية عشرات من الكتاب والشعراء والفنانين، انضافوا إلى من سبق أن تلقفتهم المنافي عبر العقود الأربعة الماضية. وفي سورية بقيت قلة قليلة لا تزال مرابطة، على الرغم من كل ما يدفع إلى المغادرة، وبين هؤلاء أقف، وحسبي أن أعدد منهم حتى تاريخ هذا الحوار يوسف عبدلكي ومنذر مصري وماجد رشيد العويد وخالد خليفة... بين من غادروا اختياراً أو اضطراراً خلال سنوات الجمر الثلاث الماضية، من غرق في العمل السياسي، وبينهم من لم يسعه أمام هول ما يجري إلا البكم والخرس، ومنهم من يُهيِّء في صمت لمشروعات إبداعية، أو من شرع بمشروعات إبداعية. أما من بقي في الداخل، فهو الشاهد الذي يمكن أن يُقتل أو يُخطف أو يهجَّر أو يُعتقل أو ينعطب في أية لحظة من لحظات الجحيم والمستنقع، لا فرق بين مصادفة عمياء أو ضربة عامدة. وعلى الرغم من ذلك ثمة من يهيء في الداخل، في صمت، أو من بدأ، في صمت أيضاً، بمشروعات إبداعية. وقد أتاح لي بعضهم وبعضهن الاطلاع على مخطوطات ناجزة أو قيد الإنجاز. وفي كل ما ذكرت درجة ما من درجات التوثيق الذي تسألني عنه. لكنه التوثيق الذي يجلبه الإبداع، وليس بالطبع الوثيقة الحديثة (اليوتيوب، الجريدة...) ولا الوثيقة التقليدية، مما يُسأل عنه المؤرخ والباحث، وليس المبدع. ? ولكن أليس الوقت مبكراً على مثل هذه المشاريع التي تتحدث عنها؟ ? ? للوثيقة الحديثة أو التقليدية، للتوثيق، ما من وقت مبكر. ليس الخطر هنا خطر التبكير، بل هو خطر التأخر والتأخير. وهذه المهمة هي مهمة الجميع: الكاتب والصحفي والفنان والمؤرخ والمثقف والمدونون والمغردون.. ومما يتم تنفيذه من هذه المهمة، سوف يفيد المبدعين والمؤرخين والساسة. ولكن في الآن نفسه، يمكن لمبدع ما أن يبدع وهو يتطوّح مثل سورية في الجحيم، دون أن يقع في أفخاخ الراهن أو المرحلية أو العابر أو الشعاري. كما يمكن لمبدع ما، أن يقع في أي من هذه الأفخاخ بعد عشر سنين أو ثلاثين سنة من انتهاء هذه الحرب أو ذلك الجحيم، فالأمر رهن بقدرة المبدع، وإن يكن التحدي الذي يواجهه عندما يغامر في الكتابة عن الراهن، تحدياً أكبر وأكبر. الرواية والمواجهة ? يبدو أن عدداً من رواياتك قد واجه هذا التحدي، منذ رواية (جرماتي أو ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب) التي صدرت عام 1977 إلى رواية (سمر الليالي) التي صدرت عام 2000 وسواهما. كيف واجهت هذا التحدي؟ ألم تقع في الأفخاخ التي عددتها؟ ? ? عندما صدرت رواية (جرماتي) أو رواية (المسلة 1980) لم يكن من فارق يذكر بين الزمن الذي تتحدث عنه، وبين زمن الكتابة والنشر، وزمن القراءة آنئذٍ. الآن، وبعد حوالي خمس وثلاثين سنة، هل صارت هاتان الروايتان (تاريخيتين)؟ سأدع السؤال معلقاً، برسم الذين يشهرون الحَرْفية في وجه الإبداع عندما يتحدثون عن تخمّر التجربة وعن الفاصل الزمني بين الحدث وبين كتابته الروائية. وسأقفز إلى (مجاز العشق 1998)، وإلى (سمر الليالي). في أي من هذه الروايات الأربع، وكما سيلي في رواية (في غيابها 2003) أو في رواية (دَرَج الليل.. دَرَج النهار 2005) كان الهاجس هو أن تتلمس الرواية النبض العميق للتاريخ في الراهن، ومن ذلك: المؤسسة العسكرية في (المسلّة) أو المفصل الحاسم في نهاية قرن وبداية قرن، مما شغل رواية (سمر الليالي). كيف يمكن أن تجعل من حدث راهن مثل انهيار سد زيزون تكويناً روائياً كاشفاً للمؤسسات وللمجتمع وللطبيعة؟ على هذا السؤال حاولت رواية (دَرَج الليل.. دَرَج النهار) أن تشتغل، كما حاولت (جرماتي) أن تشتغل على رمزية احتلال الجولان والانسحاب من القنيطرة وتهديمها وإعمارها. ثمة ما يُسمى بالتاريخ المجهري الذي يتكون الآن في الراهن أو الحاضر، وبه يقوم التاريخ. وأحسب أن المغامرة في كتابة الأول أفدح من كتابة الأخير. ? تعرضت لأكثر من حادث اعتداء، وقلت إنك لم تُستهدف لأسباب شخصية، بل لأسباب تتصل، حسب تقديرك، بكتاباتك ونشاطك الثقافي... هل خمد صوتك في السنوات الأخيرة؟ أم إنك لا تزال تراوح مكانك؟ ? ? بعد صدور روايتي الأولى (ينداح الطوفان) عام 1970 تعرضت للاعتداء الأول (كم كف، وكم شتيمة)، وذلك بسبب ما تراءى للمعتدي، أو لمن حرض المعتدي، من مطابقة بين أكثر من شخصية روائية، وبين نظائر لها من الأحياء. والرواية إذن هي سبب الاعتداء، كما كانت (سمر الليالي) هي سبب الاعتداء الثاني في أوائل شباط فبراير 2001، جزاء على تعريتها لأجهزة وأساليب القمع التي تعرضت لها بخاصة ثلة من الشابات السياسيات. ولكن هذه المرة، كان للاعتداء سبب آخر، هو الندوة اليتيمة التي أقمتها في منزلي الصغير، واحتشد فيها ثمانية وأربعون مثقفاً وناشطاً، وذلك في سياق ما عرف بربيع دمشق، وهو ما جاء الاعتداء الثاني عليّ بسببه إعلاناً عن ابتداء السلطة وأد ذلك الربيع. أما الاعتداء الثالث على منزلي الريفي، حيث مكتبتي ومطرح كتابتي منذ ربع قرن، فقد جاء بعد مشاركتي في أول مؤتمر علني في سورية (26/6/2011) والشهير بمؤتمر سميراميس وكذلك بعد مساهمتي الكتابية المتواضعة في تلك الفترة المبكرة من الحراك. أرأيت لماذا أنفي الأسباب الشخصية للاعتداءات، على الرغم من محاولة المعتدي، وبخاصة في اعتداء 2001، ترويج الأسباب الشخصية، وهو الترويج الذي كان اعتداء معنوياً أمرّ من الاعتداء الجسدي، وبخاصة أنه طنطن لتشويه سمعتي بالعلاقات النسائية، وبالمال، وبالعمالة للأمريكان... والأهم هو زعمي أن صوتي لم يخمد، ولم يخفت، وأنني لا أراوح في المكان، فالمراوحة في المكان تعني لي التعفّن، بل والموت. لكن شكل التحرك يختلف، كما أن صوتي وصوت أمثالي من السلمييّن يطغى عليه سعار السلاح والتكفير. النفير من أجل حلم ? إلى متى ستظل رواياتك تذهب عميقاً في النفير من أجل الحلم “المستحيل”؟ ?? حتى تتصدع استحالة الحلم. ولا أقصد أن ذلك سيتحقق في حياتي. وبالتالي، آمل أن تظل رواياتي، بفضل وبفعل القراءة، تذهب عميقاً في النفير من بعد موتي. ? يرتكز عدد من رواياتك، بل وأهمها وأكبرها (مدارات الشرق) على توظيف التاريخي في العمل الإبداعي. هل أفاد التاريخُ الروايةَ أم كان عبئاً عليها؟ ? ? بفضل ما اختارت الكتابة؛ إذ لست أنا من اختار منذ البداية، أزعم أن الرواية أفادت من التاريخ، وتحررت مما يمكن أن يكون منه عبئاً عليها. فعلى ضوء قراءاتي للروايات ذات الصلة بالتاريخ، من نمط روايات جرجي زيدان مثلاً، إلى نمط روايات تولستوي ونجيب محفوظ (الثلاثية)، عرفت المسافة الضوئية الإبداعية بين الارتهان للوثيقة التاريخية أو للمرجع التاريخي، وبين الغوص فيه والخروج منه باللآلئ، وهو ما دأبتُ على تسميته بالحفر الروائي في التاريخ. لقد عدت في (مدارات الشرق) إلى مئات المراجع والمصادر، ورجعت إلى عدد أقل، لكنه ليس قليلاً، قبل أن أكتب (أطياف العرش) أو (حجر السرائر). وفي روايات أخرى، حضر التاريخ جزئياً، مما تطلب الغوص في قدر ما من المراجع والمصادر، كما في التعذيب في التراث، مما جاء في رواية (سمر الليالي)، أو كما في رواية (في غيابها) مما يتصل بالتاريخ العربي الأندلسي... وفي هذا الحضور الجزئي، كما في الحضور الأكبر من قبل في (مدارات الشرق) كان الحامي والمخلص والمرشد هو الخيال. كان الخيال يتمثل الوثيقة أو المرجع أو المصدر، ثم ينساها، ليكتب هو تاريخه، وتلك هي القاعدة الذهبية التي تعلمتها من الكتابة وبالكتابة. ? في البداية، في روايات (المسلّة) و(هزائم مبكرة) و(قيس يبكي)، هل كنت تكتب سيرتك الذاتية؟ ? ? لا. حتى في رواية (المسلة) التي حمل راويها وشخصيتها المحورية اسمي الأول (نبيل) لم أكن أكتب قط سيرتي الذاتية. ولكن من المؤكد أنني أفدت في هذه الروايات من أحداث عشتها، أو من مكابدات روحية وثقافية ونفسية عانيتها، إلا أن كل ذلك كان رهن الخيال وبرسمه، كما سبق أن كان التاريخ في روايات أخرى. ? حسناً، ومن بعد، في رواية (في غيابها) أو في رواية (مدائن الأرجوان) هل كتبت سيرتك الذاتية؟ ? ? في رواية (في غيابها) تجرأت لأول مرة على الإفادة من أسفاري. وكنت قد قمت برحلة من رحلات العمر إلى إسبانيا عام 1993، لكنني لم أكتب حرفاً عنها إلا بعد تسع سنوات. وعلى أية حال، أكرر الزعم بأن السيرية في رواياتي كانت رهن الخيال وبرسمه، ولذلك يمكن أن تتحدث عن سيرة روائية أو عن رواية سيرية في الروايات التي ذكرتها، ولكن ليس عن سيرة ذاتية. ثنائية النقد والإبداع ? هل أفسد عليك النقد إبداعك أم دعمه بروح منك؟ ? ? كثيراً ما واجهت الشطر الأول من هؤلاء السؤال، أحياناً بصيغة السؤال الذي يضمر الحكم بالإفساد، وأحياناً بصيغة الحكم العتيد بالإفساد، والذي يتعلل بأن الإبداع والنقد لا يجتمعان في كيان، كأنهما لم يجتمعا في جبرا ابراهيم جبرا أو أدونيس أو إدوار الخراط أو واسيني الأعرج وعشرات من أمثالهم من العرب وغير العرب: هل أذكّر بإيليوت أو بأمبرتو إيكو؟ مهما يكن، فالنقد أضاء لي الكثير من العتمات فيما كتبت وفيما قرأت، وهو بذلك كان لي سنداً في كتابة الرواية، يذكّرني دائماً بالتحكيك في تراثنا النقدي والإبداعي، ابتداءً بالشاعر الجاهلي الذي كان يحكك القصيدة، إذ يردد النظر النقدي فيها الحولَ بطوله، إلى أن يرضى عنها ويرسلها بين الناس. وفي تطور النظر النقدي للمبدع بإبداعه، أو بإبداع سواه، تأكدت الحاجة إلى الثقافة النقدية، وازدان النقد بما يمارس المبدع أيضاً من النقد. ? هل يؤمن نبيل سليمان بالنجومية في الأدب؟ ? ? للأديب وللمفكر وللناقد وأمثالهم من المشتغلين في الثقافة، الحق كل الحق بأن يكونوا نجوماً في المجتمع. أليسوا أجدر بذلك ممّن هم وهنّ في الدرك الأسفل من نجومية الرياضة أو الغناء أو التمثيل أو السياسة أو الرقص؟ للأسف، أغلب نجوم الأدب من العرب أفلستهم النجومية، أو هونت عليهم الإفلاس والاجترار. وبالتالي لا تحق هذه النجومية إلاّ لقلة قليلة جداً جداً ممن ينعمون بها في السنوات الأخيرة. وبمعزل عن هؤلاء، لابد للمرء من الحذر البالغ مما يحفّ بالنجومية من مزالق، تشغل المبدع عن إبداعه، وتستغرقه في التلفزيون والأمسيات والأسفار وما أدراك. الاغتراب والكتابة النسوية ? الرواية المغتربة وجدت في بلدان المهجر حظها، فهل على الكتاب العرب أن يهاجروا إلى الغرب ليتحقق لهم الإشعاع المطلوب؟ ? ? أخشى أن يكون الأمر كذلك. وبعض الكتاب قد أدركوا هذه اللعبة واندفعوا فيها، ومنهم من بدأ يجني ثمارها، بدعوى الفرار من جحيم الديكتاتوريات، وهكذا عرف بعضهم الدرب إلى الترجمة إلى لغات أخرى، ليس لأن إبداعهم يستحق. وبالطبع، تخفي هذه الغشاوات ما حقق كثير من روايات المهجر من أنجاز فني بديع ورفيع. ? هل توافقني الرأي في أن الجرأة المفتعلة وضجيج التجريب، أفسدا على الكتابات النسوية العربية؟ ? ? يبدو أن السؤال يتعلق بما كتبت المرأة من الرواية العربية، وليس بالكتابات النسوية العربية بعامة. وعلى أية حال، من المهم أن يبدأ السؤال وأن تبدأ محاولة الجواب من ها هنا، من هذه العمومية، حيث لا زال نصيب المرأة محدوداً في النقد الأدبي وفي الأبحاث (الفلسفة اللغة الدين...). أما الجرأة المفتعلة وغير المفتعلة، فهي أيضاً محدودة، وإلاّ، فكم من (فاطمة المرنيسي) يمكن أن نعد خلال ثلاثين سنة مضت؟ صحيح أن هذه العقود العجفاء قد أنعمت علينا في البحث بشيرين أبو النجا من مصر أو بيسرى مقدم من لبنان، ولكن كم من شيرين أو يسرى يمكن أن نعدّ؟ فلْنمضِ إلى الكتابات الإبداعية، لنرى أول ما نرى أنها تتركز في الرواية. ونرى في أول ما نرى الجرأة عنواناً رئيساً، بل وصارخاً، خلال العقدين الماضيين، أي في إنتاج الأصوات الجديدة والشابة. وهنا تطغى حقاً الجرأة المفتعلة، سواء بمناوشة المحرم الجنسي، أو بجعله بؤرة كبرى، وأحياناً بؤرة وحيدة. وهنا أيضاً يطغى افتعال وتواضع التجريب على النحو الذي نراه في الكثير من إنتاج الأصوات الجديدة والشابة من الذكور. فالتجريب ليس مجانية في البناء ولا استسهالاً لغوياً، مثلاً. والتجريب ليس (قتل) الأب أو الآباء أو الأمهات. وعلى ذكر الأمهات، بل والجدات، ولكي نتبيّن مدى ما أفسد افتعال الجرأة وصخب التجريب والحداثة، في التجارب الشبابية النسائية، دعنا نذكّر بالريادة الباهرة لكوليت خوري وليلى بعلبكي منذ أكثر من نصف قرن، ومن بعدهما دعنا نذكّر بغادة السمان، وبتلك الكاتبة المجهولة التي أومضت جرأتها في مطلع ستينيات القرن الماضي، ثم انطفأت، أعني: جورجيت حنوش. ففي سير وفي كتابات أولاء قدوة لمن تقتدي، ولمن يقتدي أيضاً. حضور المرأة ? يفتح لنا السؤال السابق على سؤال المرأة في كتاباتك الفكرية والنقدية، ابتداءً بكتاب (النسوية في الكتاب المدرسي السوري) الذي صدر عام 1978، وصولاً إلى كتابك الجديد (المساهمة الروائية للكاتبة العربية 2013) فماذا تقول؟ ?? في سبعينيات القرن الماضي كنت أعمل مدرساً في دور المعلمين والمعلمات، وكنت أحب مهنتي، لكنني كنت قد بدأت أكذّب أنني سأقضي عمري موظفاً أو مدرساً. وفي تلك الفترة تكرمت السلطة فأعادتني مع المفكر الكبير الراحل الياس مرقص إلى التعليم في الثانويات عندما بدأتْ بـ (تبعيث) التعليم، فأسرعت إلى الاستقالة. كان أقصى ما خرجت به من تلك السنين هو محاولة النظر في الأيديولوجيا (ت) التي تبثها السلطة عبر الكتاب المدرسي، وذلك من زاوية المرأة: في العمل، في المنزل، في السياسة... وصولاً إلى التربية الجنسية. ومن أجل ذلك قمت بتحليل ونقد الكتاب المدرسي السوري في المرحلتين الابتدائية والثانوية. وفي زعمي أن كتابي لم يكن رائداً نادراً عند صدوره، فقط، بل لا يزال كذلك حتى اليوم. وقد بدلت العنوان في الطبعة الثانية للكتاب، ليصبح (أيديولوجية السلطة: بحث في الكتاب المدرسي). وإذا كان هذا الكتاب هو مساهمتي الفكرية الوحيدة المتعلقة بالمرأة، فقد تعددت مساهماتي النقدية المتعلقة بما كتبت المرأة من الرواية، وآخر ذلك كان الكتاب الذي أوقفته بكامله على ما كتبت الكاتبة العربية من الرواية. وقد خصصت فيه فصلاً للكاتبة في دولة الإمارات العربية المتحدة. كما جعل هذا الكتاب وحده في التجارب الجديدة والأصوات الشابة النسائية. ولعل لي أن أغتنم الفرصة، لأشير إلى ما يشغلني من (تأنيث الرواية) كنبضة من نبضات القول بـ (تأنيث العالم)، كواحد من أحلامي الكبرى التي قصّرت عنها، حتى ما عاد في العمر ولا في الجهد متّسع، فهل من يتابع أو تتابع؟ ? والمرأة في رواياتك: من أين جاءت؟ كيف تكونت؟ وأية امرأة في أية رواية هي المقدّمة على سواها؟ ?? أظن أن للمرأة في كل ما كتبت حضوراً طاغياً وبالغ التنوع حد التناقض. لماذا لا أقول إنني لا أستطيع أن أحيا بدون المرأة؟ وبالتالي، أنّى لي أن أكتب رواية إن لم تكن المرأة في جوهرها؟ قبل الرواية التي تعنونت باسم شخصيتها المحورية (دلعون)، أسرتني من الجزأين الأول والثاني من (مدارات الشرق) شخصية نجوم الصوان، حتى بلغ الأمر أنْ كان على أحدنا أن يموت. وطالما رددتُ صادقاً ومخبولاً معاً أن نجوم الصوان لو عاشت لمتّ منذ انتهيت من كتابة الجزء الثاني (بنات نعش) عام 1990. وقبل دلعون كانت كوكبة الشابات اللواتي أسرهن السجن السياسي السوري في وداع القرن العشرين، وذلك في رواية (سمر الليالي). كانت هذه الرواية تحدياً إنسانياً وإبداعياً، جوهره هو السؤال عن كتابة ذكر عن نساء، وعن كتابة عجوز عن شابات. لا أستطيع أن أغادر هذا الجواب إن لم أذكر ونسة الكردية اليزيدية (الإيزيدية) التي علمتني وهي تتخلّق في رواية (دَرَج الليل.. دَرَج النهار) معنى حرية الاعتقاد. ولأن حديث المرأة في كتابتي، كما في حياتي، لا ينتهي، ولا أرجو له نهاية، فإنني أعود إلى ما سبق للتو من القول بتأنيث الرواية وتأنيث العالم، لعل الإبداع، كما العالم، يبرآن من سوءات الذكورة، وما أدراك ما سوءات الذكورة. نصيبي من الترجمة ? تُرجمتْ بعض أعمالك إلى لغات مختلفة، وَكُتبتْ دراسات كثيرة عن أدبك. هل أنصفك المترجمون والنقاد؟ ?? كما تعلم، ليست الترجمة إلى لغات أخرى ببريئة، وفيها من (اللعب) غير البريء قدر ما، وهذا ما لم أستطعه. وعموماً، وبلا شكوى ولا نقيق، أظن أن نصيب رواياتي من الترجمة لا يكاد يذكر حتى الآن. أما النصيب من النقد، فهو وفير، ولست أبحث فيه عن نَصَفَةٍ ولا عن مَظْلمة، لكني أزعم أن في رواياتي ما فات النقد، مما لعله يعني الكثير. وهنا أسجّل أن بعض الأطروحات الجامعية للماجستير وللدكتوراه التي انعقدت على رواية أو أكثر لي، قد أنجزت الكثير مما فات النقد. ? هل كان حنا مينه الشجرة التي حجبت الغابة في الرواية السورية؟ وما هي أهم الأقلام الروائية التي قدمت للقارئ العربي إبداعاً روائياً مختلفاً؟. ?? لا، لم يكن حنا مينه قط تلك الشجرة. وهذا ما يدفعني إلى القول إنه من حسن الحظ أن لم يكن في سورية نجيب محفوظ آخر، على الرغم من أن حنا مينه يرى نفسه نداً لنجيب محفوظ. ولأقلْ، ما دامت الرواية في سورية جزءاً من الرواية العربية، فقد كفانا نجيب محفوظ واحد، ربما ظل تلك الشجرة التي تتحدث عنها، لعقدين، ليس أكثر. أما الدليل على ما أشخّص في سورية فهو ذلك العقد السوري النظيم من الروائيين والروائيات، من هاني الراهب وفواز حداد وخيري الذهبي وحيدر حيدر (من السابقين) إلى روزا ياسين حسن وسمر يزبك وخالد خليفة وخليل صويلح و... من اللاحقين. ? هل يحتاج الكاتب إلى ناشر، أم العكس؟ ?? الحاجة متبادلة. صحيح أن الكاتب (هو أولٌ) والناشر ثانٍ ولكن بلا ناشر، لا يسمن ولا يغني أن يتحول الكاتب إلى الطباعة والتوزيع، وأظن أن نموذج نزار قباني ونموذج غادة السمان، كمبدعين وكناشرين، يؤكد ما أقول. تجارب رائدة ? ما هي برأيك أهم التجارب الروائية الرائدة في الوطن العربي؟ ?? من التجارب الرائدة الهامة التي لم تأخذ حقها، أبدأ برواية فرنسيس المراش (در الصَّدف في رغائب الصُّدف) التي صدرت عام 1862 والتي أكدت الجذر السردي التراثي الألف ليلي (من ألف ليلة وليلة) في فجر الرواية العربية، لكن اهتمام النقد ذهب إلى رواية المراش الأولى (غابة الحق 1865). ومن التجارب الرائدة الهامة أيضاً أذكر رواية ميخائيل الصقال (لطائف السمر...) التي صدرت عام 1907، والتي رمح التخييل فيها إلى أن بلغ ما بلغه الكومبيوتر والاتصالات اليوم، وما بدأت تجاربه مما سوف يكون في السنوات القليلة القادمة. لا تنسَ أن المراش والصقال من مدينة حلب التي يكاد الزلزال السوري أن يقضي عليها. بالانتقال إلى ما هو أقرب إلى يومنا، تأتي أولاً تجربة نجيب محفوظ التي تنطوي على تجارب عدة. كما تأتي تجربة الجيل الذي تلا نجيب محفوظ وتمرد عليه، ووقف على كتفيه، كما يليق بتطور الإبداع، وليس بقتل الأب. وتجربة هذا الجيل تنطوي أيضاً على تجارب، منها مثلاً تجربة صنع الله إبراهيم التي لم تحظ بورثة، على العكس من تجربتي حنا مينه وهاني الراهب المتناقضتين، واللتين تواصلتا وتعمقتا على يد الورثة. ? إلى أي مدى ساهمت الجوائز في تأكيد حضور الرواية كجنس أدبي مهيمن اليوم؟ ?? إلى مدى بعيد، منذ مطلع هذا القرن على الأقل، وبعدما تحققت لبعض الجوائز مصداقية ما، وبعدما تكاثرت الجوائز وتنافست، سواء ما تحقق لبعضها من مصداقية في زمن قصير، أو ما غرق منها في الاستعراضية. لقد غدت نسبة من القراء تتابع الروايات الفائزة بهذه الجائزة أو تلك، وكذلك نسبة من الناشرين والنقاد، وهذا إنجاز مهم، من المأمول أن يترسخ، وأن يتطور، على الرغم من الزبد الذي يطفو على السطح، وهو ليس بقليل، وخطره ليس بقليل، فالحذر الحذر منه أيها الكتاب وأيها القراء. ماذا بقي؟ ? في عودة إلى بداية هذا الحوار: سورية والمستنقع وسنوات الجمر، ماذا بقي منك: نصاً، وسيرةً، وسريرة؟ ?? نصاً، أظن أنه قد بقي الكثير الذي ينادي الكتابة، فتضيق به فسحة العمر الباقية، ويقصر عنه الجسد. وعلى الرغم من ذلك، ستنكتب جذوة، وربما أكثر، من جذوات النص الطامح، الغامض، القلق، المغامر. أما السريرة، فليس فيها سوى هذا النص، هو هي، وهي هو. وتبقى السيرة. لم أكن في يوم متشائماً، لكنني منذ تشلّعت سورية بالحرب، بدأ التشاؤم ينوشني، وخلال سنتين كاد أن يطبق عليّ. في الشهور الأولى من السنة الأولى بعد 15 آذار مارس 2011 كنت ذلك السوري الذي يخرج من عنق الرحم، بعدما كاد المخاض أن يقضي عليه. كنت، ككاتب وكمواطن، أردد قولة ناظم حكمت: أشهد أني قد عشت، فهذه سورية تخرج أخيراً من القمقم الذي طال حبسها فيه واستحكم، حتى كاد الخروج أن يكون مستحيلاً. وكانت السلمية بالنسبة لي ولكثيرين غيري هي عنوان الخروج السوري الأكبر. لكن الدماء أغرقت سورية كما ترى اليوم، والدمار يكاد يأتي عليها، وليت العالم يتفرج فقط. العالم يا عزيزي والغ في الدم السوري حتى قمة رأسه. وما من بصيص ضوء، فهل كادت سيرتي أن تنتهي؟ هل دنا الموت الذي تظل فيه حياً، ولكن بأسوأ مما هو فيه الميت؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©