الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«يوم طار شلّ السمر كلّه»

«يوم طار شلّ السمر كلّه»
14 مايو 2014 20:58
اشترك معه عبدالله حبيب في عشق المرأة نفسها، طلب سماء عيسى مقايضته بكل كتبه في مقابل كتاب «على الباب موجة»، رآه زاهر الغافري وهو يقفز فجأة من القارب قائلاً: «انظروا البحر يقترب!»، سهر معه محمد الحارثي في زنقة جبل العياشي بالمغرب، اندهش صالح العامري من امكانيات إنجليزيته المكسرة في فرنسا، رآه سعيد الهاشمي نخلة خنيزي في سلوفاكيا، سمع خالد البدور صوته وهو ينشد للأمهات الأغاني الصوفية، تبادلت فاطمة الشيدي معه الحديث بعد موته، تنابز معه خميس قلم بالألقاب، أعاد عبد يغوث معه اكتشاف صوت فيروز، إنه الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني، الذي صدر مؤخراً كتاب عماني عنه بعنوان «يوم طار شلّ السمر كله: تحية حب عُمانية لأحمد راشد ثاني».. هذا الكتاب صدر عن دار سؤال اللبنانية بدعم من مبادرة «القراءة نور وبصيرة» بتحرير وتقديم الكاتبين: عبدالله حبيب وسعيد سلطان الهاشمي، اللذين افتتحا مقدمتهما بهذه العبارة: «نقول هذا لشقيقنا الشقي أحمد راشد ثاني. نقول له هذا لأنه لم يقل لنا أي شيء على الرغم من أنه باح بكل شيء وهو يضحك ويبكي في كل شيء، ثم تركنا». سليمان المعمري أحمد راشد ثاني رحل عن عالمنا في 20 فبراير 2012، ونظمت الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء أمسية تأبينية له في أربعينيته نُشِرتْ بعض أوراقها في هذا الكتاب. وهذه الأمسية بالذات، ثم الكتاب بعد ذلك، يعكسان علاقة الصداقة الوطيدة للشاعر الراحل بالعمانيين، والتي انعكست على صفحات هذا الكتاب التسعين محبة له وحزناً على فراقه وتذكراً لمناقبه. حوى الكتاب عشر شهادات عن الكاتب الراحل، نصفها أُلقي في الأمسية التأبينية المشار إليها أعلاه، والتي أشرف عبدالله حبيب نفسه على تنظيمها في الثالث من أبريل عام 2012. وعلاوة على شهادتي محرِّرَيْ الكتاب تضمن الكتاب أيضاً شهادات للشعراء: سماء عيسى وزاهر الغافري وصالح العامري ومحمد الحارثي وفاطمة الشيدي وعبد يغوث وخميس قلم، والشاعر الإماراتي خالد البدور الذي شارك في أمسية جمعية الكتاب بكلمة مسجلة بالفيديو. وقد وضع المحرران أسماء المشاركين مرتبة حسب الحروف الأبجدية لأسماء هؤلاء، دون أن يفوتهما التنويه في الصفحة الخامسة بأن العنوان اللافت «يوم طار شلّ السمر كله» مستلّ من بيتين للشاعر الإماراتي راشد الخضر الذي كان أحمد راشد ثاني أحد أشد المعجبين بتجربته إلى حد تحقيقه وتوثيق كتاب عنه وكتابة مسرحية عن حياته، والبيتان أوردهما عبدالله حبيب في شهادته: «طير شامي حل في سَمْرَه يوم طار شلّ السَّمر كلّه عق لي وسط الحشا جمره واحترق ذاك البحر كلِّه!». الانتحار بـ «قوطي بيبسي» في شهادته المعنونة «موجة أحمد راشد ثاني الأخيرة» يتذكر الشاعر سماء عيسى لقاءه الأول بالشاعر الراحل عام 1979 في النادي السياحي بأبوظبي، حيث أحيا وهو بعد طالب في الثانوية أمسية شعرية مشتركة مع الشاعر حبيب الصايغ والشاعرة ظبية خميس.. في هذا اللقاء سرد سماء لأحمد حكاية زيارة قام بها لخورفكان في عام 1964 ومشاهدته وهو صبي يافع لأطفال يلعبون على الشاطئ قائلا: «يا أحمد ربما تكون أنت أحد أولئك الأطفال الذين جلستُ على الشاطئ أراقبهم وحيداً». ولكن أحمد نفى ذلك، ففي تلك السنة كان عمره سنتين على أبعد تقدير، وسيعيش بعدها نحو نصف قرن حافلا بالعطاء الثقافي، بدءاً بتأسيسه هو ومجموعة من أصدقائه أول مكتبة في خورفكان ثم كلباء، ثم انتقاله للعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم في المجمع الثقافي في أبوظبي ثم دار الكتب الوطنية، ومروراً بنحو عشرين كتاباً تركها خلفه ومضى، هي حسب ترتيب صدورها: «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام 1981، و«دم الشمعة» شعر 1991، و«يا الماكل خنيزي ويا الخارف ذهب»، شعر عامي 1996، و«قفص مدغشقر» نص مسرحي 1996، و«ابن ظاهر» بحث توثيقي 1999، و«حافة الغرف» شعر 1999، و«العب وقول الستر» نص مسرحي 2002، و«جلوس الصباح على البحر» شعر 2003، و«إلا جمل حمدان في الظل بارك» إعداد 2005، و«يأتي الليل ويأخذني»، شعر، 2007، و«رحلة إلى الصير»، بحث، 2007، و«أرض الفجر الحائرة»، مقالات، 2009، و«على الباب موجة»، نصوص، 2009.. وهذا الكتاب الأخير اعتبره سماء عيسى في شهادته أفضل كتب السيرة الذاتية في الأدب الخليجي المعاصر وبلغ إعجابه به حد مقايضة أحمد راشد ثاني بكل ما كتب في مقابل أن يعطيه هذا الكتاب. كانت شهادة سماء تتذكر محطات في حياة الأديب الراحل بهدوء المتأمل، بعكس شهادة عبدالله حبيب الملأى بالشجن والحزن والعويل، لدرجة ذكرتني فوراً بشهادة أخرى قيلت في سياق آخر عن عبدالله حبيب هذه المرة، عندما قارن الشاعر صالح العامري بين صديقيه سماء وعبدالله في رثائهما للراحلين: «إنّ سماء عيسى وهو يرثي الجثة (الميّت، الأثر الزائل، الجسد المنحطم) يكون على مبعدة ميلين أو ثلاثة أميال، سواء أكان في ذلك متقدماً تلك الجثّة أو متأخراً عنها. أمّا عبدالله حبيب فإنّه ينتهك الجثة ويغزوها بنشيجه، وأمشاجه، ولعابه، ومخاطه، وانتحابه الكثيف. إنّه يحاصر وجه الميّت، يكاد يبتلعه، ينفجر على جبهته، شفتيه، خدّه، لونه، تفصيل ذكراه، لكي يستيقظ الميّت أو لكي يموتا سويا!». والحق أن هذا هو بالضبط ما نجده في شهادة عبدالله حبيب المؤثرة منذ أول عبارة فيها: «يا خلق الله، الشّيمة لحقوني وثيبوني وغيثوني نْكان فيكم شيمة ومعروف، فقد مات أحمد»، إذ يسرد حكايات ومواقف لا تملك وأنت تقرأها إلا أن تفر الدمعة من عينك، منها مثلا هذا المقطع على لسان أحمد راشد ثاني: «شوف عبدالله: أنا ما بموت بالخياس اللي انته بتموت به – سرطان الأرق السخيف مالك هذا، أو حادث سيارة، أو انتحار. ياخي انته تسوق بسرعه وايد وموترك كحيان مثلك أصلاً. بس ما عليه، بعد يمكن زين!. بعدك زيد السرعة أكثر خلنا نتخلص منك بسرعه أحسن!. وبعدين شو يعني انتحار ياخي؟. الانتحار هذا فكرة غبية أصلاً!. أنا يوم بغيت أنتحر مره وحده بس في حياتي قلت بعق عمري من فوق «قوطي بيبسي»!. بس ياخي يوم وقفت عَ القوطي خفت من الموت، ومن يومها ودّرت سالفة الانتحار الخمام هذي!. كاع كاع كاع كاع كاع!. أنا بموت أحسن من ما بتموت انته. أنا بموت فِ يوم أكون فيه مبسوط وفرحان، يعني بكون أتمشى عَ رصيف مثلاً، وفجأه أطيح، ويخلِّص كل شي مرّه وحده»، يعلق حبيب على كلام صديقه الراحل بالقول: «يا من لم تكن ميتافيزيقياً جداً تقريباً هذا ما حدث يا أحمد، وتقريباً هذا ما لم يحدث، فحين أسقطك قلبك إلى العدم كنت تمشي في غرفة المكتبة في البيت حاملاً بين يديك كتابين. كانت صفحة واحدة من روحك لتكفي كي تبدأ أو أبدأ سرد الموت يا أحمد».. يسرد عبدالله حبيب بلغة شفافة حكاية أكثر من ثلاثين عاماً من الصداقة مع أحمد راشد ثاني تخللتها مواقف عاصفة ومُهَدِّدة لهذه الصداقة، كليلة الاعتراف الكبير في الطريق بين دبي وأبوظبي بأنهما – أي أحمد وعبدالله – اشتركا في حب المرأة نفسها، «عندها هدَّد كل منا الآخر بالقتل الساحق الماحق الأكيد المؤكد فوراً. ولأنه لم يكن لدى النجوم التي كانت تصغي إلى الحديث سكاكين أو مسدسات، فقد تخلينا عن مشروع القتل، واستعضنا عنه بالعناق والانتحاب طويلاً كما ينتحب الأطفال». غير أن مواقف أخرى كانت من الطرافة بحيث لا تملك وأنت تقرأها سوى الابتسام، منها حكاية حدثت في القاهرة مع صديقهما الثالث علي المغني الذي طلب منهما ذات فجر في حالة غياب عن الواقع تلحيفه بماء بارد!، لكن المطلب الثاني كان أكثر عسراً: «أبا الطيّارة تدش من الباب وتجيني لين هنيه وتطير بي!». قلنا لعلي إن هناك بعض الصعوبة في إقناع «الطيّارة» بالدخول عبر باب الشقة، فردَّ ببراءة شاهقة: «إنزين عادي!. إذا ما بتدخل من الباب، خلّوها تدش من الدريشه ياخي!. شو المشكلة يعني؟!». «الغشتالت» العماني «ها قد رحل عنّا أحمد، بنشيده العُمانيّ الذي لا تخطئه أذن أو عين»، يكتب الشاعر صالح العامري في شهادته، وهو الأمر الذي يؤكده عبدالله حبيب: «سيكون من النسيان والبهتان في أي حديث عن أحمد عدم التعرض إلى البعد العماني العميق والشاسع في رأسه وصدره وكامل وجوده». هذه النقطة ركزت عليها شهادات العمانيين في هذا الكتاب، عبدالله حبيب نفسه يخبرنا أن بعض أصدقاء ثاني المقربين في الإمارات عرفوا بنبأ موته بمكالمات هاتفية من عُمان. يمتاز أحمد بما يسميه عبدالله حبيب «الغشتالت العماني» أو «رؤية العالم من خلال عينين عمانيتين»، وهو – والكلام ما زال لعبدالله حبيب - «غشتالت» لا يتوافر عليه كثير من الكتَّاب العمانيين أنفسهم. هو موسوعة حقيقية في التاريخ العماني. ويخبرنا سماء عيسى أن الشاعر الراحل حدثه عن مخطوط عماني في التاريخ لمؤرخ مجهول يدعى النخلي، ووعده بزيارة عمان وإحضار الكتاب معه لبحثه وبحث من هو مؤلفه حقاً؟، ويضيف سماء: «كان هذا العشق العماني متجذراً منذ صغره في مقتبل عمره ككاتب جاء في أواخر السبعينيات والتقى المؤرخ الراحل سالم بن حمود السالمي. نشر أحمد تفاصيل ذلك اللقاء في جريدة الوحدة الإماراتية. كان دائم التحدث عن أستاذه السالمي، مثلما يحلو له الحديث عنه، كان معجباً به كسارد، وكان مشروعه المؤجل هو اقتطاف سرديات السالمي المطولة من كتبه الفقهية والتاريخية وجمعها في كتاب مستقل». لقد كانت عُمان عِشق أحمد راشد المفضوح، كما يقول سعيد سلطان الهاشمي، «قضيته التي اختار المضي بها في حقل من الألغام والنكران والقطيعة. أخلص لها في حِله القصير، وترحاله الدائم، آمن بها روحاً وحضارةً، تنفسها بحراً وبادية، كتبها أغنيات وأهازيج». وحده حكاية شعبية تتوالى شهادات الكتّاب العُمانيين التي يكشف كل منها عن جانب من جوانب الصورة الكلية لأحمد راشد ثاني صاحب الشخصية الثرية والضحكة الرنانة والمقالب المشاكسة، إنه وحده حكاية شعبية على حد تعبير الشاعر عبد يغوث، أما صالح العامري فيتذكر آخر لقاء جمعهما في لوديف بفرنسا حيث استعرض الشاعر الراحل قدراته في «التفاهم العميق» بإنجليزية مكسرة مع شاعرة تتكلم الإنجليزية بطلاقة مستخدماً «بعض مفردات إنجليزية، كالإمبريالية والكولونيالية والحداثة وبعض الأسماء المعروفة في عالم الفن والثقافة والسياسة»، ويتذكر محمد الحارثي رحلة جمعتهما إلى المغرب ولقاءهما هناك أواخر العام 1986، وإقامتهما «ثلاثة أشهر صاخبة كان فيها أحمد راشد خلاقاً ومُنتجاً للشعر بوفرة»، حيث أصدر هناك مجموعته الشعرية «ها يداي فارغتان» التي أعاد نشرها لاحقاً ضمن مجموعته: «حافة الغرف»، 1998. ويحكي عبد يغوث حكاية لقائه الأخير به وبأمه في أحد مستشفيات أبوظبي حيث تقمص عبد يغوث دور مترجم لأحمد عن حالة أمه الصحية. أما الشاعر زاهر الغافري فيخاطب صديقه الراحل بالقول: «كنتَ ماهراً في اللعب مع الحياة والمعرفة، كانت الروح ترقص مع العذاب والعين تتغذى من الأسى، تركتَ جسدك على حاله، معلقاً ومترنحاً على الدوام وأنت تنظر في فم الهاوية، في قعر البئر، جاء الليل وأخذك، رميتَ حصاة الصبر فجرحتك في القلب، أنت القانط واليائس والمُحّب، العنيد بالشعر والتبغ»، ويصفه خالد البدور بأنه «مريضاً كان بالكتابة وبالشعر وبالبحث وراء المعرفة. لقد تحول عشقه للكلمة والتعلم إلى هوس مرضي بدأ ينتشر كالمرض الوبائي في جسده. أتذكر أنه كانت تمر عليه أيام طويلة لا يكترث فيها بضرورة أن يأكل أو ينام أو يهتم ولو قليلا بحاجات الجسد من الراحة والتغذية. لقد كان أحمد مريضاً بعشق المعرفة والبحث المضني والدائم عن الأفكار والكتب والقصائد الجديدة»، في حين تعوض فاطمة الشيدي عن عدم لقائها به في حياته بتخيل لقاء افتراضي معه بعد الموت، «كان أحمد في ذلك اللقاء الافتراضي يضحك، وفي عينيه حزن بليغ، وكنت أكثر الصمت لأسمعه كثيراً. كان هو بسيطاً كبحر عُمان، وعميقاً كذاكرة تاريخية خالدة، وحادّاً كموقف فكري وأخلاقي لا يقبل النقاش والجدل». ورغم أن الشاعر خميس قلم يرى أن علاقته بالراحل لا تخوله للحديث من منطلق الصداقة بمفهومها العميق، إلا أنه يؤكد أنه «رغم أنّ لقاءاتي به كانت معدودةً ومحدودة، لكنّ أحمد ليس من جنس الرجال الذين تلقاهم ثمّ تنساهم، بل يترك لقاؤه في نفسك أثراً يستعصي على رياح الزمن محوه». علاقة خاصة إذن للشاعر أحمد راشد ثاني بالعمانيين يوثقها هذا الكتاب، ولا عجب والحال هذه أن يتساءل عبدالله حبيب: «من مثل أحمد، من؟. ليس هناك من أحمد راشد ثانٍ. هناك أحمد راشد ثاني وحده فقط». تحية حب عُمانية لأحمد راشد ثاني «يوم طار شلّ السمر كلّه» اشترك معه عبدالله حبيب في عشق المرأة نفسها، طلب سماء عيسى مقايضته بكل كتبه في مقابل كتاب «على الباب موجة»، رآه زاهر الغافري وهو يقفز فجأة من القارب قائلاً: «انظروا البحر يقترب!»، سهر معه محمد الحارثي في زنقة جبل العياشي بالمغرب، اندهش صالح العامري من امكانيات إنجليزيته المكسرة في فرنسا، رآه سعيد الهاشمي نخلة خنيزي في سلوفاكيا، سمع خالد البدور صوته وهو ينشد للأمهات الأغاني الصوفية، تبادلت فاطمة الشيدي معه الحديث بعد موته، تنابز معه خميس قلم بالألقاب، أعاد عبد يغوث معه اكتشاف صوت فيروز، إنه الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني، الذي صدر مؤخراً كتاب عماني عنه بعنوان «يوم طار شلّ السمر كله: تحية حب عُمانية لأحمد راشد ثاني».. هذا الكتاب صدر عن دار سؤال اللبنانية بدعم من مبادرة «القراءة نور وبصيرة» بتحرير وتقديم الكاتبين: عبدالله حبيب وسعيد سلطان الهاشمي، اللذين افتتحا مقدمتهما بهذه العبارة: «نقول هذا لشقيقنا الشقي أحمد راشد ثاني. نقول له هذا لأنه لم يقل لنا أي شيء على الرغم من أنه باح بكل شيء وهو يضحك ويبكي في كل شيء، ثم تركنا». سليمان المعمري أحمد راشد ثاني رحل عن عالمنا في 20 فبراير 2012، ونظمت الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء أمسية تأبينية له في أربعينيته نُشِرتْ بعض أوراقها في هذا الكتاب. وهذه الأمسية بالذات، ثم الكتاب بعد ذلك، يعكسان علاقة الصداقة الوطيدة للشاعر الراحل بالعمانيين، والتي انعكست على صفحات هذا الكتاب التسعين محبة له وحزناً على فراقه وتذكراً لمناقبه. حوى الكتاب عشر شهادات عن الكاتب الراحل، نصفها أُلقي في الأمسية التأبينية المشار إليها أعلاه، والتي أشرف عبدالله حبيب نفسه على تنظيمها في الثالث من أبريل عام 2012. وعلاوة على شهادتي محرِّرَيْ الكتاب تضمن الكتاب أيضاً شهادات للشعراء: سماء عيسى وزاهر الغافري وصالح العامري ومحمد الحارثي وفاطمة الشيدي وعبد يغوث وخميس قلم، والشاعر الإماراتي خالد البدور الذي شارك في أمسية جمعية الكتاب بكلمة مسجلة بالفيديو. وقد وضع المحرران أسماء المشاركين مرتبة حسب الحروف الأبجدية لأسماء هؤلاء، دون أن يفوتهما التنويه في الصفحة الخامسة بأن العنوان اللافت «يوم طار شلّ السمر كله» مستلّ من بيتين للشاعر الإماراتي راشد الخضر الذي كان أحمد راشد ثاني أحد أشد المعجبين بتجربته إلى حد تحقيقه وتوثيق كتاب عنه وكتابة مسرحية عن حياته، والبيتان أوردهما عبدالله حبيب في شهادته: «طير شامي حل في سَمْرَه يوم طار شلّ السَّمر كلّه عق لي وسط الحشا جمره واحترق ذاك البحر كلِّه!». الانتحار بـ «قوطي بيبسي» في شهادته المعنونة «موجة أحمد راشد ثاني الأخيرة» يتذكر الشاعر سماء عيسى لقاءه الأول بالشاعر الراحل عام 1979 في النادي السياحي بأبوظبي، حيث أحيا وهو بعد طالب في الثانوية أمسية شعرية مشتركة مع الشاعر حبيب الصايغ والشاعرة ظبية خميس.. في هذا اللقاء سرد سماء لأحمد حكاية زيارة قام بها لخورفكان في عام 1964 ومشاهدته وهو صبي يافع لأطفال يلعبون على الشاطئ قائلا: «يا أحمد ربما تكون أنت أحد أولئك الأطفال الذين جلستُ على الشاطئ أراقبهم وحيداً». ولكن أحمد نفى ذلك، ففي تلك السنة كان عمره سنتين على أبعد تقدير، وسيعيش بعدها نحو نصف قرن حافلا بالعطاء الثقافي، بدءاً بتأسيسه هو ومجموعة من أصدقائه أول مكتبة في خورفكان ثم كلباء، ثم انتقاله للعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم في المجمع الثقافي في أبوظبي ثم دار الكتب الوطنية، ومروراً بنحو عشرين كتاباً تركها خلفه ومضى، هي حسب ترتيب صدورها: «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام 1981، و«دم الشمعة» شعر 1991، و«يا الماكل خنيزي ويا الخارف ذهب»، شعر عامي 1996، و«قفص مدغشقر» نص مسرحي 1996، و«ابن ظاهر» بحث توثيقي 1999، و«حافة الغرف» شعر 1999، و«العب وقول الستر» نص مسرحي 2002، و«جلوس الصباح على البحر» شعر 2003، و«إلا جمل حمدان في الظل بارك» إعداد 2005، و«يأتي الليل ويأخذني»، شعر، 2007، و«رحلة إلى الصير»، بحث، 2007، و«أرض الفجر الحائرة»، مقالات، 2009، و«على الباب موجة»، نصوص، 2009.. وهذا الكتاب الأخير اعتبره سماء عيسى في شهادته أفضل كتب السيرة الذاتية في الأدب الخليجي المعاصر وبلغ إعجابه به حد مقايضة أحمد راشد ثاني بكل ما كتب في مقابل أن يعطيه هذا الكتاب. كانت شهادة سماء تتذكر محطات في حياة الأديب الراحل بهدوء المتأمل، بعكس شهادة عبدالله حبيب الملأى بالشجن والحزن والعويل، لدرجة ذكرتني فوراً بشهادة أخرى قيلت في سياق آخر عن عبدالله حبيب هذه المرة، عندما قارن الشاعر صالح العامري بين صديقيه سماء وعبدالله في رثائهما للراحلين: «إنّ سماء عيسى وهو يرثي الجثة (الميّت، الأثر الزائل، الجسد المنحطم) يكون على مبعدة ميلين أو ثلاثة أميال، سواء أكان في ذلك متقدماً تلك الجثّة أو متأخراً عنها. أمّا عبدالله حبيب فإنّه ينتهك الجثة ويغزوها بنشيجه، وأمشاجه، ولعابه، ومخاطه، وانتحابه الكثيف. إنّه يحاصر وجه الميّت، يكاد يبتلعه، ينفجر على جبهته، شفتيه، خدّه، لونه، تفصيل ذكراه، لكي يستيقظ الميّت أو لكي يموتا سويا!». والحق أن هذا هو بالضبط ما نجده في شهادة عبدالله حبيب المؤثرة منذ أول عبارة فيها: «يا خلق الله، الشّيمة لحقوني وثيبوني وغيثوني نْكان فيكم شيمة ومعروف، فقد مات أحمد»، إذ يسرد حكايات ومواقف لا تملك وأنت تقرأها إلا أن تفر الدمعة من عينك، منها مثلا هذا المقطع على لسان أحمد راشد ثاني: «شوف عبدالله: أنا ما بموت بالخياس اللي انته بتموت به – سرطان الأرق السخيف مالك هذا، أو حادث سيارة، أو انتحار. ياخي انته تسوق بسرعه وايد وموترك كحيان مثلك أصلاً. بس ما عليه، بعد يمكن زين!. بعدك زيد السرعة أكثر خلنا نتخلص منك بسرعه أحسن!. وبعدين شو يعني انتحار ياخي؟. الانتحار هذا فكرة غبية أصلاً!. أنا يوم بغيت أنتحر مره وحده بس في حياتي قلت بعق عمري من فوق «قوطي بيبسي»!. بس ياخي يوم وقفت عَ القوطي خفت من الموت، ومن يومها ودّرت سالفة الانتحار الخمام هذي!. كاع كاع كاع كاع كاع!. أنا بموت أحسن من ما بتموت انته. أنا بموت فِ يوم أكون فيه مبسوط وفرحان، يعني بكون أتمشى عَ رصيف مثلاً، وفجأه أطيح، ويخلِّص كل شي مرّه وحده»، يعلق حبيب على كلام صديقه الراحل بالقول: «يا من لم تكن ميتافيزيقياً جداً تقريباً هذا ما حدث يا أحمد، وتقريباً هذا ما لم يحدث، فحين أسقطك قلبك إلى العدم كنت تمشي في غرفة المكتبة في البيت حاملاً بين يديك كتابين. كانت صفحة واحدة من روحك لتكفي كي تبدأ أو أبدأ سرد الموت يا أحمد».. يسرد عبدالله حبيب بلغة شفافة حكاية أكثر من ثلاثين عاماً من الصداقة مع أحمد راشد ثاني تخللتها مواقف عاصفة ومُهَدِّدة لهذه الصداقة، كليلة الاعتراف الكبير في الطريق بين دبي وأبوظبي بأنهما – أي أحمد وعبدالله – اشتركا في حب المرأة نفسها، «عندها هدَّد كل منا الآخر بالقتل الساحق الماحق الأكيد المؤكد فوراً. ولأنه لم يكن لدى النجوم التي كانت تصغي إلى الحديث سكاكين أو مسدسات، فقد تخلينا عن مشروع القتل، واستعضنا عنه بالعناق والانتحاب طويلاً كما ينتحب الأطفال». غير أن مواقف أخرى كانت من الطرافة بحيث لا تملك وأنت تقرأها سوى الابتسام، منها حكاية حدثت في القاهرة مع صديقهما الثالث علي المغني الذي طلب منهما ذات فجر في حالة غياب عن الواقع تلحيفه بماء بارد!، لكن المطلب الثاني كان أكثر عسراً: «أبا الطيّارة تدش من الباب وتجيني لين هنيه وتطير بي!». قلنا لعلي إن هناك بعض الصعوبة في إقناع «الطيّارة» بالدخول عبر باب الشقة، فردَّ ببراءة شاهقة: «إنزين عادي!. إذا ما بتدخل من الباب، خلّوها تدش من الدريشه ياخي!. شو المشكلة يعني؟!». «الغشتالت» العماني «ها قد رحل عنّا أحمد، بنشيده العُمانيّ الذي لا تخطئه أذن أو عين»، يكتب الشاعر صالح العامري في شهادته، وهو الأمر الذي يؤكده عبدالله حبيب: «سيكون من النسيان والبهتان في أي حديث عن أحمد عدم التعرض إلى البعد العماني العميق والشاسع في رأسه وصدره وكامل وجوده». هذه النقطة ركزت عليها شهادات العمانيين في هذا الكتاب، عبدالله حبيب نفسه يخبرنا أن بعض أصدقاء ثاني المقربين في الإمارات عرفوا بنبأ موته بمكالمات هاتفية من عُمان. يمتاز أحمد بما يسميه عبدالله حبيب «الغشتالت العماني» أو «رؤية العالم من خلال عينين عمانيتين»، وهو – والكلام ما زال لعبدالله حبيب - «غشتالت» لا يتوافر عليه كثير من الكتَّاب العمانيين أنفسهم. هو موسوعة حقيقية في التاريخ العماني. ويخبرنا سماء عيسى أن الشاعر الراحل حدثه عن مخطوط عماني في التاريخ لمؤرخ مجهول يدعى النخلي، ووعده بزيارة عمان وإحضار الكتاب معه لبحثه وبحث من هو مؤلفه حقاً؟، ويضيف سماء: «كان هذا العشق العماني متجذراً منذ صغره في مقتبل عمره ككاتب جاء في أواخر السبعينيات والتقى المؤرخ الراحل سالم بن حمود السالمي. نشر أحمد تفاصيل ذلك اللقاء في جريدة الوحدة الإماراتية. كان دائم التحدث عن أستاذه السالمي، مثلما يحلو له الحديث عنه، كان معجباً به كسارد، وكان مشروعه المؤجل هو اقتطاف سرديات السالمي المطولة من كتبه الفقهية والتاريخية وجمعها في كتاب مستقل». لقد كانت عُمان عِشق أحمد راشد المفضوح، كما يقول سعيد سلطان الهاشمي، «قضيته التي اختار المضي بها في حقل من الألغام والنكران والقطيعة. أخلص لها في حِله القصير، وترحاله الدائم، آمن بها روحاً وحضارةً، تنفسها بحراً وبادية، كتبها أغنيات وأهازيج». وحده حكاية شعبية تتوالى شهادات الكتّاب العُمانيين التي يكشف كل منها عن جانب من جوانب الصورة الكلية لأحمد راشد ثاني صاحب الشخصية الثرية والضحكة الرنانة والمقالب المشاكسة، إنه وحده حكاية شعبية على حد تعبير الشاعر عبد يغوث، أما صالح العامري فيتذكر آخر لقاء جمعهما في لوديف بفرنسا حيث استعرض الشاعر الراحل قدراته في «التفاهم العميق» بإنجليزية مكسرة مع شاعرة تتكلم الإنجليزية بطلاقة مستخدماً «بعض مفردات إنجليزية، كالإمبريالية والكولونيالية والحداثة وبعض الأسماء المعروفة في عالم الفن والثقافة والسياسة»، ويتذكر محمد الحارثي رحلة جمعتهما إلى المغرب ولقاءهما هناك أواخر العام 1986، وإقامتهما «ثلاثة أشهر صاخبة كان فيها أحمد راشد خلاقاً ومُنتجاً للشعر بوفرة»، حيث أصدر هناك مجموعته الشعرية «ها يداي فارغتان» التي أعاد نشرها لاحقاً ضمن مجموعته: «حافة الغرف»، 1998. ويحكي عبد يغوث حكاية لقائه الأخير به وبأمه في أحد مستشفيات أبوظبي حيث تقمص عبد يغوث دور مترجم لأحمد عن حالة أمه الصحية. أما الشاعر زاهر الغافري فيخاطب صديقه الراحل بالقول: «كنتَ ماهراً في اللعب مع الحياة والمعرفة، كانت الروح ترقص مع العذاب والعين تتغذى من الأسى، تركتَ جسدك على حاله، معلقاً ومترنحاً على الدوام وأنت تنظر في فم الهاوية، في قعر البئر، جاء الليل وأخذك، رميتَ حصاة الصبر فجرحتك في القلب، أنت القانط واليائس والمُحّب، العنيد بالشعر والتبغ»، ويصفه خالد البدور بأنه «مريضاً كان بالكتابة وبالشعر وبالبحث وراء المعرفة. لقد تحول عشقه للكلمة والتعلم إلى هوس مرضي بدأ ينتشر كالمرض الوبائي في جسده. أتذكر أنه كانت تمر عليه أيام طويلة لا يكترث فيها بضرورة أن يأكل أو ينام أو يهتم ولو قليلا بحاجات الجسد من الراحة والتغذية. لقد كان أحمد مريضاً بعشق المعرفة والبحث المضني والدائم عن الأفكار والكتب والقصائد الجديدة»، في حين تعوض فاطمة الشيدي عن عدم لقائها به في حياته بتخيل لقاء افتراضي معه بعد الموت، «كان أحمد في ذلك اللقاء الافتراضي يضحك، وفي عينيه حزن بليغ، وكنت أكثر الصمت لأسمعه كثيراً. كان هو بسيطاً كبحر عُمان، وعميقاً كذاكرة تاريخية خالدة، وحادّاً كموقف فكري وأخلاقي لا يقبل النقاش والجدل». ورغم أن الشاعر خميس قلم يرى أن علاقته بالراحل لا تخوله للحديث من منطلق الصداقة بمفهومها العميق، إلا أنه يؤكد أنه «رغم أنّ لقاءاتي به كانت معدودةً ومحدودة، لكنّ أحمد ليس من جنس الرجال الذين تلقاهم ثمّ تنساهم، بل يترك لقاؤه في نفسك أثراً يستعصي على رياح الزمن محوه». علاقة خاصة إذن للشاعر أحمد راشد ثاني بالعمانيين يوثقها هذا الكتاب، ولا عجب والحال هذه أن يتساءل عبدالله حبيب: «من مثل أحمد، من؟. ليس هناك من أحمد راشد ثانٍ. هناك أحمد راشد ثاني وحده فقط». تضمن الكتاب عشر شهادات هي: «موجة أحمد راشد ثاني الأخيرة» لـ «سماء عيسى»، «أنت ماء مجفف، محاولة نخلة أو موجة على قبر أحمد راشد ثاني» لـ «عبد الله حبيب»، «لقاء افتراضي مع أحمد راشد ثاني» لـ «فاطمة الشيدي»، «عن أحمد راشد ثاني، مشاهد من الذاكرة» لـ «خميس قلم» ، «المريض بالكتابة والقلب» لـ «خالد البدور»، «أحمد راشد ثاني: مجازي الغياب، خنيزي الحضور» لـ «سعيد سلطان الهاشمي»، «كما لو كنت نائماً وأنت تحلم بالرمل والحصاة وعشبة البحر»، لـ «زاهر الغافري»، «أمام معلقات أحمد راشد ثاني» لـ «محمد الحارثي»، وهي الشهادة التي سبق له نشرها في كتابه «ورشة الماضي»، «الصارخ في بئر المعنى، عن أحمد راشد ثاني في أسبوعه الأرضي الأول» لـ «صالح العامري»، «وداع الأم والابن والروح المرحة» لـ «عبد يغوث». وقد صُدِّر الكتاب الذي استُلّ عنوانه من بيت للشاعر الإماراتي الراحل راشد الخضر بمقدمة لمحرِّرَيْه مما جاء فيها: «نقول له هذا لأننا ندرك أنه يستعيد طفولته وحيداً هناك، تحديداً وبالضبط حين هَجَرَ أمّه، وأمّه تركته، وهو لم يندم على الغُبن، ولا أمّه استغفرت عن الليل. نقول له هذا لأن النشيد يأتي متأخراً دوماً، ولأن الحناجر لا تكف عن الرعاف إنْ في الأغاني، أو في سكْرات الحانات، أو في سَكَرات الاحتضار، أو في أشعار راشد الخضر، أو في الحكايات الشعبية القديمة، أو في قيام البرتغاليين بقطع أنوف أسلافه. نقول له هذا لأننا نستطيع أن نحسده ولا نتمكن من أن نحسده على ديدانٍ صارت الآن تغذيه بالحليب، والماء المالح، والذكريات، والأمنيات، وكبريت الأرصفة التي تسكعنا عليها في يوم ما. نقول له هذا لأننا لا نعرف الفرق بين الحب والفقد، ولا نُمَيِّزُ بين الشمس واللحد، ولا بين القَدَرِ والمصير، وقد ضاعت حيواتنا بين الغضب والاعتذار. نقول له هذا لأننا أيتام، وقد اعتذرنا عن أَمِّ مآدب اللئام، فذهبنا إلى الأدب (أو قِلَّته في أحسن الأحوال)، ولسنا بحاجة إلى أي ترحيب أو مجاملات في أي مكان على الإطلاق. نقول له هذا لأنه لم يكن يشبهنا كثيراً، مع أنه كان ينام في حجرات أمهاتنا، ويتدثر بما كان لديهن ولدينا من خوف وعطف، فآثر الأوراق، والماء، وانسحب حتى من خبز الرخال والسَّمن. نقول له هذا لأنه كان مستعصياً حتى على قلبه، وكم كانت قلوبنا تخاف على قلبه، فقد كانت مكائده على فؤاده أكبر من قدرتنا على النبض والحنان. نقول له هذا لأنه أحمد راشد ثاني، وليس في أرواحنا من ثانٍ بعده». تضمن الكتاب عشر شهادات هي: «موجة أحمد راشد ثاني الأخيرة» لـ «سماء عيسى»، «أنت ماء مجفف، محاولة نخلة أو موجة على قبر أحمد راشد ثاني» لـ «عبد الله حبيب»، «لقاء افتراضي مع أحمد راشد ثاني» لـ «فاطمة الشيدي»، «عن أحمد راشد ثاني، مشاهد من الذاكرة» لـ «خميس قلم» ، «المريض بالكتابة والقلب» لـ «خالد البدور»، «أحمد راشد ثاني: مجازي الغياب، خنيزي الحضور» لـ «سعيد سلطان الهاشمي»، «كما لو كنت نائماً وأنت تحلم بالرمل والحصاة وعشبة البحر»، لـ «زاهر الغافري»، «أمام معلقات أحمد راشد ثاني» لـ «محمد الحارثي»، وهي الشهادة التي سبق له نشرها في كتابه «ورشة الماضي»، «الصارخ في بئر المعنى، عن أحمد راشد ثاني في أسبوعه الأرضي الأول» لـ «صالح العامري»، «وداع الأم والابن والروح المرحة» لـ «عبد يغوث». وقد صُدِّر الكتاب الذي استُلّ عنوانه من بيت للشاعر الإماراتي الراحل راشد الخضر بمقدمة لمحرِّرَيْه مما جاء فيها: «نقول له هذا لأننا ندرك أنه يستعيد طفولته وحيداً هناك، تحديداً وبالضبط حين هَجَرَ أمّه، وأمّه تركته، وهو لم يندم على الغُبن، ولا أمّه استغفرت عن الليل. نقول له هذا لأن النشيد يأتي متأخراً دوماً، ولأن الحناجر لا تكف عن الرعاف إنْ في الأغاني، أو في سكْرات الحانات، أو في سَكَرات الاحتضار، أو في أشعار راشد الخضر، أو في الحكايات الشعبية القديمة، أو في قيام البرتغاليين بقطع أنوف أسلافه. نقول له هذا لأننا نستطيع أن نحسده ولا نتمكن من أن نحسده على ديدانٍ صارت الآن تغذيه بالحليب، والماء المالح، والذكريات، والأمنيات، وكبريت الأرصفة التي تسكعنا عليها في يوم ما. نقول له هذا لأننا لا نعرف الفرق بين الحب والفقد، ولا نُمَيِّزُ بين الشمس واللحد، ولا بين القَدَرِ والمصير، وقد ضاعت حيواتنا بين الغضب والاعتذار. نقول له هذا لأننا أيتام، وقد اعتذرنا عن أَمِّ مآدب اللئام، فذهبنا إلى الأدب (أو قِلَّته في أحسن الأحوال)، ولسنا بحاجة إلى أي ترحيب أو مجاملات في أي مكان على الإطلاق. نقول له هذا لأنه لم يكن يشبهنا كثيراً، مع أنه كان ينام في حجرات أمهاتنا، ويتدثر بما كان لديهن ولدينا من خوف وعطف، فآثر الأوراق، والماء، وانسحب حتى من خبز الرخال والسَّمن. نقول له هذا لأنه كان مستعصياً حتى على قلبه، وكم كانت قلوبنا تخاف على قلبه، فقد كانت مكائده على فؤاده أكبر من قدرتنا على النبض والحنان. نقول له هذا لأنه أحمد راشد ثاني، وليس في أرواحنا من ثانٍ بعده». تحية حب عُمانية لأحمد راشد ثاني «يوم طار شلّ السمر كلّه» اشترك معه عبدالله حبيب في عشق المرأة نفسها، طلب سماء عيسى مقايضته بكل كتبه في مقابل كتاب «على الباب موجة»، رآه زاهر الغافري وهو يقفز فجأة من القارب قائلاً: «انظروا البحر يقترب!»، سهر معه محمد الحارثي في زنقة جبل العياشي بالمغرب، اندهش صالح العامري من امكانيات إنجليزيته المكسرة في فرنسا، رآه سعيد الهاشمي نخلة خنيزي في سلوفاكيا، سمع خالد البدور صوته وهو ينشد للأمهات الأغاني الصوفية، تبادلت فاطمة الشيدي معه الحديث بعد موته، تنابز معه خميس قلم بالألقاب، أعاد عبد يغوث معه اكتشاف صوت فيروز، إنه الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني، الذي صدر مؤخراً كتاب عماني عنه بعنوان «يوم طار شلّ السمر كله: تحية حب عُمانية لأحمد راشد ثاني».. هذا الكتاب صدر عن دار سؤال اللبنانية بدعم من مبادرة «القراءة نور وبصيرة» بتحرير وتقديم الكاتبين: عبدالله حبيب وسعيد سلطان الهاشمي، اللذين افتتحا مقدمتهما بهذه العبارة: «نقول هذا لشقيقنا الشقي أحمد راشد ثاني. نقول له هذا لأنه لم يقل لنا أي شيء على الرغم من أنه باح بكل شيء وهو يضحك ويبكي في كل شيء، ثم تركنا». سليمان المعمري أحمد راشد ثاني رحل عن عالمنا في 20 فبراير 2012، ونظمت الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء أمسية تأبينية له في أربعينيته نُشِرتْ بعض أوراقها في هذا الكتاب. وهذه الأمسية بالذات، ثم الكتاب بعد ذلك، يعكسان علاقة الصداقة الوطيدة للشاعر الراحل بالعمانيين، والتي انعكست على صفحات هذا الكتاب التسعين محبة له وحزناً على فراقه وتذكراً لمناقبه. حوى الكتاب عشر شهادات عن الكاتب الراحل، نصفها أُلقي في الأمسية التأبينية المشار إليها أعلاه، والتي أشرف عبدالله حبيب نفسه على تنظيمها في الثالث من أبريل عام 2012. وعلاوة على شهادتي محرِّرَيْ الكتاب تضمن الكتاب أيضاً شهادات للشعراء: سماء عيسى وزاهر الغافري وصالح العامري ومحمد الحارثي وفاطمة الشيدي وعبد يغوث وخميس قلم، والشاعر الإماراتي خالد البدور الذي شارك في أمسية جمعية الكتاب بكلمة مسجلة بالفيديو. وقد وضع المحرران أسماء المشاركين مرتبة حسب الحروف الأبجدية لأسماء هؤلاء، دون أن يفوتهما التنويه في الصفحة الخامسة بأن العنوان اللافت «يوم طار شلّ السمر كله» مستلّ من بيتين للشاعر الإماراتي راشد الخضر الذي كان أحمد راشد ثاني أحد أشد المعجبين بتجربته إلى حد تحقيقه وتوثيق كتاب عنه وكتابة مسرحية عن حياته، والبيتان أوردهما عبدالله حبيب في شهادته: «طير شامي حل في سَمْرَه يوم طار شلّ السَّمر كلّه عق لي وسط الحشا جمره واحترق ذاك البحر كلِّه!». الانتحار بـ «قوطي بيبسي» في شهادته المعنونة «موجة أحمد راشد ثاني الأخيرة» يتذكر الشاعر سماء عيسى لقاءه الأول بالشاعر الراحل عام 1979 في النادي السياحي بأبوظبي، حيث أحيا وهو بعد طالب في الثانوية أمسية شعرية مشتركة مع الشاعر حبيب الصايغ والشاعرة ظبية خميس.. في هذا اللقاء سرد سماء لأحمد حكاية زيارة قام بها لخورفكان في عام 1964 ومشاهدته وهو صبي يافع لأطفال يلعبون على الشاطئ قائلا: «يا أحمد ربما تكون أنت أحد أولئك الأطفال الذين جلستُ على الشاطئ أراقبهم وحيداً». ولكن أحمد نفى ذلك، ففي تلك السنة كان عمره سنتين على أبعد تقدير، وسيعيش بعدها نحو نصف قرن حافلا بالعطاء الثقافي، بدءاً بتأسيسه هو ومجموعة من أصدقائه أول مكتبة في خورفكان ثم كلباء، ثم انتقاله للعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم في المجمع الثقافي في أبوظبي ثم دار الكتب الوطنية، ومروراً بنحو عشرين كتاباً تركها خلفه ومضى، هي حسب ترتيب صدورها: «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام 1981، و«دم الشمعة» شعر 1991، و«يا الماكل خنيزي ويا الخارف ذهب»، شعر عامي 1996، و«قفص مدغشقر» نص مسرحي 1996، و«ابن ظاهر» بحث توثيقي 1999، و«حافة الغرف» شعر 1999، و«العب وقول الستر» نص مسرحي 2002، و«جلوس الصباح على البحر» شعر 2003، و«إلا جمل حمدان في الظل بارك» إعداد 2005، و«يأتي الليل ويأخذني»، شعر، 2007، و«رحلة إلى الصير»، بحث، 2007، و«أرض الفجر الحائرة»، مقالات، 2009، و«على الباب موجة»، نصوص، 2009.. وهذا الكتاب الأخير اعتبره سماء عيسى في شهادته أفضل كتب السيرة الذاتية في الأدب الخليجي المعاصر وبلغ إعجابه به حد مقايضة أحمد راشد ثاني بكل ما كتب في مقابل أن يعطيه هذا الكتاب. كانت شهادة سماء تتذكر محطات في حياة الأديب الراحل بهدوء المتأمل، بعكس شهادة عبدالله حبيب الملأى بالشجن والحزن والعويل، لدرجة ذكرتني فوراً بشهادة أخرى قيلت في سياق آخر عن عبدالله حبيب هذه المرة، عندما قارن الشاعر صالح العامري بين صديقيه سماء وعبدالله في رثائهما للراحلين: «إنّ سماء عيسى وهو يرثي الجثة (الميّت، الأثر الزائل، الجسد المنحطم) يكون على مبعدة ميلين أو ثلاثة أميال، سواء أكان في ذلك متقدماً تلك الجثّة أو متأخراً عنها. أمّا عبدالله حبيب فإنّه ينتهك الجثة ويغزوها بنشيجه، وأمشاجه، ولعابه، ومخاطه، وانتحابه الكثيف. إنّه يحاصر وجه الميّت، يكاد يبتلعه، ينفجر على جبهته، شفتيه، خدّه، لونه، تفصيل ذكراه، لكي يستيقظ الميّت أو لكي يموتا سويا!». والحق أن هذا هو بالضبط ما نجده في شهادة عبدالله حبيب المؤثرة منذ أول عبارة فيها: «يا خلق الله، الشّيمة لحقوني وثيبوني وغيثوني نْكان فيكم شيمة ومعروف، فقد مات أحمد»، إذ يسرد حكايات ومواقف لا تملك وأنت تقرأها إلا أن تفر الدمعة من عينك، منها مثلا هذا المقطع على لسان أحمد راشد ثاني: «شوف عبدالله: أنا ما بموت بالخياس اللي انته بتموت به – سرطان الأرق السخيف مالك هذا، أو حادث سيارة، أو انتحار. ياخي انته تسوق بسرعه وايد وموترك كحيان مثلك أصلاً. بس ما عليه، بعد يمكن زين!. بعدك زيد السرعة أكثر خلنا نتخلص منك بسرعه أحسن!. وبعدين شو يعني انتحار ياخي؟. الانتحار هذا فكرة غبية أصلاً!. أنا يوم بغيت أنتحر مره وحده بس في حياتي قلت بعق عمري من فوق «قوطي بيبسي»!. بس ياخي يوم وقفت عَ القوطي خفت من الموت، ومن يومها ودّرت سالفة الانتحار الخمام هذي!. كاع كاع كاع كاع كاع!. أنا بموت أحسن من ما بتموت انته. أنا بموت فِ يوم أكون فيه مبسوط وفرحان، يعني بكون أتمشى عَ رصيف مثلاً، وفجأه أطيح، ويخلِّص كل شي مرّه وحده»، يعلق حبيب على كلام صديقه الراحل بالقول: «يا من لم تكن ميتافيزيقياً جداً تقريباً هذا ما حدث يا أحمد، وتقريباً هذا ما لم يحدث، فحين أسقطك قلبك إلى العدم كنت تمشي في غرفة المكتبة في البيت حاملاً بين يديك كتابين. كانت صفحة واحدة من روحك لتكفي كي تبدأ أو أبدأ سرد الموت يا أحمد».. يسرد عبدالله حبيب بلغة شفافة حكاية أكثر من ثلاثين عاماً من الصداقة مع أحمد راشد ثاني تخللتها مواقف عاصفة ومُهَدِّدة لهذه الصداقة، كليلة الاعتراف الكبير في الطريق بين دبي وأبوظبي بأنهما – أي أحمد وعبدالله – اشتركا في حب المرأة نفسها، «عندها هدَّد كل منا الآخر بالقتل الساحق الماحق الأكيد المؤكد فوراً. ولأنه لم يكن لدى النجوم التي كانت تصغي إلى الحديث سكاكين أو مسدسات، فقد تخلينا عن مشروع القتل، واستعضنا عنه بالعناق والانتحاب طويلاً كما ينتحب الأطفال». غير أن مواقف أخرى كانت من الطرافة بحيث لا تملك وأنت تقرأها سوى الابتسام، منها حكاية حدثت في القاهرة مع صديقهما الثالث علي المغني الذي طلب منهما ذات فجر في حالة غياب عن الواقع تلحيفه بماء بارد!، لكن المطلب الثاني كان أكثر عسراً: «أبا الطيّارة تدش من الباب وتجيني لين هنيه وتطير بي!». قلنا لعلي إن هناك بعض الصعوبة في إقناع «الطيّارة» بالدخول عبر باب الشقة، فردَّ ببراءة شاهقة: «إنزين عادي!. إذا ما بتدخل من الباب، خلّوها تدش من الدريشه ياخي!. شو المشكلة يعني؟!». «الغشتالت» العماني «ها قد رحل عنّا أحمد، بنشيده العُمانيّ الذي لا تخطئه أذن أو عين»، يكتب الشاعر صالح العامري في شهادته، وهو الأمر الذي يؤكده عبدالله حبيب: «سيكون من النسيان والبهتان في أي حديث عن أحمد عدم التعرض إلى البعد العماني العميق والشاسع في رأسه وصدره وكامل وجوده». هذه النقطة ركزت عليها شهادات العمانيين في هذا الكتاب، عبدالله حبيب نفسه يخبرنا أن بعض أصدقاء ثاني المقربين في الإمارات عرفوا بنبأ موته بمكالمات هاتفية من عُمان. يمتاز أحمد بما يسميه عبدالله حبيب «الغشتالت العماني» أو «رؤية العالم من خلال عينين عمانيتين»، وهو – والكلام ما زال لعبدالله حبيب - «غشتالت» لا يتوافر عليه كثير من الكتَّاب العمانيين أنفسهم. هو موسوعة حقيقية في التاريخ العماني. ويخبرنا سماء عيسى أن الشاعر الراحل حدثه عن مخطوط عماني في التاريخ لمؤرخ مجهول يدعى النخلي، ووعده بزيارة عمان وإحضار الكتاب معه لبحثه وبحث من هو مؤلفه حقاً؟، ويضيف سماء: «كان هذا العشق العماني متجذراً منذ صغره في مقتبل عمره ككاتب جاء في أواخر السبعينيات والتقى المؤرخ الراحل سالم بن حمود السالمي. نشر أحمد تفاصيل ذلك اللقاء في جريدة الوحدة الإماراتية. كان دائم التحدث عن أستاذه السالمي، مثلما يحلو له الحديث عنه، كان معجباً به كسارد، وكان مشروعه المؤجل هو اقتطاف سرديات السالمي المطولة من كتبه الفقهية والتاريخية وجمعها في كتاب مستقل». لقد كانت عُمان عِشق أحمد راشد المفضوح، كما يقول سعيد سلطان الهاشمي، «قضيته التي اختار المضي بها في حقل من الألغام والنكران والقطيعة. أخلص لها في حِله القصير، وترحاله الدائم، آمن بها روحاً وحضارةً، تنفسها بحراً وبادية، كتبها أغنيات وأهازيج». وحده حكاية شعبية تتوالى شهادات الكتّاب العُمانيين التي يكشف كل منها عن جانب من جوانب الصورة الكلية لأحمد راشد ثاني صاحب الشخصية الثرية والضحكة الرنانة والمقالب المشاكسة، إنه وحده حكاية شعبية على حد تعبير الشاعر عبد يغوث، أما صالح العامري فيتذكر آخر لقاء جمعهما في لوديف بفرنسا حيث استعرض الشاعر الراحل قدراته في «التفاهم العميق» بإنجليزية مكسرة مع شاعرة تتكلم الإنجليزية بطلاقة مستخدماً «بعض مفردات إنجليزية، كالإمبريالية والكولونيالية والحداثة وبعض الأسماء المعروفة في عالم الفن والثقافة والسياسة»، ويتذكر محمد الحارثي رحلة جمعتهما إلى المغرب ولقاءهما هناك أواخر العام 1986، وإقامتهما «ثلاثة أشهر صاخبة كان فيها أحمد راشد خلاقاً ومُنتجاً للشعر بوفرة»، حيث أصدر هناك مجموعته الشعرية «ها يداي فارغتان» التي أعاد نشرها لاحقاً ضمن مجموعته: «حافة الغرف»، 1998. ويحكي عبد يغوث حكاية لقائه الأخير به وبأمه في أحد مستشفيات أبوظبي حيث تقمص عبد يغوث دور مترجم لأحمد عن حالة أمه الصحية. أما الشاعر زاهر الغافري فيخاطب صديقه الراحل بالقول: «كنتَ ماهراً في اللعب مع الحياة والمعرفة، كانت الروح ترقص مع العذاب والعين تتغذى من الأسى، تركتَ جسدك على حاله، معلقاً ومترنحاً على الدوام وأنت تنظر في فم الهاوية، في قعر البئر، جاء الليل وأخذك، رميتَ حصاة الصبر فجرحتك في القلب، أنت القانط واليائس والمُحّب، العنيد بالشعر والتبغ»، ويصفه خالد البدور بأنه «مريضاً كان بالكتابة وبالشعر وبالبحث وراء المعرفة. لقد تحول عشقه للكلمة والتعلم إلى هوس مرضي بدأ ينتشر كالمرض الوبائي في جسده. أتذكر أنه كانت تمر عليه أيام طويلة لا يكترث فيها بضرورة أن يأكل أو ينام أو يهتم ولو قليلا بحاجات الجسد من الراحة والتغذية. لقد كان أحمد مريضاً بعشق المعرفة والبحث المضني والدائم عن الأفكار والكتب والقصائد الجديدة»، في حين تعوض فاطمة الشيدي عن عدم لقائها به في حياته بتخيل لقاء افتراضي معه بعد الموت، «كان أحمد في ذلك اللقاء الافتراضي يضحك، وفي عينيه حزن بليغ، وكنت أكثر الصمت لأسمعه كثيراً. كان هو بسيطاً كبحر عُمان، وعميقاً كذاكرة تاريخية خالدة، وحادّاً كموقف فكري وأخلاقي لا يقبل النقاش والجدل». ورغم أن الشاعر خميس قلم يرى أن علاقته بالراحل لا تخوله للحديث من منطلق الصداقة بمفهومها العميق، إلا أنه يؤكد أنه «رغم أنّ لقاءاتي به كانت معدودةً ومحدودة، لكنّ أحمد ليس من جنس الرجال الذين تلقاهم ثمّ تنساهم، بل يترك لقاؤه في نفسك أثراً يستعصي على رياح الزمن محوه». علاقة خاصة إذن للشاعر أحمد راشد ثاني بالعمانيين يوثقها هذا الكتاب، ولا عجب والحال هذه أن يتساءل عبدالله حبيب: «من مثل أحمد، من؟. ليس هناك من أحمد راشد ثانٍ. هناك أحمد راشد ثاني وحده فقط». تضمن الكتاب عشر شهادات هي: «موجة أحمد راشد ثاني الأخيرة» لـ «سماء عيسى»، «أنت ماء مجفف، محاولة نخلة أو موجة على قبر أحمد راشد ثاني» لـ «عبد الله حبيب»، «لقاء افتراضي مع أحمد راشد ثاني» لـ «فاطمة الشيدي»، «عن أحمد راشد ثاني، مشاهد من الذاكرة» لـ «خميس قلم» ، «المريض بالكتابة والقلب» لـ «خالد البدور»، «أحمد راشد ثاني: مجازي الغياب، خنيزي الحضور» لـ «سعيد سلطان الهاشمي»، «كما لو كنت نائماً وأنت تحلم بالرمل والحصاة وعشبة البحر»، لـ «زاهر الغافري»، «أمام معلقات أحمد راشد ثاني» لـ «محمد الحارثي»، وهي الشهادة التي سبق له نشرها في كتابه «ورشة الماضي»، «الصارخ في بئر المعنى، عن أحمد راشد ثاني في أسبوعه الأرضي الأول» لـ «صالح العامري»، «وداع الأم والابن والروح المرحة» لـ «عبد يغوث». وقد صُدِّر الكتاب الذي استُلّ عنوانه من بيت للشاعر الإماراتي الراحل راشد الخضر بمقدمة لمحرِّرَيْه مما جاء فيها: «نقول له هذا لأننا ندرك أنه يستعيد طفولته وحيداً هناك، تحديداً وبالضبط حين هَجَرَ أمّه، وأمّه تركته، وهو لم يندم على الغُبن، ولا أمّه استغفرت عن الليل. نقول له هذا لأن النشيد يأتي متأخراً دوماً، ولأن الحناجر لا تكف عن الرعاف إنْ في الأغاني، أو في سكْرات الحانات، أو في سَكَرات الاحتضار، أو في أشعار راشد الخضر، أو في الحكايات الشعبية القديمة، أو في قيام البرتغاليين بقطع أنوف أسلافه. نقول له هذا لأننا نستطيع أن نحسده ولا نتمكن من أن نحسده على ديدانٍ صارت الآن تغذيه بالحليب، والماء المالح، والذكريات، والأمنيات، وكبريت الأرصفة التي تسكعنا عليها في يوم ما. نقول له هذا لأننا لا نعرف الفرق بين الحب والفقد، ولا نُمَيِّزُ بين الشمس واللحد، ولا بين القَدَرِ والمصير، وقد ضاعت حيواتنا بين الغضب والاعتذار. نقول له هذا لأننا أيتام، وقد اعتذرنا عن أَمِّ مآدب اللئام، فذهبنا إلى الأدب (أو قِلَّته في أحسن الأحوال)، ولسنا بحاجة إلى أي ترحيب أو مجاملات في أي مكان على الإطلاق. نقول له هذا لأنه لم يكن يشبهنا كثيراً، مع أنه كان ينام في حجرات أمهاتنا، ويتدثر بما كان لديهن ولدينا من خوف وعطف، فآثر الأوراق، والما
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©