السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحقل البري روح عذبة في عالمٍ قاس ومجدب

الحقل البري روح عذبة في عالمٍ قاس ومجدب
17 أكتوبر 2008 00:26
''الحقل البري'' حكاية ''ميتيا'' أو ديمتري موروزوف الذي مثّل دوره الممثل الروسي ''أوليج دولين'' وهو طبيب شاب له من القناعات ما تجعله يعيش في قرية صغيرة منعزلة في سهول كازاخستان وحيداً في الأرض الموحشة، القاتلة، المجدبة، في بيت طيني صغير محاط بسياج مثلوم من كل جوانبه، بينما تحيط به الجبال الشاهقة لتحيل الوحشة تلك سجناً حقيقياً ليس فيه من الروح الإنسانية شيء· إزاء ذلك العالم البدائي تقبع في ذات ''ميتيا'' روح عذبة وبساطة في التعامل مع أحداث تطرأ على علاقات اناس من الرعاة يعيشون حوله في البراري الجدباء· لا يتوانى ''ميتيا'' من أن يهرع إلى الجرحى ويداوي المصابين، بمختلف صنوف الإصابات، فما بين رجل سكير وصلت به حالة السكر إلى حد الغيبوبة حتى مصابين باطلاق نيران في معركة دموية قاتلة· كل ذلك يجري على أرض ليس فيها من طعم الحياة أي لذة، الظلام الذي يجثم على صدر الوادي حيث بيت ''ميتيا'' وعيادته أيضاً يزيد الوحشة ألماً في الليل، ومولدة الكهرباء لا تعطيه إلا الضوء القليل وما بينه وبين عالم الحضارة جهاز لاسلكي قديم كي يبعث الرسائل من خلاله إلى جهة ما، أما تنقلاته فيؤديها على دراجة بخارية قديمة كأنها من بقايا زمن ماضٍ، ولا يتذمر ''ميتيا'' من كل ذلك بل حتى من قلة الماء والدواء والأكل لديه· حياة بدائية كل ما فيها القناعة التي يتمتع بها ''ميتيا'' للبقاء في هذه الأصقاع البعيدة، النائية، الخالية من التمدن في أقل مستلزماته· كان هناك عند قمة الجبل المواجه لبيت ميتيا الطيني شبح أو ربما شخص يظهر له بين الفينة والأخرى، فلا هو يهبط إليه ولا يدع ''ميتيا'' يصعد ليواجهه ويعرف كنه مراقبته له· تلك هي موضوعة الفيلم الأساسية التي جعلت المشاهد منجذباً إلى ما سوف تؤول إليه علاقة ''ميتيا'' في قاع الوادي بالشبح أو لنقل الشخص الذي يتحرك فوق الجبل، تذكرنا هذه المشاهد بفيلم ''الرجل الذئب'' أو ''الراقص مع الذئاب'' الذي مثله الممثل الأميركي ''كيفن كوستنر'' بطل ''بوست مان'' و''بودي جارد'' في أروع ترقب وتعبير عن روح الكشف والتواصل· في ''الحقل البري'' يؤتي بـ''الكسندر'' فلاح سكير شرب من الخمر لعدة أيام فبات في غيبوبة نهائية ولم يصح بحقن الطبيب ''ميتيا'' الذي مدده على صخرة طويلة أمام الكوخ الطيني إلا حين استعمل الشخص الذي يرافق الكسندر ''المكواة'' التي تمهر بها الخيول، وربما أراد المخرج أن يوحي ببدائية العالم المعزول منذ لحظات الفيلم الأولى والتي ستتراكم فيما بعد· في عمق البراري حيث العالم لم يزل فطرياً إلا من مشهد ليلي واحد فقط كان فيه ''ميتيا'' يشاهد التلفزيون بالأبيض والأسود حيث يعرض فيلم حربي، ربما أراد المخرج يشفيلي أن يرمز لصراعات عالم دموي من القتال والطائرات والدمار في الكون استطاع بها أن يغذي روح العزلة لدى ''ميتيا''· الموسيقى هادئة هدوء البراري والعذابات اليومية لا تبدو على وجه ''ميتيا'' وصندوق الرسائل المعلق على جذع شجرة مقطوعة عند طريق ترابي متعرج بين المرتفعات يبدو خالياً من أي رسالة، وعندما يصحو الرجل السكير من غيبوبته بفعل الوشم على بطنه ينتهي صراعه مع الغيبوبة، انه مشهد فنتازي في فيلم واقعي، أما الكلب الأسود ''بلاكي'' الذي يتبعه دوماً فيبدو عنصراً تكميلياً للمشهد الذي يتكون من ''ميتيا والكلب والكوخ والشبح في أعلى الجبل'' بينما لم يتعمق الصراع بين ميتيا والشبح ولم يبد ميتيا اهتماماً له إلا في مشهد واحد حين أبصره من ''منظاره'' فركض إليه صاعداً الجبل وحينما وصل إلى أعلاه رأى الشبح يتمشى في الساحة المحيطة في البيت عند قعر الوادي· أي علاقة تبادلية أرادها المخرج وما سبب هذا الهاجش أو الحقيقة المفترضة؟ أعتقد ان ما أراده المخرج حقاً هو عنصر ''التأجيل'' المستمر للكشف عن المغزي وهذا فعلاً ما خدم النص لأن المتلقي ظل مشدوداً لفكرة قدمت له بلا حلول حتى تأتي نهاية الفيلم فإذا به يفصح عن رؤية تبدو عادية، ما هي؟ قتال بالبنادق بين عابرين وإحدى العائلات في البراري فيأتي الابن راكباً على ظهر فرسه لينهي الصراع ويفجر الكوخ الذي احتمى به العابرون، يذكرنا هذا المشهد تماماً بأفلام ''الغرب الأميركي'' ولولا اللغة الروسية في الحوار لقلنا إن المشهد يبدو من فيلم أميركي· عند مجيء الفتاة الكازاخستانية ''جاليا'' اليه يبدو ''ميتيا'' لا مبالياً بل فلسفياً في رؤيته الكونية حيث يدور الحوار حول الخلق والوجود والعدم والرغبة· نعود إلى مشهد الرعاة المهاجرين بأبقارهم وحالة ''كولكا'' الذي دفن نفسه في الرمال، أليس هذا يذكرنا بمشاهد ''فرجينيا'' أما علاقة ''ميتيا'' بـ''كاتيا'' حبيبته التي تأتيه مودعة لأنها تزوجت من شخص آخر وحين ظلت مع ''ميتيا'' ليومين متتاليين في أبهى صور العلاقة الإنسانية ما هو إلا مشهد تراكمي لأحداث لا جواب أو تفسيراً لحدوثها·· لماذا جاءت؟ ولماذا غادرت؟ كونها جاءت متزوجة ولم تأت لتختبر حب ''ميتيا'' إليها· لقد حملت معها مفاجأة توديعه بلا سبب يدعو للمجيء، فهي لن تعود إليه لذا تذهب مع الأغنام على شاحنة قديمة إلى ما وراء الجبال· ضجيج في الليل ويأتي شرطي المنطقة البرية القاحلة ويخبرونه بحصول اطلاق ناري ولا يتوانى ميتيا أن ينقذ فتى يافعاً و''كاتيا'' من رصاصات اصابتهما إلا أن العمليات التي أجراها لا تحمل إلا البدائية وكأنه لم يكن طبيباً عندما ادخل اصبعه في بطن ''جاليا'' وأخرج الرصاصة تهب عاصفة ليلاً وتتطاير الشراشف البيضاء من الحبل في ساحة الكوخ الطيني، ويطير علم السارية الأبيض الذي يحمل صورة الهلال، فتبدو النهاية وشيكة وكأن العيادة الطبية فقدت صفتها، حيث حدث آت ينهي النص·· فجأة ينزل الشبح من أعلى الجبل·· هل فعلاً أن هذا الرجل الجبلي المصاب تحت الابط الأيسر بحروق شديدة هو ذاك الشبح·· يظل هذا السؤال مهماً·· وبعد أن يقدم له الشفاء يتقدم الرجل الجبلي الى ''ميتيا'' ويطعنه بسكين لا تتجاوز اصبع اليد، ليتحرك ماشياً نحو عتبة البيت ليسقط ميتاً وينغلق الباب لتبدو الشاشة سوداء وكأن الفيلم قد انتهى· بعد هذا المشهد الأسود، يظهر شباب راكضين بعربة يجرها حصان و''ميتيا'' داخلها وهو يرى أشباحاً متراقصة في عينيه ووجوهاً تطلق ألفاظاً من أفواهها معبرة عن احتياجها له· استخدم المخرج ''التأجيل'' المستمر في كشف العلاقة بين ميتيا والشبح وفي النهاية لم نر الشبح فقد وجدنا شخصاً جبلياً مصاباً، انها فكرة تهدم النص فلا تحيله إلى أفكاره الفلسفية التي رمز لها بكثير من المشاهد· مثل الفيلم بالإضافة إلى ''أوليج دولين'' البطل الكسندر الين الابن والكسندر الين الأب ورومان ماديانوف وايرينا بوتانايفا وبيتتر ستويين ويوري ستيبانوف ودانيلا ستويا نوفيتش ومن انتاج ميخائيل كالاتوز يشيفلي المخرج نفسه، مع سيرجي سنيزكين واندريه بوندارنيكو· وكتب بيتر ليتسيك والكسي ساموريا دوف سيناريو الفيلم وصوره بيتر دوكوفسكي وركب الصوت ايجور تيريخوف أما الموسيقى الرائعة فهي من تأليف اليكسي ايجي· حياة المخرج ميخائيل كالاتوز يشفيلي حافلة بالإبداع فهو كاتب سيناريو ومنتج وخريج المعهد العالي للسينما ''فجيك'' وكان والده أحد أهم مخرجي روسيا ويعد فيلمه ''أنا كوبا'' من كلاسيكيات السينما العالمية· شارك ميخائيل الابن في العديد من المهرجانات وحصد الجوائز ومن أفلامه ''الميكانيكي ''1981 و''المحبوب ''1992 و''تيفليس أحدب في أحلامي ''2001 و''ذرتان ''2001 و''الحقل البري ''2008 فيلمه الأخير·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©